رد: معنى فاقدروا له
أخي المعتز
حفظك الإله، ووفقك وسدد خطاك، ومحا خطاياك
إنّ فيما ذكرتَه من أدلةٍ واحتجاجات دَخَلاً ولبسًا سأوضح بعضه إن شاء الله
فمن ذلك:
أن لعلماء السلف اختلافا في معنى (فاقدروا) هل هو للتضييق كمذهب الإمام أحمد أم هو للحساب والعد كمذهب جمهور العلماء.
لكن الحِساب الذي قصدوه غيرُ الحساب الذي ترومه وتهدف إليه.
والحساب الذي قصدوه هو الحساب الذي يظهر في الروايات الأخرى كما نقلتُها لك، فمعناها واحد، أي: احسبوا شهر شعبان، فإذا بلغ 30 يوما فصوموا، وهو واضح ظاهر.
ومن ذلك قولك في التضييق
ويلاحظ حرف الجر له، في قوله فاقدروا له، ولو أراد التضييق لقال فاقدروا عليه، وهذا واضح في أن المراد هو الحساب وليس التضييق.
فهذه غير دقيق ألبتة، تأمل معي قولَه تعالى: { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)} [العنكبوت: 62]، وقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) } [سبأ: 39].
ولم يقل: (عليه)، بل قال: (له).
ومن ذلك قولك:
الأصل أن مادة قدر تعني التقويم والحساب والتحديد
فهذا أيضًا غير دقيق، بل وردت في القرآن على المعنيين، وكذلك في لغة العرب.
ولذا قال ابن فارس مقاييس اللغة (5/ 62): (الْقَافُ وَالدَّالُ وَالرَّاءُ
أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى مَبْلَغِ الشَّيْءِ وَكُنْهِهِ وَنِهَايَتِهِ)، وفرق بينه وبين: (التقويم والحساب والتحديد).
فالمادة يحتمل معناها التضييق: أي يعطى ويحكم له بقدر يسير.
وتحتمل معنى الحساب الذي ذكره أئمتنا.
ومن ذلك:
أن حمل هذه الرواية على الرواية الأخرى، يصار إليه إذا لم يمكن الجمع،
وأما القول بأنه طالما الرواي واحد فمعناهما واحد فهذا مخالف لعلم المصطلح
ونحوها من العبارات، مما لا معنى لها في هذا المقام، ولا سيما قولك:
فالأصل أنه صرح بالسماع هنا وصرح بالسماع في الحديث الآخر فدل على أنهما حديثان وليسا حديثا واحدا، وأن هذا يكمل الآخر، وهذا للأمة التي لا تتقن الحساب، والآخر للأمة التي تتقن الحساب
ومثل هذا كثير تحتاج إلى أن تدقق فيه وتمحصه
ولأرجع إلى صلب المسألة فأقول: قولك:
فدل هذا اللفظ على أنهم إن كانوا يكتبون ويحسبون فإن الأمر مخالف لذلك
الرسول صلى الله عليه وسلم في مقام التشريع، فإن كان مَن يخاطبهم -وهم العرب الخلص- لا يعرفون الحساب (حساب سير القمر) فكيف يأمرهم بذلك؟!، أعني: كيف يوجه الخطاب بأمر لا يدركه السامع في موقف هو محتاج فيه إلى حكم تشريعي.
فتخَيَّلْ نفسك حاضرًا مع ابن عمر رضي الله عنهما ومن كان معه من الصحابة، ولا يعرف الحضور كيفيَّة حساب القمر، وقد أُبلس عليهم شهر رمضان، فهل تتخيل أن يقول لهم الحبيب صلى الله عليهم وسلم: «فاقدروا له»، احسبوا حساب سير القمر!!!.
يريدون معرفة حكم تتعلق به عبادةٌ شرعيةٌ، فيخاطبهم بأمر لا يعرفونه!!.
قال رسول الله في الحديث: ((إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ))
قال صلى الله عليه وسلم: «أمة»، وهو لا ينطق عن الهوى.
فماذا تستفيد من قوله: «أمة»؟، لم يقل: (معاشر العرب)، أو (نحن العرب)، قال: «أمة»، وهو يعلم أنه بعث للناس كافة.
فاقدوا له أي ضيقوا عليه ليكون كالعدم، وأكملوا عدة شعبان ثلاثين
الظاهر من هذا النص أنك لا تعرف ما معنى التضييق الذي ذكروه!!.
فالذين قالوا بالتضييق يصومون يوم الثلاثين.
والذين قالوا بالحساب يُتِمُّون شعبان ثلاثين، فلا يصومون.
وكل هذا في يوم الشك،
فإنّ يوم الثلاثين من شعبان: إما أن يكون صحوًا، وإما أن يغم:
فإن كان صحوا ورأوا الهلال فلا كلام
وإن كان صحوا ولم يروا الهلال فلا صيام -وإن قال حساب القمر بولادته، فلا عبرة بقولهم-، هذا لا خلاف فيه.
وإن غم، سمي يوم الشك: وفيه الخلاف، فمَن فَهِم معنى التضييق صام يوم الشك كما فعل ابن عمر رضي الله عنه، وذهب إلى هذا الإمام أحمد.
ومن فهم معنى الحساب أفطر وعدَّه من شعبان، وأتم شعبان 30 يوما.
ثم يا رعاك الله، أيّ معنى في قوله: (غُمَّ)؟!!!.
ولِمَ يأمرُنا بالصيام لرؤيتِه؟.
أوليس العقل والمنطق -إن كان للحساب اعتبار كما تزعم- أن نصومَ بحساب القمر، غُمَّ علينا أو لم يغم؟!!، ألم يقل صلى الله عليه وسلم -كما في موطأ مالك ت الأعظمي (3/ 408) وغيره-: «الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ. فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى
تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى
تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَاقْدُرُوا لَهُ»، فأي فائدة في رؤية الهلال إن كان المعتبر الحساب؟.
أم أنك تطالب بحساب سير القمر إن غم فقط، فإن كان ثَم صحوٌ فلا تَعْتَبِرُ بحساب القمر ولا بما يقولونه؟!، وأعتذر فإني لم أفهم هذا من كلامك، بل الذي فهمته أنك تتكلم مطلقا، وفيه مخالفة للحديث الذي قَيَّد (اقدروا) بـ(فإن غم).
أخي بارك الله فيك
لا شك أنك وقفت على هذه الروايات قبل أن تصل لنتيجتك الماضية، فماذا ظهر لك منها؛ وهي:
رواية صحيح مسلم (2/ 759): حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ، فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ فَقَالَ: «الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا - ثُمَّ عَقَدَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ - فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ
فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ»، وحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ
فَاقْدِرُوا ثَلَاثِينَ».
ورواية مصنف عبد الرزاق الصنعاني (4/ 156): عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا ثُمَّ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ، فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ
فَاقْدُرُوَا لَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا».
كيف تفسر تقييد (اقدروا) بـ(ثلاثين)؟
وعلامَ يعودُ الضمير في هذا الحديث: (له) هل هو للهلال، أم لشعبان؟، وما الفرق بين عوده لهذا أو ذاك؟
ورواية سنن أبي داود (2/ 297): من طريق حَمَّاد، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ»، قَالَ [القائل: هو نافع]:
فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، إِذَا كَانَ شَعْبَانُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ نَظَرَ لَهُ، فَإِنْ رُئِيَ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يُرَ، وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ، وَلَا قَتَرَةٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ، أَوْ قَتَرَةٌ أَصْبَحَ صَائِمًا، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ،
وَلَا يَأْخُذُ بِهَذَا الْحِسَابِ.
فهذا راوي الحديث: (لا يأخذ بهذا الحساب).
واسم الإشارة (هذا) يدل على أن علم سير القمر قد عرف وعلم، ومع هذا رفض ابن يعمل به، ولو كان فَهِمَ -وهو ابنُ بجدة اللغة- حساب القمر لبَيَّن لتلامذتِه، فهذا من فروض الكفاية.
فمعنى الأحاديث واحدٌ، والخلاف بين الأئمة واضح لمن قرأ كتبَهم، وفَهِم ما معنى التضييق، وما معنى الحساب الذي أرادوه، فالحساب الذي أرادوه هو ما في الأحاديث الأخرى، ومنها ما في صحيح ابن حبان (8/ 228): ((فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ
عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثم صام)).
والله أعلم