أحمد بن مسفر العتيبي
:: متفاعل ::
- إنضم
- 11 يوليو 2012
- المشاركات
- 350
- التخصص
- أصول فقه
- المدينة
- قرن المنازل
- المذهب الفقهي
- الدليل
العقلُ الإنساني- عند البحث والإستدلال – يستخدمُ عدداً من الأقيسة مثل : القِياس التمثيلي ، وقيِاس التعليل ، وقِياس الشمول ، وقياس الَأولى ، والقِياس الإستقرائي .
وعِلمُ المنطقِ هو في أصله أقيسةٌ ، بعضُها مُختصرٌ وبعضها مُطوَّل .
وقد اعتنى به كثيرٌ من العلماءِ عندما ظهرت الفِرق الكلامية والفلسفية في العالم الإسلامي .
واليوم ظهرت مذاهبُ علمانيةٌ وليبراليةٌ ، يَستدلُّون بشبهات وقواعد منطقية ، ليدحضوا بها بعضَ المُتفق عليه في الشرع ، وقد تقرَّر عند الأصولييِّن أنه إذا استنبط أحدٌ معنىً من أصلٍ فأبطله ، فهو باطل .
والمقدِّمة المنطقية هي متنٌ عِلميٌّ تتضمَّن ضوابط وقوانين عقلية ، ومصطلحاتٍ تَجمعُ للمتعلِّم والمُتكلِّم أُصول التفكيرِ والحُكم على العلوم والمسائل .
وقد أوردها الإمام ابن قُدامة (ت: 620هـ) رحمه الله تعالى في دِّيباجة كتابه ” روضة الناضر” نقلاً عن الإمام الغزالي (ت: 505هـ) رحمه الله تعالى ، من كتابه ” المُستصفى ” بشيٍ من التهذيبِ والتنقيحِ في كثيرٍ من مُفرداتها وجُمَلها .
وقد قرَّر بعضُ أهلِ العِلم أن ابن قدامة ترَاجع عن مُقدِّمته المنطقية ، لكن وجودها اليوم بين الطُّلاب وفي كثيرٍ من الكتب جعل تأمُّلها والإفادة منها أو التعقيب عليها أمراً لا مَحيص عنه .
وكنتُ قد شرحتُ لبعض الطلبة هذه المقدِّمة أثناء إستدراكاتي على بعض مسائل أُصول الفِقه من باب تتميم الفوائد ، فبقيت في مكتبتي مطويَّةً سنين طويلة ، حتى عنَّ لي أن أُظهرها بشيٍ من التحرير حسب الطاقة . وبالله التوفيق :
(أ): مَحاسِن المُقدِّمة وعُيوبها :
اشتملت المُقدِّمة على ثروةٍ لفظيةٍ كان القصدُ من إيرادِها في كُتب الُأصول ، تنشيط عقل الطالب وتحفيز قُدرته الذِّهنية على تصوُّر الألفاظ والمعاني والمسائِل ، والعلاقة بينها طرداً وعكساً ، ولهذا قيل : ” الألفاظُ قوالبُ المعاني ” .
وهذا الأسلوبُ له أصلٌ في الشرع ، فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” من قال لأخيه تعال أُقامِرك فليتصدَّق ” متفق عليه ، ولا يُعرف حُكم القِّمار إلا بمعرفة حدِّ القِمار وصفتهِ وطبيعتهِ .
وعن سعيد بن المسيب بن حزن قال: “جاء جدِّي حَزَن إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ،فقال له: ” ما اسمك؟ ” قال: اسمي حَزن، قال: ” بل أنت سهل ” ، قال: لا أُغيِّر اسماً سمَّانيه أبي، فقال سعيد بن المسيب: فما زالت فينا الحزونة بعد ” أخرجه البخاري في الأدب المفرد بسندٍ صحيح .
وفي الحديث تنبيهٌ إلى ضرورة فهمِ الألفاظ والربط بين معانيها وتأثيرها على النفس .
• ومن فوائد المُقدِّمة المنطقية التي ظهرت لي :
1- التنبيه على عدم الإسراف في التعميم للأحكام والشواهد .
2- التنبيه على عدم العجلة في الإستنتاج .
3- ضرورة عدم الإعتماد على أيِّ مصدر قبل تمحيصه
4- الحذر من دخول العواطف في الأحكام .
5- مُجانبة الخلط بين التقدير والتقديس في الأحكام.
6- وجوب التفرقة بين النصِّ وتفسير النصِّ .
7- التروِّي عند المقارنة ، والعدل وعدم الكيل بمكيالين.
• كذلك يوجد في المُقدِّمة المنطقية قصورٌ وضعفٌ، لأنها عملٌ بشري ، وكُّل عملٍ من فعل الآدمي فهو إلى النقص أقرب ، خلا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فهم معصومون .
والأمثلة على ذلك كثيرة منها :
1- أنها لم تُروى بأسانيد موثوقة تطمئنُّ لها النفس عن أصحابها الأصلييِّن ، بل هي نتيجة ترجمات متفرقة لكتب أرسطو اليوناني ، وأرسطو نفسه هذَّبها من كلام أفلاطون ، وأفلاطون نقلها عن السُّوفسطائيين اليونانيين قبله .
وتلك الأوراق المنطقية تمَّت ترجمتها من اليونانية إلى العربية في زمن المأمون العباسي ، والذي قام بترجمتها هم الروافض مع بعض النصارى وبعض المُتفلسِفة من المسلمين .
2-من جوانب الضعف فيها أنها لا تَرتكزُ على نصوصٍ أو أخبارٍ أو آثارٍ صحيحة لعلماء ثقات ، بل هي منقولات ومقاييس مُبهمة لمجاهيل ، فصفتُها أنها قواعد بلا أساس ثابت محكم .
3- أنه لا يُمكن تطبيقها على نُصوص الشرع ، ولا على كلامِ العقلاء ، وعلى مروياتِ العُلماء لتمييِّز الطيِّب من الخبيث .
وعلى هذا الأساس فيكون الإنتفاعُ بها للمتلقِّي محصوراً بين النَّقدِ والجدل وفهم ِكُتب أهل الطوائف المختلفة .
(ب)موضوعات المُقدِّمة المنطقية :
اشتملت المُقدِّمة المنطقية على موضوعات رئيسة وموضوعات تابعة .
الموضوعات الرئيسة خمسة وهي : الحدُّ والبُرهانُ والتصوُّرُ والتصديقُ واليقينُ .
والموضوعات التابعة عشرون وهي : المفردات وأنواعها ، العلوم وأنواعها ، أقسام الحدِّ ، الماهية وصيغ السُّؤال ، الوصف الذاتي والوصف العارض ، شروط الحدِّ الحقيقي ، شروط الحد الرسمي ، شروط الحد اللفظي ، أنواع الدلالات ، أنواع البرُهان، المعاني المُدركة ، أنواع الألفاظ ، المعاني المتولِّدة من البُرهان ، طريقةُ الإعتراض على الحدِّ ، أسبابُ الخُروج عن البُرهان ، مَدارك اليقينِ ، بُرهان العِلة ، بُرهان الدَّلالة، الإستقراء .
(ج) : طريقةُ الإفادةِ من المُقدِّمة المنطقية :
هذه المُقدِّمة إذا دَرسها طالبُ العِلم على مُعلِّمٍ مُتمكنٍ في الأصلين : أُصول الدِّين وأُصول الفِقه ، فحتماً سيستفيدُ فوائد خاصة وفوائد عامة .
الفوائد الخاصة : ضبطُ قَواعد عِلمِ المنطقِ وأُصوله ، والفوائد العامة : معرفة طُّرق الردِّ على أهل البدع والضلال .
وأهم هذه القواعد : معرفة طُّرق الإستدلال وإقامة الحجة والإعتناء بفهمِ الأقوالِ وحقائقِها من خلال التعريف ووكيفية الحكم عليها .
وكيفية توظيف العقل لتحفيز الناس لتدبُّر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وللحذر من تقديمِ المعقول على المنقول ، ولمعرفة كيفية قصر الشي على بعض أفراده بعد إستيعاب تلك الأفراد ، وهذا لا يكون إلا بفهم المعاني فهماً صحيحاً من جميع وجوهها بلا تأويلٍ أو تدليسٍ
وللوقوف على طرائق دعاوى المُتكلِّمين والمصنِّفين والمتعالِمين ، وهذا في نفس الوقت يُساعدُ على معرفة عُقول ومناهج العلماء في مُصنَّفاتهم وطرائق البحث عندهم ، ومعرفة عقائدهم ومذاهبهم وما تنطوي عليه عِباراتهم ومسائلهم .
وهذه المسألة مُهمة أشار إليها القاضي أبو يعلى (ت: 458هـ) رحمه الله تعالى ، كما في كتابه ” العُدَّة ” ( 1/ 94) ، والفتوحي (ت:972هـ) رحمه الله تعالى ، في ” الكوكب المنير ” ( 1/85) ، وقد خالف الأشاعرةُ والمعتزلةُ فمنعوا ذلك كما في ” المغني ” لعبد الجبار المعتزلي (ت: 415هـ)و الباقلاني (ت: 402هـ ) في ” تمهيد الأوائل ” ، والذي يظهر أن قصدهم من ذلك تجويز التأويل والتفويض في النُّصوص ، نسأل الله السلامة .
ويُمكن الإفادة من المُقدِّمة في معرفة الأوصاف وعواقب الُأمور التي دلَّت عليها النُّصوص والقرائِن ، وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات ، والإفادة من قاعدة الاثنين أكثر من الواحد ، واستحالة كون الجسم في مكانين ، كما حقَّقه الإمام الغزالي (ت: 505هـ ) رحمه الله تعالى في ” المستصفى ” .
ويُمكن الإفادة من المُقدِّمة في معرفة النِّسبة بين الألفاظ والمعاني عند ضرب الأمثال ، مثل تقدُّم العِلم الفردي في الإدراك على العلم النسبي الإضافي في كل ذات من الذوات ، لأن الحُكم على الشي فرعٌ عن تصوره .
وكذلك فهم أن التصديق والتكذيب حُكمان من سائر الأحكام ، وأن الحُكم فرعٌ الإخبار عن شيٍ بصفة من الصفات ،فلا بُدَّ من تمييِّز الخبرِ بالصحة أو عدمِها بحسب الأحوالِ والقرائِن الصحيحة .
ولا يصحُّ أن يوُجدَ خبرٌ من مُفردةٍ واحدةٍ ، وبعد الإضافة يُمكنُ الحُكمُ على الجُملة بِحسب المقام .
ويمكن الإفادة منها بالتأمُّل في المُفردات البسيطةِ والمركَّبة لإستخراج المعاني والأمثلة مثل :
ميمونة بنتُ الحارثِ رضي الله عنها ، هي آخر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ الواحدَ نِصف سُّدس الاثني عشر ، ومثل : تركي بن عبد الله هو الجدُّ الثاني للملك عبد العزيز ، رحمهما الله تعالى ، ومثل : قبيلة جُرهم هي أوَّل من سكن مكة، وهكذا .
وفي المُقدِّمة تشبيهات جميلة يُمكن الإفادة منها في تعزيز القُوى الذِّهنية والمعاني الإدراكية ، كما في قول الغزالي رحمه الله تعالى : ” ومثاله في المحسوسات البيت المبنيُّ ، فإنه أمرٌ مُركَّب ، تارةً يختلُّ بسببٍ في هيئة التأليف ، بأن تكون الحيطانُ مُعوجَّة والسقف منخفضاً إلى موضعٍ قريبٍ من الأرض ، فيكون فاسداً من حيث الصورة ، وإن كانت الأحجارُ وسائرُ الآلاتِ صحيحةً ، وتارةً يكونُ البيتُ صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها ، ولكن يكون الخللُ من رخاوة في الجذوعِ وتشعُّب الِّلبنات .
هذا حُكم البرهان والحدِّ ، وكُّل أمرٍ مُركَّب ، فإن الخللَ إما أن يكون في هيئةِ تركيبهِ ، وإما أن يكونَ في الأصلِ الذي يرِدُ عليه التركيبُ “.
وفي المُقدِّمة أمثلةٌ طريفةٌ يُمكن الإفادةُ منها في مسألة حضور الذِّهن في دلائل الأخبار ، مثل :
” ولا يبَعدُ أن ينظر الناظرُ إلى بغلةٍ منتفخةُ البطنِ، فيظن أنها حاملٌ، فيقال له هل تعلم أن البغلة عاقرٌ ؟ فيقول : نعم ، فيقال : وهل تعلم أن هذه بغلةٌ ؟ فيقول : نعم ، فيقال : فكيف توهَّمتَ حملها ؟ ” .
والبرهان في المقدِّمة يحصلُ بمقدِّمتين صغرى وكبرى مثل :
العِلم نور ، وكُّل نورٍ يهدي صاحَبه .
ومن فوائد المُقدِّمة التي يُمكن الوقوفُ عليها :
معرفة أنواع الألفاظِ وأقسامُها ، هل هي مُفردات أم مُضافة ، وهل هي مُشتركة أم متُواطئة أم متُباينة أم مثترادفة ، وهذا المعنى يرِدُ كثيراً في نصوص الوحييِّن فيجبُ التفطُّن لهذه المسألة .
مثل لفظة الصلاة لها معاني مُتعدِّدة ، ولفظة الدُّعاء ، ولفظة الزكاة ، ولفظة القُرء ، ولفظة العَين ، وهكذا .
ويجب التفطُّن إلى أن بعض أرباب البدِّع استفادوا من هذه المسألة في تأويل أو نفي الصفات ، فيجب الحذر من دسائس أهلِ الفرقِ والمقالات في هذه الجزئية .
وفي المُقدِّمة ترويض للذِّهن على أنواع المعاني المدركة : المحسوسة والمتخيَّلة والمعقولة ، ويُلحق بهذه المسألة خِلاف العلماء حول محلِّ العقل : هل هو في الرأس أم في القلب ؟! .
وثمرةُ الخلِافِ في هذه المسألة تبرزُ عند من أُصيبَ في رأسة إصابةً بالغة ، هل يُحكم له بِديةٍ كاملةٍ ؟! ، والمسألةٌ طويلةٌ ، ليس هذا محلُّها . وقد أشار إلى المسألة الزركشي (ت: 794هـ)رحمه الله تعالى في ” البحر المحيط “( 1/ 90) فلتراجع.
وفي المُقدِّمة : تدريب للطالب على كيفية المُغالطة وكيفية الحذرِ منها ، لكن المؤلِّف لم يُطل النَّفس فيها ! .
وهي مِثلُ : تحريفِ حُجةِ الخَصم ، وإستخدام العاطفةِ والمشاعرِ في التأثيرِ على الخَصم أو المستمعِ ، أو الحديثِ عن الشخص بدلاً من تفنِّيدِ حُجته أو نقض كلامه ، وعلى هذا النحو يُمكن فهم المراد .
ويُمكنُ الإستغناءُ عنها بمراجعة أحكام الحِيَلِ في المُصنَّفات الفقهية مثل : مسألةِ من اجتمع عليه حقٌّ من حقوق الله كالنَّذرِ ، مع وقت وجوب الزكاة ، هل تسقط الزكاة عنه ؟! ، والراجح : أن دَّين اللهِ لا يمنعُ وجوب الزكاة ، وهو قولٌ عند الأحنافِ والمالكيةِ والأظهرُ عند الشافعية .
ويمكن مراجعة المسألةِ للتدرُّب على طريقة تفنِّيد الحجة في ” تبييِّن الحقائق ” للزيلعي ( 1/ 254) و” الفواكه الدواني ” للنفراوي( 2/ 755) و” المجموع ” للنووي ( 5/ 345 ) .
وفي المُقدِّمة تدريب للطالبِ على أصول الجدل والمناظرة والمنعِ والهدمِ وسدِّ المنعِ والنَّقضِ والمعارضة بالقلبِ أو بالمثل أو بالغير ، وفيها تنبيهٌ على قاعدةِ الإستدلال وإستسلافِ المُقدِّمات .
وراقمٌ هذه الأسطرِ ينصحُ بقراءةِ شرح حديث أبي سفيان رضي الله عنه مع هِرقل ملك الروم ، في صحيح البخاري / كتاب بدء الوحي ) فإنه مفيدٌ جِداً في هذه المسألة .
(د) : المصطلحات الواردة في المُقدِّمة المنطقية :
وردت في المُقدِّمة مصطلحات كثيرة بمعرفتها يمكن للطالب فهمُ بعض القضايا والمسائلِ التي طرحها المَناطقةُ .
وقد قمتُ بحصرِ المُصطلحات فبلغت مِئة مصطلحٍ تقريباً ، ويمكن الوقوفُ على المعاني الواردة فيها من خلال الدِّراسة أو إستشارة مُعلمٍ حاذقٍ بتلك المسائل .
وهذا مسرد لتلك المصطلحات على حسب ورودها في المُقدِّمة :
الحدُّ ،البُرهان ، إدراك الذوات المفردة ، إدراك نسبة المفردات ، التصوُّر ، التصديق ، العلم ، المعرفة ، البسيط ، المُركَّب ، الأوليُّ ، المطلوب ، الضروريات ، النظريات ، الحدُّ الحقيقي ، الحدُّ الرسمي ، الحدُّ اللفظي ، الماهية ، الكيفية ، الذاتي ، الوصف اللازم ، الوصف العارض ، الأوصاف الذاتية ، الجِنس ، الفصل ، الجوهر ، الموجود ، النامي ، غير النامي ، الموجود ، النقيض ، المُعارضة ، المُقدِّمات ، التركيب ، المطابقة ، التضمُّن ، الإلتزام ، المتُرادف ، المتباين ، المتواطىء ، المشترك ، المختار ، الإدراك ، المعاني المحسوسة ، المعاني المُتخيَّلة ، المعاني المعقولة ، العقل ، الفِكرة ، التأليف بين المفردات ، الحكم ، المحكوم عليه .
القضية ، القضية المُطلقة ، القضية النافية ،القضية العامة القضية المُهملة ، النتيجة ، المُقدِّمة المظنونة ، المُقدِّمة المُسلَّمة ، القياس ، المبتدأ ، الخبر ، العلة ، المُقدِّمة الأولى ، المُقدِّمة الثانية ، التلازم ، وجود الشرط والمشروط ، إنتفاء الشرط والمشروط ، ثبُوتُ الأعمِّ ، إنتفاءُ الأعمِّ ، ثُبوتُ الأخصِّ ، إنتفاءُ الأخصِّ ، لزومُ الوجود بالوجود ، لزوم الإنتفاء بالإنتفاء ، السَّبرُ والتقسيم ، القصورُ في العِلم ، إهمالُ إحدى المُقدِّمتين ، التلبيسُ على الخَصم ، إنقطاعُ المُطالبة ، إقامةُ الدليل ، اليقين ، الظن ، درجات اليقين والظن ، الأوليات ، المشاهد الباطنة ، عوارض المحسوسات ، المحسوسات الظاهرة ، أسباب الغلط ، التجريبيات ، اطِّراد العادات ، المتواترات ، الوهميات ، المشهورات ، المطلوب بالنظر ، خروج القضية على القضيتين ، صدق المُخبِر ، اعتقاد الخَلق ، المجهول ، فهم المفردات ، الاستدلال بالعِلة على المعلول ، الاستدلال بالمعلول على العلِة ، الاستدلال بأحد المعلولين ، الاستدلال بالاستقراء .
(ه) تنبيهات وإستدراكات منطقية مهمة :
تقدم في أول هذا المقال أن مجمل القواعد المنطقية مستقاة من ترتيب أرسطو الذي يُدعى بالمُعلِّم الثاني ، بعد شيخه أفلاطون المُعلِّم الأول .
وقد اشتمل ذلك المنطق على ملاحظات وإستدراكات ، بعضها صحَّحهُ المسلمون ، والبعضُ الآخرُ لم يًصحَّح ، فدخل منه بلاٌء عريضٌ لا يُمكنُ وصفُه .
فيجب على الطالب الوقوف عليها حتى يكون فهمه صحيحاً غير منقوص :
1-أشار أرسطو الى أنواع القياس الاستقرائي والجدلي والخطابي، لكنه اعتنى بالقياس الكُّلي الشُّمولي الصُّوري ، وقد سمَّاه القياس البرهاني .
طريقة ارسطو في استخدام هذا القياس تتمثل في : الاستقراء من الجُزء إلى الكل ، ثم جمع الجزئيات للظاهرة الواحدة وتحليلها وتمحيصها ومقارنتها ، ثم الاستنتاج منها وبذلك يخرج لنا النتيجة أو القياس الكلي البرهاني .
وقد أشار أرسطو إلى قاعدة مهمة في كثير من كتبه وهي : ضرورة ممارسة القياس الإستقرائي مع الصغار وأحياناً مع العوام ، أما القياس الصُّوري الإستنباطي فيكون مع المختصين فقط .
وهذه مغالطة وقع فيها أرسطو ونقلها عنه المُتفلسفة من المسلمين والمستعربين ، وهي أن جميع أنواع الأقيسة فطرية في البشر لا تحتاج إلى قانون لتنظيمها بين أصناف الناس في العادة لسببين ، الأول : أن أنواع القياس مُرتبطة ببعضها ، لأن العلاقة بين القياس الصُّوري والإستقرائي علَاقة فرعٍ بأصلٍ ونتيجةٍ بمقدمةٍ ، فالصُّوري فرعٌ من الإستقرائي ونتيجة لمقدمته .
الثاني : أن موضوع الفِكرة أو البحث هي التي تُحدِّد نوع القياس ، فالعمرُ أو المهنةُ أو جِنسُ الإنسانِ أو صِّفتهُ لا عَلاقة لها بتحديد الأقيسة .
2-أرسطو يُدلِّسُ ويَخلطُ لأسبابٍ مذهبيةٍ وعلمية بين القياس الإستقرائي والصُّوري ، فالأول هو من الأقيسة الجزئية التي تقومُ عليها كُّل العلوم ، والثاني نتيجةٌ من نتائج القياس الجزئي .
وقد زعم أرسطو أن القياس الصُّوري هو من المُقدِّمات الكلية ، لأنه يعتقد أن الكليات نتيجة للقياس الجُزئي ، وهذا خطأٌ أقرَّ به حتى عُلماء الغربِ اليوم في جامعاتهم وبحوثهم .
والصحيح أن القياسَ يجبُ أن يكون بمعرفة الكُليِّ والجزئيِّ معاً ، لا تقديم أحدهما على الآخر في الذِّهن كما يُقرِّره أرسطو في مصنفاته .
والقاعدة المشهورة التي يُردِّدُها المناطقة : ” لا عِلم إلَّا بالكليات ” قاعدة مَغلوطة تلقَّفها المناطقةُ من التأسيس السابق دون تمحيص وتهذيب لمعناها ومغزاها ، فَضَّل بسببها فِئامٌ كثيرةٌ من أهل المذاهب .
فالصحيح العلِمُ بالجزء ثم العلم بالكُّل . ولهذا نجد في القرآن أدلةً كثيرةً على تقديم الجُزء على الكُّل ، كقول الله تعالى : ” عالِمُ الغيب لا يعزب عنهُ مِثقالُ ذرةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبر” ( سبأ : 3 ) ، وقوله سبحانه : ” وما تكونُ في شأنٍ وما تتلو منهُ مِن قُرآن ٍولا تعملون من عملٍ إلا كُنَّا عليكم شهوداً ” ( يونس:61 ).
فربُّنا سبحانه يخاطب الخلق أنه يعلم ما يعملونه وما يُشاهدونه ، سواءٌ كان محتقراً عندهم أو عظيماً في عُيونهم وقلوبهم .
ومما يؤكد ما سبق أن صناعة المهن مثلا تبدأ بجزء صغير ثم تكبرُ رويداً رويداً حتى تكتملَ ، كالبِناء والخِياطة وحفرِ البئر وسقي الزرع وكَنس القُمامة ، ونحوها من المِهن والمشغولات .
3- أرسطو لا يجيز الإستقراء إلا إذا كان بحس وحواس لأنه يعتقد أنه من الكليات ، وأنه أبين وأكثر إقناعاً . وهذا الحكم إفتئاتٌ على أنواع القياس الأخرى وتحجيم وإستصغار لها . والصحيح أن الإستقراء وغيره من أنواع الأقيسة تصح إذا كانت بتأمُّل ورويَّة ونظرٍ ثاقب .
4- أرسطو جعل المِعيار بين الحق والباطل هو إتقان علم الجدل دراسةً وفهماً ، بغضِّ النظر عن الحقيقة من وراء ذلك ، وسببُ ذلك أنه يعتقدُ أنَّ الجدل علِمٌ ظنِّي لا يُوصلُ إلى النتيجة الصحيحة ، وكان يُسمِّيه مَنطقُ الإحتمال .
وهذا التقعيد من أرسطو مُخالفةٌ لشيخة أفلاطون الذي كان يعتني بالجدل وينظرُ له نظرةً يقينية عالية، وهو عنده من الضروريات للوصول إلى الحقيقة ، وكان يصفهُ بأنه الرافع للعقلِ من المحسوس إلى المعقول .
5- أرسطو خالفَ تأسيسَ قواعد القياسِ التي قعَّدها أفلاطون لتلاميذه وطُّلابه التي رويت عنه واشتهرت ، والتي كانت تُسَّمى القِسمة الثُّنائية الأفلاطونية وهي :أن الجدل نوعان صاعدٌ ونازلٌ .
فالصاعد يبدأٌ من الإحساسِ إلى الظنِّ، إلى العلم الاستدلالي ، الى المعقول ، الى أن يصل إلى العِلم بالكُليِّ ، والنازلُ ينزل من أرفعِ الكليات الى أدناها ، بتحليلها وترتيبها الى أجناس وأنواع .
6-أرسطو في مُقدِّماتِه للقياس الصُّوري أو البرهاني كما يُسمِّيه ، استفاد من فلسفة السُّوفسطائيين الذين سبقوهُ في تعليم الناس التلاعب بالألفاظ ، واستخدام المغالطات لإفحام الخصوم ، ولهذا سَمَّى المُحقِّقون هذا القياس بالقياس الصُّوري ، فهو شكلي لا مضمون حقيقي له ولا لقيمتهِ في الميزان العلمي .
وسبب ذلك أنه اعتنى بمعرفة العِلةٍ أولاً وآخراً ، ووصفها بالأمر الكُليِّ، وأغفل ما عداها من قضايا حالية أو كيفية ووصفها بالأمر الجزئي ، ففي ميزانه يكون البرهانُ الأقوى هو الكُلي .
وهذا التدليس المُتعمَّد – الذي أبان عنه باحثون غربيُّون اليوم – من أرسطو القصد منه جعل الجزئيات من نتائج أقيسة الكليات ، والصحيح العكس كما تشهد به العقولُ الصحيحةُ والفِطرُ المستقيمة .
ومثال ذلك الزرعُ اليابسُ الذي يُضربُ به المثل في القرآن في هَوان الدُّنيا وسُرعة إنقضائها ، أوَّله حبةٌ فماءٌ يسقيها ، ثم خُضرةٌ وبهجةٌ ، ثم يبُسٌ وتكسُّر وتفتُّت وزوال.
فهذا المثَلُ الكُّلي جاء من القِياس الجُزئيُّ الذي يعرفه أهلُ الألباب المدركة الواعية .
7-الأقيسة التي يتشدَّق بها المناطقة ويتكلَّفون لها من عهد أرسطو الوثني ، ثم أبي نصر الفارابي (ت: 339هـ) المُتفلسِف ، مروراً بابن سينا(ت: 428هـ) الباطني المتمنطق ، ثم ابن رشد (ت: 595هـ ) المُقلِّد، ثم أبي جعفر الطُّوسي (ت: 672هـ) الرافضي ، هي في الأصلِ لا وجود لها في الأذهان إنَّما وجودها في الأعيان ، فلا يمكن ضَبطُها ولا حَصرُها ولا تحديدُ معالمها ، وهذا يؤُكد زيفها وكونها مُهلهلَة لا ثباتَ لها في القلب ولا في العقل ، فكيف إذن يتم تعميمُها وجعلها أصلاً للنظر والتفكير .
ولو فتشَ عَاقلٌ فَطنٌ عن أسانيد هذه الأقيسة – إن وجدت – لوجدها منقولةً عن المتُفلسفة عن الصابئة عن الوثنييِّن عن المشركين ، الذين فاق شِّركهم شِّرك العرب ، عياذاً بالله تعالى.
8-الله تبارك وتعالى وهبَ البشر الحواس الثلاثة الرئيسة للمعرفة والعلم والإدراك واليقين ، ويستوي في هذا الكبيرُ والصغير والذكيُّ والأحمق والقادرُ والأخرق ، لكن تَلك الحواس تَضعفُ أو تتوسطُ أو تَقوى من فئةٍ دون أخرى . ويُشترطُ للإفادة من الحواس الثلاثة الرئيسة فهم اللُّغة ومُخالطة الناس ، والتروِّي والتعقُّل في الأقوال والأفعال . وقد ثبتَ أن رجلاً كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يُخدع في البيوع ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إذا بايعتَ فَقل لا خِلابة “. متفق عليه .
ولما جاءه رجلٌ أقرَّ على نفسه بالزنِّى ، قال له : ” أبِك جُنونٌ ؟ ، فقال : لا ، فأمرَ بِرجمهِ “. متفق عليه .
9- اشتراط مُقدِّمتينِ للبُرهانِ بصورةٍ مطلقةٍ غيرُ صحيح ، فقد ثبتَ بالمعقولِ والمنقولِ وجود براهينَ بخمسِ مقُدِّمات مَنطقية وربما أكثر ، مثل حديث جبريل عليه السلام المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان وأشراط الساعة ، ومثل حديث النجاشي مَلِك الحبشة رضي الله عنه ، مع رجال قريش ، ونحوها من الأحاديث الطويلة ، وهي صحيحة ومشهورة .
10- لو أن الطالبَ أطال النظرَ في تفسير القرآن المجيد وعلوم العقائد وعلوم العربية ، لكفاهُ ذلك عن كثيرٍ من كُتب المنطق والجدل . والأولى والأسلم للمُطالعِ والطالبِ والباحثِ ، أن تكون مُذاكرتُه لهذا العلمِ بقدر الحاجة ، فما أسكر كثيرهُ فَقليلهُ حرام .
(و ) : أهم المُصنَّفات لفهم المُقِّدمة والمنطِّق :
من أراد فهم المُقدِّمةِ والمنطقِ فهماً صحيحاً مُتقناً، فعليه بقرآءة المُقدِّمة المنطقية من كتاب ” روضة الناضر” لابن قدامة أو من ” المستصفى ” للغزالي ، رحمهما الله تعالى ، بشرط أن يكون ذلك على مُعلمٍ أو شيخ ٍمُتقن ، وعنده حظٌّ من عِلم التوحيد والسُّنة النبوية ، على جادَّة السلف ، لا على جادَّة الخَلَف ، ثم قرآءة سُّلم المنطق للأخضري(ت: 983هـ) رحمه الله تعالى ، مع شرحه للدَّمنهوري (ت: 1192هـ) رحمه الله تعالى، ثم نُزهة الخاطِر لابن بدران (ت: 1346هـ) رحمه الله تعالى في أُصول الفقه ، ليجمع بين المنطقِ والُأصولِ في ذِّهنه ،وليعرفَ الفُروق الجوهرية بين الفنيَّين وقواعدهما ، ثم طُّرق الإستدلال ومُقدِّماتها ليعقوب الباحسين ، ثم ” الردُّ على المنطقييِّن ” لابن تيمية (ت: 728هـ) رحمه الله تعالى .
فإذا أتقن هذه المُصَّنفات الخمسة ، فسيكونُ جبلاً في فهم المُقدِّمة والمنطقِ والأُصولِ ، إن شاء الله تعالى.
وفي نهاية المقال أودُّ أن أؤكِّد على أن طالب العلم والباحث والناقد ، هم أولى الناس بتلمُّسِ معالم هذا الفنِّ، لأن المسائل الصحيحة منه تُحصِّنهُ من الخطأ في إنتقاء الأدلة ، فليحذروا من إنزال كلام العلماء منزلة النص ، أو تقديس الموروث العلمي الذي يفتقر إلى دليل صحيح صريح ،وعدم تحقيق المناط ، وتقديم النتيجة على البرهانِ ، لأن ذلك يُفضي إلى الدَّور . ويجب عليهم التفريق بين الدليل الأصلي والتبعي ،والتفريق بين الأدلة والإعتراضات وضرورة تنقيح العِللِ والأوصافِ ، والله الهادي .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات .
وعِلمُ المنطقِ هو في أصله أقيسةٌ ، بعضُها مُختصرٌ وبعضها مُطوَّل .
وقد اعتنى به كثيرٌ من العلماءِ عندما ظهرت الفِرق الكلامية والفلسفية في العالم الإسلامي .
واليوم ظهرت مذاهبُ علمانيةٌ وليبراليةٌ ، يَستدلُّون بشبهات وقواعد منطقية ، ليدحضوا بها بعضَ المُتفق عليه في الشرع ، وقد تقرَّر عند الأصولييِّن أنه إذا استنبط أحدٌ معنىً من أصلٍ فأبطله ، فهو باطل .
والمقدِّمة المنطقية هي متنٌ عِلميٌّ تتضمَّن ضوابط وقوانين عقلية ، ومصطلحاتٍ تَجمعُ للمتعلِّم والمُتكلِّم أُصول التفكيرِ والحُكم على العلوم والمسائل .
وقد أوردها الإمام ابن قُدامة (ت: 620هـ) رحمه الله تعالى في دِّيباجة كتابه ” روضة الناضر” نقلاً عن الإمام الغزالي (ت: 505هـ) رحمه الله تعالى ، من كتابه ” المُستصفى ” بشيٍ من التهذيبِ والتنقيحِ في كثيرٍ من مُفرداتها وجُمَلها .
وقد قرَّر بعضُ أهلِ العِلم أن ابن قدامة ترَاجع عن مُقدِّمته المنطقية ، لكن وجودها اليوم بين الطُّلاب وفي كثيرٍ من الكتب جعل تأمُّلها والإفادة منها أو التعقيب عليها أمراً لا مَحيص عنه .
وكنتُ قد شرحتُ لبعض الطلبة هذه المقدِّمة أثناء إستدراكاتي على بعض مسائل أُصول الفِقه من باب تتميم الفوائد ، فبقيت في مكتبتي مطويَّةً سنين طويلة ، حتى عنَّ لي أن أُظهرها بشيٍ من التحرير حسب الطاقة . وبالله التوفيق :
(أ): مَحاسِن المُقدِّمة وعُيوبها :
اشتملت المُقدِّمة على ثروةٍ لفظيةٍ كان القصدُ من إيرادِها في كُتب الُأصول ، تنشيط عقل الطالب وتحفيز قُدرته الذِّهنية على تصوُّر الألفاظ والمعاني والمسائِل ، والعلاقة بينها طرداً وعكساً ، ولهذا قيل : ” الألفاظُ قوالبُ المعاني ” .
وهذا الأسلوبُ له أصلٌ في الشرع ، فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” من قال لأخيه تعال أُقامِرك فليتصدَّق ” متفق عليه ، ولا يُعرف حُكم القِّمار إلا بمعرفة حدِّ القِمار وصفتهِ وطبيعتهِ .
وعن سعيد بن المسيب بن حزن قال: “جاء جدِّي حَزَن إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ،فقال له: ” ما اسمك؟ ” قال: اسمي حَزن، قال: ” بل أنت سهل ” ، قال: لا أُغيِّر اسماً سمَّانيه أبي، فقال سعيد بن المسيب: فما زالت فينا الحزونة بعد ” أخرجه البخاري في الأدب المفرد بسندٍ صحيح .
وفي الحديث تنبيهٌ إلى ضرورة فهمِ الألفاظ والربط بين معانيها وتأثيرها على النفس .
• ومن فوائد المُقدِّمة المنطقية التي ظهرت لي :
1- التنبيه على عدم الإسراف في التعميم للأحكام والشواهد .
2- التنبيه على عدم العجلة في الإستنتاج .
3- ضرورة عدم الإعتماد على أيِّ مصدر قبل تمحيصه
4- الحذر من دخول العواطف في الأحكام .
5- مُجانبة الخلط بين التقدير والتقديس في الأحكام.
6- وجوب التفرقة بين النصِّ وتفسير النصِّ .
7- التروِّي عند المقارنة ، والعدل وعدم الكيل بمكيالين.
• كذلك يوجد في المُقدِّمة المنطقية قصورٌ وضعفٌ، لأنها عملٌ بشري ، وكُّل عملٍ من فعل الآدمي فهو إلى النقص أقرب ، خلا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فهم معصومون .
والأمثلة على ذلك كثيرة منها :
1- أنها لم تُروى بأسانيد موثوقة تطمئنُّ لها النفس عن أصحابها الأصلييِّن ، بل هي نتيجة ترجمات متفرقة لكتب أرسطو اليوناني ، وأرسطو نفسه هذَّبها من كلام أفلاطون ، وأفلاطون نقلها عن السُّوفسطائيين اليونانيين قبله .
وتلك الأوراق المنطقية تمَّت ترجمتها من اليونانية إلى العربية في زمن المأمون العباسي ، والذي قام بترجمتها هم الروافض مع بعض النصارى وبعض المُتفلسِفة من المسلمين .
2-من جوانب الضعف فيها أنها لا تَرتكزُ على نصوصٍ أو أخبارٍ أو آثارٍ صحيحة لعلماء ثقات ، بل هي منقولات ومقاييس مُبهمة لمجاهيل ، فصفتُها أنها قواعد بلا أساس ثابت محكم .
3- أنه لا يُمكن تطبيقها على نُصوص الشرع ، ولا على كلامِ العقلاء ، وعلى مروياتِ العُلماء لتمييِّز الطيِّب من الخبيث .
وعلى هذا الأساس فيكون الإنتفاعُ بها للمتلقِّي محصوراً بين النَّقدِ والجدل وفهم ِكُتب أهل الطوائف المختلفة .
(ب)موضوعات المُقدِّمة المنطقية :
اشتملت المُقدِّمة المنطقية على موضوعات رئيسة وموضوعات تابعة .
الموضوعات الرئيسة خمسة وهي : الحدُّ والبُرهانُ والتصوُّرُ والتصديقُ واليقينُ .
والموضوعات التابعة عشرون وهي : المفردات وأنواعها ، العلوم وأنواعها ، أقسام الحدِّ ، الماهية وصيغ السُّؤال ، الوصف الذاتي والوصف العارض ، شروط الحدِّ الحقيقي ، شروط الحد الرسمي ، شروط الحد اللفظي ، أنواع الدلالات ، أنواع البرُهان، المعاني المُدركة ، أنواع الألفاظ ، المعاني المتولِّدة من البُرهان ، طريقةُ الإعتراض على الحدِّ ، أسبابُ الخُروج عن البُرهان ، مَدارك اليقينِ ، بُرهان العِلة ، بُرهان الدَّلالة، الإستقراء .
(ج) : طريقةُ الإفادةِ من المُقدِّمة المنطقية :
هذه المُقدِّمة إذا دَرسها طالبُ العِلم على مُعلِّمٍ مُتمكنٍ في الأصلين : أُصول الدِّين وأُصول الفِقه ، فحتماً سيستفيدُ فوائد خاصة وفوائد عامة .
الفوائد الخاصة : ضبطُ قَواعد عِلمِ المنطقِ وأُصوله ، والفوائد العامة : معرفة طُّرق الردِّ على أهل البدع والضلال .
وأهم هذه القواعد : معرفة طُّرق الإستدلال وإقامة الحجة والإعتناء بفهمِ الأقوالِ وحقائقِها من خلال التعريف ووكيفية الحكم عليها .
وكيفية توظيف العقل لتحفيز الناس لتدبُّر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وللحذر من تقديمِ المعقول على المنقول ، ولمعرفة كيفية قصر الشي على بعض أفراده بعد إستيعاب تلك الأفراد ، وهذا لا يكون إلا بفهم المعاني فهماً صحيحاً من جميع وجوهها بلا تأويلٍ أو تدليسٍ
وللوقوف على طرائق دعاوى المُتكلِّمين والمصنِّفين والمتعالِمين ، وهذا في نفس الوقت يُساعدُ على معرفة عُقول ومناهج العلماء في مُصنَّفاتهم وطرائق البحث عندهم ، ومعرفة عقائدهم ومذاهبهم وما تنطوي عليه عِباراتهم ومسائلهم .
وهذه المسألة مُهمة أشار إليها القاضي أبو يعلى (ت: 458هـ) رحمه الله تعالى ، كما في كتابه ” العُدَّة ” ( 1/ 94) ، والفتوحي (ت:972هـ) رحمه الله تعالى ، في ” الكوكب المنير ” ( 1/85) ، وقد خالف الأشاعرةُ والمعتزلةُ فمنعوا ذلك كما في ” المغني ” لعبد الجبار المعتزلي (ت: 415هـ)و الباقلاني (ت: 402هـ ) في ” تمهيد الأوائل ” ، والذي يظهر أن قصدهم من ذلك تجويز التأويل والتفويض في النُّصوص ، نسأل الله السلامة .
ويُمكن الإفادة من المُقدِّمة في معرفة الأوصاف وعواقب الُأمور التي دلَّت عليها النُّصوص والقرائِن ، وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات ، والإفادة من قاعدة الاثنين أكثر من الواحد ، واستحالة كون الجسم في مكانين ، كما حقَّقه الإمام الغزالي (ت: 505هـ ) رحمه الله تعالى في ” المستصفى ” .
ويُمكن الإفادة من المُقدِّمة في معرفة النِّسبة بين الألفاظ والمعاني عند ضرب الأمثال ، مثل تقدُّم العِلم الفردي في الإدراك على العلم النسبي الإضافي في كل ذات من الذوات ، لأن الحُكم على الشي فرعٌ عن تصوره .
وكذلك فهم أن التصديق والتكذيب حُكمان من سائر الأحكام ، وأن الحُكم فرعٌ الإخبار عن شيٍ بصفة من الصفات ،فلا بُدَّ من تمييِّز الخبرِ بالصحة أو عدمِها بحسب الأحوالِ والقرائِن الصحيحة .
ولا يصحُّ أن يوُجدَ خبرٌ من مُفردةٍ واحدةٍ ، وبعد الإضافة يُمكنُ الحُكمُ على الجُملة بِحسب المقام .
ويمكن الإفادة منها بالتأمُّل في المُفردات البسيطةِ والمركَّبة لإستخراج المعاني والأمثلة مثل :
ميمونة بنتُ الحارثِ رضي الله عنها ، هي آخر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ الواحدَ نِصف سُّدس الاثني عشر ، ومثل : تركي بن عبد الله هو الجدُّ الثاني للملك عبد العزيز ، رحمهما الله تعالى ، ومثل : قبيلة جُرهم هي أوَّل من سكن مكة، وهكذا .
وفي المُقدِّمة تشبيهات جميلة يُمكن الإفادة منها في تعزيز القُوى الذِّهنية والمعاني الإدراكية ، كما في قول الغزالي رحمه الله تعالى : ” ومثاله في المحسوسات البيت المبنيُّ ، فإنه أمرٌ مُركَّب ، تارةً يختلُّ بسببٍ في هيئة التأليف ، بأن تكون الحيطانُ مُعوجَّة والسقف منخفضاً إلى موضعٍ قريبٍ من الأرض ، فيكون فاسداً من حيث الصورة ، وإن كانت الأحجارُ وسائرُ الآلاتِ صحيحةً ، وتارةً يكونُ البيتُ صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها ، ولكن يكون الخللُ من رخاوة في الجذوعِ وتشعُّب الِّلبنات .
هذا حُكم البرهان والحدِّ ، وكُّل أمرٍ مُركَّب ، فإن الخللَ إما أن يكون في هيئةِ تركيبهِ ، وإما أن يكونَ في الأصلِ الذي يرِدُ عليه التركيبُ “.
وفي المُقدِّمة أمثلةٌ طريفةٌ يُمكن الإفادةُ منها في مسألة حضور الذِّهن في دلائل الأخبار ، مثل :
” ولا يبَعدُ أن ينظر الناظرُ إلى بغلةٍ منتفخةُ البطنِ، فيظن أنها حاملٌ، فيقال له هل تعلم أن البغلة عاقرٌ ؟ فيقول : نعم ، فيقال : وهل تعلم أن هذه بغلةٌ ؟ فيقول : نعم ، فيقال : فكيف توهَّمتَ حملها ؟ ” .
والبرهان في المقدِّمة يحصلُ بمقدِّمتين صغرى وكبرى مثل :
العِلم نور ، وكُّل نورٍ يهدي صاحَبه .
ومن فوائد المُقدِّمة التي يُمكن الوقوفُ عليها :
معرفة أنواع الألفاظِ وأقسامُها ، هل هي مُفردات أم مُضافة ، وهل هي مُشتركة أم متُواطئة أم متُباينة أم مثترادفة ، وهذا المعنى يرِدُ كثيراً في نصوص الوحييِّن فيجبُ التفطُّن لهذه المسألة .
مثل لفظة الصلاة لها معاني مُتعدِّدة ، ولفظة الدُّعاء ، ولفظة الزكاة ، ولفظة القُرء ، ولفظة العَين ، وهكذا .
ويجب التفطُّن إلى أن بعض أرباب البدِّع استفادوا من هذه المسألة في تأويل أو نفي الصفات ، فيجب الحذر من دسائس أهلِ الفرقِ والمقالات في هذه الجزئية .
وفي المُقدِّمة ترويض للذِّهن على أنواع المعاني المدركة : المحسوسة والمتخيَّلة والمعقولة ، ويُلحق بهذه المسألة خِلاف العلماء حول محلِّ العقل : هل هو في الرأس أم في القلب ؟! .
وثمرةُ الخلِافِ في هذه المسألة تبرزُ عند من أُصيبَ في رأسة إصابةً بالغة ، هل يُحكم له بِديةٍ كاملةٍ ؟! ، والمسألةٌ طويلةٌ ، ليس هذا محلُّها . وقد أشار إلى المسألة الزركشي (ت: 794هـ)رحمه الله تعالى في ” البحر المحيط “( 1/ 90) فلتراجع.
وفي المُقدِّمة : تدريب للطالب على كيفية المُغالطة وكيفية الحذرِ منها ، لكن المؤلِّف لم يُطل النَّفس فيها ! .
وهي مِثلُ : تحريفِ حُجةِ الخَصم ، وإستخدام العاطفةِ والمشاعرِ في التأثيرِ على الخَصم أو المستمعِ ، أو الحديثِ عن الشخص بدلاً من تفنِّيدِ حُجته أو نقض كلامه ، وعلى هذا النحو يُمكن فهم المراد .
ويُمكنُ الإستغناءُ عنها بمراجعة أحكام الحِيَلِ في المُصنَّفات الفقهية مثل : مسألةِ من اجتمع عليه حقٌّ من حقوق الله كالنَّذرِ ، مع وقت وجوب الزكاة ، هل تسقط الزكاة عنه ؟! ، والراجح : أن دَّين اللهِ لا يمنعُ وجوب الزكاة ، وهو قولٌ عند الأحنافِ والمالكيةِ والأظهرُ عند الشافعية .
ويمكن مراجعة المسألةِ للتدرُّب على طريقة تفنِّيد الحجة في ” تبييِّن الحقائق ” للزيلعي ( 1/ 254) و” الفواكه الدواني ” للنفراوي( 2/ 755) و” المجموع ” للنووي ( 5/ 345 ) .
وفي المُقدِّمة تدريب للطالبِ على أصول الجدل والمناظرة والمنعِ والهدمِ وسدِّ المنعِ والنَّقضِ والمعارضة بالقلبِ أو بالمثل أو بالغير ، وفيها تنبيهٌ على قاعدةِ الإستدلال وإستسلافِ المُقدِّمات .
وراقمٌ هذه الأسطرِ ينصحُ بقراءةِ شرح حديث أبي سفيان رضي الله عنه مع هِرقل ملك الروم ، في صحيح البخاري / كتاب بدء الوحي ) فإنه مفيدٌ جِداً في هذه المسألة .
(د) : المصطلحات الواردة في المُقدِّمة المنطقية :
وردت في المُقدِّمة مصطلحات كثيرة بمعرفتها يمكن للطالب فهمُ بعض القضايا والمسائلِ التي طرحها المَناطقةُ .
وقد قمتُ بحصرِ المُصطلحات فبلغت مِئة مصطلحٍ تقريباً ، ويمكن الوقوفُ على المعاني الواردة فيها من خلال الدِّراسة أو إستشارة مُعلمٍ حاذقٍ بتلك المسائل .
وهذا مسرد لتلك المصطلحات على حسب ورودها في المُقدِّمة :
الحدُّ ،البُرهان ، إدراك الذوات المفردة ، إدراك نسبة المفردات ، التصوُّر ، التصديق ، العلم ، المعرفة ، البسيط ، المُركَّب ، الأوليُّ ، المطلوب ، الضروريات ، النظريات ، الحدُّ الحقيقي ، الحدُّ الرسمي ، الحدُّ اللفظي ، الماهية ، الكيفية ، الذاتي ، الوصف اللازم ، الوصف العارض ، الأوصاف الذاتية ، الجِنس ، الفصل ، الجوهر ، الموجود ، النامي ، غير النامي ، الموجود ، النقيض ، المُعارضة ، المُقدِّمات ، التركيب ، المطابقة ، التضمُّن ، الإلتزام ، المتُرادف ، المتباين ، المتواطىء ، المشترك ، المختار ، الإدراك ، المعاني المحسوسة ، المعاني المُتخيَّلة ، المعاني المعقولة ، العقل ، الفِكرة ، التأليف بين المفردات ، الحكم ، المحكوم عليه .
القضية ، القضية المُطلقة ، القضية النافية ،القضية العامة القضية المُهملة ، النتيجة ، المُقدِّمة المظنونة ، المُقدِّمة المُسلَّمة ، القياس ، المبتدأ ، الخبر ، العلة ، المُقدِّمة الأولى ، المُقدِّمة الثانية ، التلازم ، وجود الشرط والمشروط ، إنتفاء الشرط والمشروط ، ثبُوتُ الأعمِّ ، إنتفاءُ الأعمِّ ، ثُبوتُ الأخصِّ ، إنتفاءُ الأخصِّ ، لزومُ الوجود بالوجود ، لزوم الإنتفاء بالإنتفاء ، السَّبرُ والتقسيم ، القصورُ في العِلم ، إهمالُ إحدى المُقدِّمتين ، التلبيسُ على الخَصم ، إنقطاعُ المُطالبة ، إقامةُ الدليل ، اليقين ، الظن ، درجات اليقين والظن ، الأوليات ، المشاهد الباطنة ، عوارض المحسوسات ، المحسوسات الظاهرة ، أسباب الغلط ، التجريبيات ، اطِّراد العادات ، المتواترات ، الوهميات ، المشهورات ، المطلوب بالنظر ، خروج القضية على القضيتين ، صدق المُخبِر ، اعتقاد الخَلق ، المجهول ، فهم المفردات ، الاستدلال بالعِلة على المعلول ، الاستدلال بالمعلول على العلِة ، الاستدلال بأحد المعلولين ، الاستدلال بالاستقراء .
(ه) تنبيهات وإستدراكات منطقية مهمة :
تقدم في أول هذا المقال أن مجمل القواعد المنطقية مستقاة من ترتيب أرسطو الذي يُدعى بالمُعلِّم الثاني ، بعد شيخه أفلاطون المُعلِّم الأول .
وقد اشتمل ذلك المنطق على ملاحظات وإستدراكات ، بعضها صحَّحهُ المسلمون ، والبعضُ الآخرُ لم يًصحَّح ، فدخل منه بلاٌء عريضٌ لا يُمكنُ وصفُه .
فيجب على الطالب الوقوف عليها حتى يكون فهمه صحيحاً غير منقوص :
1-أشار أرسطو الى أنواع القياس الاستقرائي والجدلي والخطابي، لكنه اعتنى بالقياس الكُّلي الشُّمولي الصُّوري ، وقد سمَّاه القياس البرهاني .
طريقة ارسطو في استخدام هذا القياس تتمثل في : الاستقراء من الجُزء إلى الكل ، ثم جمع الجزئيات للظاهرة الواحدة وتحليلها وتمحيصها ومقارنتها ، ثم الاستنتاج منها وبذلك يخرج لنا النتيجة أو القياس الكلي البرهاني .
وقد أشار أرسطو إلى قاعدة مهمة في كثير من كتبه وهي : ضرورة ممارسة القياس الإستقرائي مع الصغار وأحياناً مع العوام ، أما القياس الصُّوري الإستنباطي فيكون مع المختصين فقط .
وهذه مغالطة وقع فيها أرسطو ونقلها عنه المُتفلسفة من المسلمين والمستعربين ، وهي أن جميع أنواع الأقيسة فطرية في البشر لا تحتاج إلى قانون لتنظيمها بين أصناف الناس في العادة لسببين ، الأول : أن أنواع القياس مُرتبطة ببعضها ، لأن العلاقة بين القياس الصُّوري والإستقرائي علَاقة فرعٍ بأصلٍ ونتيجةٍ بمقدمةٍ ، فالصُّوري فرعٌ من الإستقرائي ونتيجة لمقدمته .
الثاني : أن موضوع الفِكرة أو البحث هي التي تُحدِّد نوع القياس ، فالعمرُ أو المهنةُ أو جِنسُ الإنسانِ أو صِّفتهُ لا عَلاقة لها بتحديد الأقيسة .
2-أرسطو يُدلِّسُ ويَخلطُ لأسبابٍ مذهبيةٍ وعلمية بين القياس الإستقرائي والصُّوري ، فالأول هو من الأقيسة الجزئية التي تقومُ عليها كُّل العلوم ، والثاني نتيجةٌ من نتائج القياس الجزئي .
وقد زعم أرسطو أن القياس الصُّوري هو من المُقدِّمات الكلية ، لأنه يعتقد أن الكليات نتيجة للقياس الجُزئي ، وهذا خطأٌ أقرَّ به حتى عُلماء الغربِ اليوم في جامعاتهم وبحوثهم .
والصحيح أن القياسَ يجبُ أن يكون بمعرفة الكُليِّ والجزئيِّ معاً ، لا تقديم أحدهما على الآخر في الذِّهن كما يُقرِّره أرسطو في مصنفاته .
والقاعدة المشهورة التي يُردِّدُها المناطقة : ” لا عِلم إلَّا بالكليات ” قاعدة مَغلوطة تلقَّفها المناطقةُ من التأسيس السابق دون تمحيص وتهذيب لمعناها ومغزاها ، فَضَّل بسببها فِئامٌ كثيرةٌ من أهل المذاهب .
فالصحيح العلِمُ بالجزء ثم العلم بالكُّل . ولهذا نجد في القرآن أدلةً كثيرةً على تقديم الجُزء على الكُّل ، كقول الله تعالى : ” عالِمُ الغيب لا يعزب عنهُ مِثقالُ ذرةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبر” ( سبأ : 3 ) ، وقوله سبحانه : ” وما تكونُ في شأنٍ وما تتلو منهُ مِن قُرآن ٍولا تعملون من عملٍ إلا كُنَّا عليكم شهوداً ” ( يونس:61 ).
فربُّنا سبحانه يخاطب الخلق أنه يعلم ما يعملونه وما يُشاهدونه ، سواءٌ كان محتقراً عندهم أو عظيماً في عُيونهم وقلوبهم .
ومما يؤكد ما سبق أن صناعة المهن مثلا تبدأ بجزء صغير ثم تكبرُ رويداً رويداً حتى تكتملَ ، كالبِناء والخِياطة وحفرِ البئر وسقي الزرع وكَنس القُمامة ، ونحوها من المِهن والمشغولات .
3- أرسطو لا يجيز الإستقراء إلا إذا كان بحس وحواس لأنه يعتقد أنه من الكليات ، وأنه أبين وأكثر إقناعاً . وهذا الحكم إفتئاتٌ على أنواع القياس الأخرى وتحجيم وإستصغار لها . والصحيح أن الإستقراء وغيره من أنواع الأقيسة تصح إذا كانت بتأمُّل ورويَّة ونظرٍ ثاقب .
4- أرسطو جعل المِعيار بين الحق والباطل هو إتقان علم الجدل دراسةً وفهماً ، بغضِّ النظر عن الحقيقة من وراء ذلك ، وسببُ ذلك أنه يعتقدُ أنَّ الجدل علِمٌ ظنِّي لا يُوصلُ إلى النتيجة الصحيحة ، وكان يُسمِّيه مَنطقُ الإحتمال .
وهذا التقعيد من أرسطو مُخالفةٌ لشيخة أفلاطون الذي كان يعتني بالجدل وينظرُ له نظرةً يقينية عالية، وهو عنده من الضروريات للوصول إلى الحقيقة ، وكان يصفهُ بأنه الرافع للعقلِ من المحسوس إلى المعقول .
5- أرسطو خالفَ تأسيسَ قواعد القياسِ التي قعَّدها أفلاطون لتلاميذه وطُّلابه التي رويت عنه واشتهرت ، والتي كانت تُسَّمى القِسمة الثُّنائية الأفلاطونية وهي :أن الجدل نوعان صاعدٌ ونازلٌ .
فالصاعد يبدأٌ من الإحساسِ إلى الظنِّ، إلى العلم الاستدلالي ، الى المعقول ، الى أن يصل إلى العِلم بالكُليِّ ، والنازلُ ينزل من أرفعِ الكليات الى أدناها ، بتحليلها وترتيبها الى أجناس وأنواع .
6-أرسطو في مُقدِّماتِه للقياس الصُّوري أو البرهاني كما يُسمِّيه ، استفاد من فلسفة السُّوفسطائيين الذين سبقوهُ في تعليم الناس التلاعب بالألفاظ ، واستخدام المغالطات لإفحام الخصوم ، ولهذا سَمَّى المُحقِّقون هذا القياس بالقياس الصُّوري ، فهو شكلي لا مضمون حقيقي له ولا لقيمتهِ في الميزان العلمي .
وسبب ذلك أنه اعتنى بمعرفة العِلةٍ أولاً وآخراً ، ووصفها بالأمر الكُليِّ، وأغفل ما عداها من قضايا حالية أو كيفية ووصفها بالأمر الجزئي ، ففي ميزانه يكون البرهانُ الأقوى هو الكُلي .
وهذا التدليس المُتعمَّد – الذي أبان عنه باحثون غربيُّون اليوم – من أرسطو القصد منه جعل الجزئيات من نتائج أقيسة الكليات ، والصحيح العكس كما تشهد به العقولُ الصحيحةُ والفِطرُ المستقيمة .
ومثال ذلك الزرعُ اليابسُ الذي يُضربُ به المثل في القرآن في هَوان الدُّنيا وسُرعة إنقضائها ، أوَّله حبةٌ فماءٌ يسقيها ، ثم خُضرةٌ وبهجةٌ ، ثم يبُسٌ وتكسُّر وتفتُّت وزوال.
فهذا المثَلُ الكُّلي جاء من القِياس الجُزئيُّ الذي يعرفه أهلُ الألباب المدركة الواعية .
7-الأقيسة التي يتشدَّق بها المناطقة ويتكلَّفون لها من عهد أرسطو الوثني ، ثم أبي نصر الفارابي (ت: 339هـ) المُتفلسِف ، مروراً بابن سينا(ت: 428هـ) الباطني المتمنطق ، ثم ابن رشد (ت: 595هـ ) المُقلِّد، ثم أبي جعفر الطُّوسي (ت: 672هـ) الرافضي ، هي في الأصلِ لا وجود لها في الأذهان إنَّما وجودها في الأعيان ، فلا يمكن ضَبطُها ولا حَصرُها ولا تحديدُ معالمها ، وهذا يؤُكد زيفها وكونها مُهلهلَة لا ثباتَ لها في القلب ولا في العقل ، فكيف إذن يتم تعميمُها وجعلها أصلاً للنظر والتفكير .
ولو فتشَ عَاقلٌ فَطنٌ عن أسانيد هذه الأقيسة – إن وجدت – لوجدها منقولةً عن المتُفلسفة عن الصابئة عن الوثنييِّن عن المشركين ، الذين فاق شِّركهم شِّرك العرب ، عياذاً بالله تعالى.
8-الله تبارك وتعالى وهبَ البشر الحواس الثلاثة الرئيسة للمعرفة والعلم والإدراك واليقين ، ويستوي في هذا الكبيرُ والصغير والذكيُّ والأحمق والقادرُ والأخرق ، لكن تَلك الحواس تَضعفُ أو تتوسطُ أو تَقوى من فئةٍ دون أخرى . ويُشترطُ للإفادة من الحواس الثلاثة الرئيسة فهم اللُّغة ومُخالطة الناس ، والتروِّي والتعقُّل في الأقوال والأفعال . وقد ثبتَ أن رجلاً كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يُخدع في البيوع ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إذا بايعتَ فَقل لا خِلابة “. متفق عليه .
ولما جاءه رجلٌ أقرَّ على نفسه بالزنِّى ، قال له : ” أبِك جُنونٌ ؟ ، فقال : لا ، فأمرَ بِرجمهِ “. متفق عليه .
9- اشتراط مُقدِّمتينِ للبُرهانِ بصورةٍ مطلقةٍ غيرُ صحيح ، فقد ثبتَ بالمعقولِ والمنقولِ وجود براهينَ بخمسِ مقُدِّمات مَنطقية وربما أكثر ، مثل حديث جبريل عليه السلام المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان وأشراط الساعة ، ومثل حديث النجاشي مَلِك الحبشة رضي الله عنه ، مع رجال قريش ، ونحوها من الأحاديث الطويلة ، وهي صحيحة ومشهورة .
10- لو أن الطالبَ أطال النظرَ في تفسير القرآن المجيد وعلوم العقائد وعلوم العربية ، لكفاهُ ذلك عن كثيرٍ من كُتب المنطق والجدل . والأولى والأسلم للمُطالعِ والطالبِ والباحثِ ، أن تكون مُذاكرتُه لهذا العلمِ بقدر الحاجة ، فما أسكر كثيرهُ فَقليلهُ حرام .
(و ) : أهم المُصنَّفات لفهم المُقِّدمة والمنطِّق :
من أراد فهم المُقدِّمةِ والمنطقِ فهماً صحيحاً مُتقناً، فعليه بقرآءة المُقدِّمة المنطقية من كتاب ” روضة الناضر” لابن قدامة أو من ” المستصفى ” للغزالي ، رحمهما الله تعالى ، بشرط أن يكون ذلك على مُعلمٍ أو شيخ ٍمُتقن ، وعنده حظٌّ من عِلم التوحيد والسُّنة النبوية ، على جادَّة السلف ، لا على جادَّة الخَلَف ، ثم قرآءة سُّلم المنطق للأخضري(ت: 983هـ) رحمه الله تعالى ، مع شرحه للدَّمنهوري (ت: 1192هـ) رحمه الله تعالى، ثم نُزهة الخاطِر لابن بدران (ت: 1346هـ) رحمه الله تعالى في أُصول الفقه ، ليجمع بين المنطقِ والُأصولِ في ذِّهنه ،وليعرفَ الفُروق الجوهرية بين الفنيَّين وقواعدهما ، ثم طُّرق الإستدلال ومُقدِّماتها ليعقوب الباحسين ، ثم ” الردُّ على المنطقييِّن ” لابن تيمية (ت: 728هـ) رحمه الله تعالى .
فإذا أتقن هذه المُصَّنفات الخمسة ، فسيكونُ جبلاً في فهم المُقدِّمة والمنطقِ والأُصولِ ، إن شاء الله تعالى.
وفي نهاية المقال أودُّ أن أؤكِّد على أن طالب العلم والباحث والناقد ، هم أولى الناس بتلمُّسِ معالم هذا الفنِّ، لأن المسائل الصحيحة منه تُحصِّنهُ من الخطأ في إنتقاء الأدلة ، فليحذروا من إنزال كلام العلماء منزلة النص ، أو تقديس الموروث العلمي الذي يفتقر إلى دليل صحيح صريح ،وعدم تحقيق المناط ، وتقديم النتيجة على البرهانِ ، لأن ذلك يُفضي إلى الدَّور . ويجب عليهم التفريق بين الدليل الأصلي والتبعي ،والتفريق بين الأدلة والإعتراضات وضرورة تنقيح العِللِ والأوصافِ ، والله الهادي .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات .