العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الاستدراكاتُ العَشر على سِّيرة الشيخِ بَكر

إنضم
11 يوليو 2012
المشاركات
350
التخصص
أصول فقه
المدينة
قرن المنازل
المذهب الفقهي
الدليل
يُعدُّ العلَّامة بكر بن عبد الله أبو زيد (ت: 1429هـ) ، عَلاَمةً فارقةً بين المعاصرين ، فهو من الأعلام المجدِّدين في هذه الفترة ، في العلم والتربية والمنافحة عن العقيدة الصحيحة .
وليس هذا بغريب على عالم جدَّ واجتهد حتى رقى إلى ذُروة الجبل ،وتعلَّق برأس القُلل ، ولم ينقطع عن هِجِّيراه إلى أن بات ضجيع الجنادل وأليف الجداول . رحمه الله تعالى .
وقد وقفتُ على سيرته محررة تحريراً ماتعاً للباحث صالح بن عبد الله آل داود ، وفقه الله تعالى ، وبعد مُطالعتي لها رقمتُ على نُسختي من كتابه بعض الاستدراكات التي رأيتها مهمة ، أسأل الله أن ينفع بها من وقف عليها ، وهذا أوانُ الشروع في المقصود :
أولاً : أورد الباحث ( ص/ 47) نقلاً عن كتاب التعالم للشيخ بكر قوله : ” فكم من مُتصدِّر للعلم في أيِّ من مجالاته وهو قرندل ” . وقال في الحاشية نقلا عن بكر : ” القرندل بلهجة المصريين : حَالق لحيته ” . قلت : ما ذكره الشيخ بكر يحتاج إلى تأمُّل وتعقُّب ، فالقرندل مرتبة من مراتب الصوفية ، وهي سبع مراتب : المنتسب والمريد والدرويش والمرشد والقلندر والرند والقطب. والظاهر أن الكلمة مصحفة من قلندر إلى قرندل ، ومن صفات بعضهم في تركيا وبغداد شرب المسكر وحلق شعر الرأس والوجه ، وقد وصفهم ابن كثير في البداية والنهاية ( 12/274) ، ومثله ابن بطوطة في رحلته ( 1/17).
ثانياً : أورد في ( ص/ 58) تعقُّب العلامة بكر أبو زيد على الشيخ عبد السلام هارون رحمه الله تعالى في المنع من التعبير بلفظة ( لغة العلم الأوروبي ) ، واحتج بأن الأديب الكرملي النصراني غلَّط هارون في ذلك . قلت : لم أتيقَّن من تخطئة بكر أبو زيد لعبد السلام هارون في الموضع المحال إليه ، فهو مجرد ناقلٍ للمذاكرة بين الكرملي وهارون ، لأن المسألة خلافية بين المعاصرين ، وهذه طريقة الشيخ بكر في كثير من بحوثه ، إن لم يجد دليلاً صحيحاً في المسألة فإنه يورد الفائدة للمباحثة لا للاحتجاج أو الجزم ، ولعل الباحث التبس عليه آخر النقل في رسالة الكرملي : ” وقوله بلغة العلم صحيح بخلاف من أنكر هذا التعبير جهلاً لأسرار العربية ” .
فهذه الجملة للكرملي وليست لبكر أبو زيد ، وقد أوردها للإعلام بالخلاف حولها ،لا للاحتجاج بصحة الاستدراك كما يظهر من السِّياق ، وتوقف الشيخ بكر في المنع منها أن لفظة ( لغة ) ليست عربية كما حقَّقه كثير من الباحثين المعاصرين الثقات ، ومنهم حسن ظاظا في كتابه ( اللسان والإنسان / ص55) ، ولهذا في القرآن المجيد ترد كلمة ( لسان ) ولم ترد كلمة ( لغة ) كما هو معلوم لمن تأمل . والله أعلم .
ثالثاً : أورد الباحث ( ص/ 137) قوله عن الشيخ ابراهيم المنصور : “إنه لازم الشيخ بكراً إحدى عشرة سنة ” . قلت: من الأولى اضافة المترجَم إلى قائمة من تم ايراد أسمائهم ( ص/ 119) ممن لهم قوة تواصل مع بكر ،لأن طول الملازمة في العمل أقرب في معرفة الإنسان من ملازمته في مجالس العلم والأمل .وهذا معروف بالمشاهدة والتجربة ، وبعض المحدِّثين قديماً يشترط على الراوي طول الملازمة للرواية عنه ، كما نبَّه عليه الخطيب البغدادي(ت: 463هـ) رحمه الله تعالى . والله أعلم .
رابعاً : أورد في ( ص/ 221) أن الشيخ بكر أبو زيد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال : ” الدالُّ : الله ، والدليل : القرآن ، والمبيِّن : الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمستدل : أولو العلم . هذه قواعد الإسلام “. قال الباحث : ” أحال بكر إلى الطبقات لابن أبي يعلى ولم أقف عليه في الطبقات ” قلت : احالة الشيخ بكر صحيحة ، وهذا النص ورد في أكثر من طبعة في( 1/ 65)، و(1/ 147)، فلعله سَقط من بعض الطبعات المصورة .
خامساً : أورد في ( ص/ 222) في مسألة الذِّكر عند خَدر الرجل نقلاً عن كتاب تصحيح الدعاء قول الشيخ بكر في تضعيف الذكر الوارد : ” ومن العجيب أن جمعاً من الأئمة المحقِّقين مثل : النووي وابن تيمية وابن القيِّم والشوكانيُّ وغيرهم تتابعوا على ما ذكر ما أخرجه ابن السني … ” . قلت :
الراجح والله اعلم أن الأئمة تتابعوا على العمل به على ضعفه عندهم ، لأنه ترجيح بأمرٍ خارج كما هي قاعدة الأصولييِّن في الترجيح ،فالترجيح هنا أُصولي وليس حديثياً ، وقد عمل بهذه القاعدة الإمام ابن تيمية نفسه كما في ( رسالة القياس / ص50) وهي رسالة جُمعت من كلامه وكلام ابن القيِّم ،رحمهما الله تعالى ، لأن الأصل الوارد في الحديث صحيح معنىً ، بغض النظرٍ عن سنده . فإما أن يكون المقصود به : اذكر مصابك بالنبي محمدٍ ، على سبيل التأسِّي ، لأنه اُبتلي بأشدِّ من هذا ، أو أن المقصود به مثل ما ورد في حديث عبد الله ابن عباس موقوفاً قال : ” إن لله عز وجل ملائكة في الأرض سوى الحفظة ، يكتبون ما يسقط من ورقِ الشجر ، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرض فلاة ، فليناد : يا عباد الله أعينوني ” . أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح .
ومثله ما رواه الإمام أحمد : (حججتُ خمس حجج ، اثنتين راكباً وثلاثة ماشياً ، أو ثلاثة راكباً واثنتين ماشياً ، فضللتُ الطريق في حجة و كنت ماشياً ، فجعلت أقول : يا عباد الله دُّلونا على الطريق ، فلم أزل أقول ذلك حتى وقعتُ على الطريق). أخرجه البيهقي بإسناد صحيح .
وبهذا يستقيم سكوت الأئمة عن الكلام حول الأثر الوارد .
ولا يصح أن يستدلَّ به أحدٌ على جواز دعاء الأموات أو الاستغاثة بهم .كما يتوهَّم بعض المبتدعة .
وقد أورد الباحثُ تعليقاً مفيدا على الرواية بما معناه أن الذِّكر عند خَدر الرجل من عادات العرب في الطب، وقد استدل بنقلٍ عن الوزير صالح آل الشيخ وفقه الله تعالى ، وهو منقول عن كتاب ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) للآلوسي ، وهذا التعليل عند الأصوليين فيه نظر ، لأن الحقيقة الشرعية مُقدَّمة على الحقيقة العرفية .
فالصواب أن يقال هو مما يُستأنس به ، لكن لا يصح أن يكون تعليلاً لمسألة شرعية . والله أعلم .
سادساً : أورد الباحثُ ( ص/ 235) أسماء من جَرت بينهم وبين الشيخ مذاكرات ومباحثات . قلت : من توفيق الله تعالى لراقم هذه السُّطور أنه جرت بيني وبين الشيخ مذاكرات قبل عشرين سنة أو أكثر ،كلها بالهاتف ، أول الترقِّي للفهم ، والشغف بالعلم من سنة 1415هجرية تقريبا ًإلى قبيل وفاته رحمه الله تعالى .
وكان اتصالي به على هاتف مكتبه في الإفتاء ، وقد أفدتُ من أدبه وسمته في الجواب والاستدلال ما لا يُمكن وصفه .
وكان سُكوته كلام ، ولسانه حُسام . فمما سألته وكان مُشكلاً عندي : معنى قول المؤرِّخين : توفي في عَشر التسعين ، ودرجة حديث : ليس في الهيشات قَود ، وقول بعض المؤرِّخين : كان حسان ابن ثابت رضي الله عنه جباناً !، والسؤال عن بعض الكتب المفقودة في الحديث ، والسؤال عن نسب ابن تيمية رحمه الله تعالى ، والسؤال عن عقيدة شكيب أرسلان ، وبعض الأسئلة الأُخرى التي أُنسيتها الآن .
سابعاًً : أورد الباحث ( ص/ 241) أن الشيخ بكر حصل على إجازات من عبد الله الغُماري(ت: 1413هـ) ، وقد يتوهَّم البعض أنه زلة خفية للشيخ بكر ، فلعل الغماريُّ أجازه ولم يستجزه الشيخ بكرٌ ، لأن من كان متلطخاً ببدعة عقدية لا يجوز الرواية عنه ولا استجازته ، أو أن هذا كان قديماً قبل أن يتبيَّن حال الغماري في مخالفته للسُّنة .فمن أشهر مؤلفاته المنتقدة : ( إتحاف الأذكياء بجواز التوسُّل لسيد الأنبياء ) و( القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع ) و( جواز بناء القِباب على المقابر) . فهذا موضع يحسن التنبيه عليه لئلا يغترَّ به أحد من الناس .
ثامناً : أورد في (ص/ 248 ) فائدةً عن الشيخ بكر حول كتاب غرائب الإغتراب ، وهو لمحمود الآلوسي (ت: 1270هـ )رحمه الله تعالى ، وكانت رحلة علمية أخبر أنه شَرع فيها سنة 1267هـ إلى القسطنطينة ، والكتاب فيه فوائد ولطائف ودُرر نفيسة ، لكن فيه تعظيم لِغُلاة الصوفية النقشبندية وعوامِّهم ، وتوسُّلات غير مشروعة بعلمائهم . فليت الشيخَ بكرٌ رحمه الله تعالى نبَّه على هذا ، وليت الباحثَ يستدركه في الطبعات اللاحقة .
ومسألة البسملة التي أحال الشيخ إلى مذاكرة الآلوسي لها مع مشايخ الأتراك في كتاب الإغتراب ، هي في ( ص/421) وليست في ( ص/ 431) ، فليستدرك .
تاسعاً : هناك مسائل مهمة لعل الباحث أغفلها عمداً أو لم يُكشف له عنها ، وهي مواقف الشيخ بكر من الحوادث التأريخية المعاصرة في مجالات السياسة والاقتصاد وأحوال العالم الإسلامي ، والأحداث المهمة في الواقع ، فلعل المقرَّبين من الشيخ من الثقات ، يُذيعون بعض تقريرات الشيخ بكر ووصاياه فيما يتعلَّق بذلك ولو برؤوس أقلام ، لتأصيل النافع منها وتقريره . وقد أشار إلى بعض منها في كتابه خصائص جزيرة العرب ، وحُكم الانتماء . ولما سطَّر الباحث اهتمام الشيخ بقضايا المسلمين ( ص/ 230) لم يستطرد في ذلك ولم ينقل عن طلاب الشيخ وأقرانه شيئاً من ذلك ! .
عاشراً : أشار الباحث إلى تفسير الشيخ بكر أبو زيد للقرآن المجيد في ثنايا ترجمته ، في عِدَّة مواضع ، والآن وقد مضى عشر سنوات تقريباً على وفاة الشيخ ، يحقُّ لنا أن نسأل أين تفسيره ؟!
لماذا بقي حبيس الأدراج كل هذه السِّنين ؟! . فإن كان نِسياناً فقد تقرَّر عند الأصولييِّن أن الواجب لا يَسقط بالنسيان . وإن كان غيره فلعل في الأمر خِيرة . والله الهادي .
هذه أهم الاستدراكات التي حرَّرتُها على نُسختي ، لعل الباحث الكريم يتأمل فيها عند تعديله أو تنقيحه لكتابه في الطبعات اللاحقة . نسأل الله أن يُلهمنا الصواب ، وأن يفتح على قلوبنا بِحُسن الجواب .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
 
أعلى