د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 29 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 9,059
- الكنية
- أبو فراس
- التخصص
- فقه
- المدينة
- جدة
- المذهب الفقهي
- مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
موقف ابن رجب من خلاف ابن عباس والظاهرية في بعض مسائل المواريث
يقول ابن رجب رحمه الله([1]):
وقد اختلف العلماء في معنى قوله : (ألحقوا الفرائض بأهلها )
فقالت طائفة :
المرادُ بالفرائض الفروضُ المقدرة في كتاب الله تعالى.
والمراد:
أعطوا الفروض المقدرة لمن سمَّاها الله لهم ، فما بقي بعد هذه الفروض ، فيستحقّه أولى الرجال ، والمراد بالأوْلى : الأقربُ ، كما يقال : هذا يلي هذا ، أي : يَقرُبُ منه، فأقربُ الرجال هو أقربُ العصبات ، فيستحقُّ الباقي بالتعصيب.
وبهذا المعنى:
فسر الحديث جماعة من الأئمة ، منهم الإمام أحمد ، وإسحاق بن راهويه ، نقله عنهما إسحاق بن منصور.
وعلى هذا:
فإذا اجتمع بنت وأختٌ وعمٌّ أو ابنُ عم أو ابنُ أخ، فينبغي أنْ يأخذَ الباقي بعدَ نصف البنتِ العصبة.
وهذا قولُ ابنِ عباس، وكان يتمسَّكُ بهذا الحديث، ويقرُّ بأنَّ الناسَ كلَّهم على خلافه، وذهبت الظاهرية إلى قوله أيضاً.
وكان ابنُ الزبير ومسروق يقولان بقول ابن عباس ، ثم رجعا عنه .
وقال إسحاق : إذا كان مع البنتِ والأختِ عصبةٌ ، فالعصبةُ أولى ، وإنْ لم يكن معهما أحدٌ ، فالأخت لها الباقي.
وحُكي عن ابن مسعود أنَّه قال : البنتُ عصبةُ من لا عصبة له ، وردَّ بعضهم هذا ، وقال : لا يصحُّ عن ابن مسعود .
وذهب جمهورُ العلماء:
إلى أنَّ الأخت مع البنتِ عصبة لها ما فَضَلَ ، منهم عمر ، وعليٌّ ، وعائشة ، وزيد ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وتابعهم سائر العلماء.
وروى عبدُ الرزاق: أخبرنا ابنُ جريج : سألتُ ابنَ طاووس عن ابنة وأخت، فقال: كان أبي يذكر عن ابن عباس، عن رجل عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فيها شيئاً ، وكان طاووس لا يرضى بذلك الرجل ، قال : وكان أبي يشكُّ فيها ، ولا يقول فيها شيئاً ، وقد كان يُسأل عنها .
والظاهر - والله أعلم -:
أنَّ مرادَ طاووس هو هذا الحديث، فإنَّ ابنَ عباس لم يكن عنده نصٌّ صريح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في ميراثِ الأخت مع البنت ، إنَّما كان يتمسك بمثلِ عموم هذا الحديث .
وما ذكر طاووس أنَّ ابنَ عباس رواه عن رجل وأنَّه لا يرضاه ، فابنُ عباس أكثرُ رواياته للحديث عن الصحابة ، والصحابة كلُّهم عدول قد رضي الله عنهم ، وأثنى عليهم ، فلا عبرةَ بعد ذلك بعدم رضا طاووس .
وفي " صحيح البخاري ":
عن أبي قيسٍ الأودي ، عن هُزيلِ بنِ شُرحبيل ، قال : جاء رجلٌ إلى أبي موسى ، فسأله عن ابنةٍ وابنةِ ابنٍ ، وأختٍ لأبٍ وأم ، فقال : للابنة النصفُ ، وللأخت ما بقي وائت ابنَ مسعود فسيُتابعني ، فأتى ابنَ مسعود ، فذكر ذلك له، فقال : لقد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : للابنة النِّصفُ ، ولابنةِ الابن السُّدس تكملة الثلثين ، وما بقي ، فللأخت ، قال : فأتينا أبا موسى ، فأخبرناه بقول ابن مسعود ، فقال : لا تسألوني مادام هذا الحبرُ فيكم.
وفيه أيضاً:
عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد ، قال: قضى فينا معاذُ بنُ جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف للابنة ، والنصف للأخت ، ثم ترك الأعمش ذكرَ عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يذكره. وخرَّجه أبو داود من وجهٍ آخر عن الأسود ، وزاد فيه : ونبيُّ الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ حيٌّ.
واستدلَّ ابنُ عباس لقوله:
بقول الله عز وجل : { قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ }
وكان يقول :
أأنتم أعلم أم الله ؟! يعني : أنَّ الله لم يجعل لها النصفَ إلا مع عدمِ الولد، وأنتم تجعلون لها النصف مع الولد وهو البنت.
والصوابُ:
قولُ عمر والجمهور.
ولا دلالةَ في هذه الآية على خلاف ذلك؛ لأنَّ المراد بقوله : {فَلَها نِصفُ ما تَركَ} بالفرض، وهذا مشروطٌ بعدم الولد بالكلية ، ولهذا قال بعده : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ }يعني بالفرض ، والأخت الواحدة إنَّما تأخذ النصفَ مع عدمِ وجود الولد الذكر والأنثى، وكذلك الأُختان فصاعداً إنَّما يستحقون الثُّلثين مع عدم وجودِ الولد الذكر والأنثى.
فإنْ كان هناك ولدٌ:
1- فإنْ كان ذكراً ، فهو مقدَّمٌ على الإخوة مطلقاً ذكورهم وإناثهم.
2- وإنْ لم يكن هناك ولدٌ ذكرٌ ، بل أنثى ، فالباقي بعد فرضها يستحقُّه الأخُ مع أخته بالاتفاق.
فإذا كانتِ الأختُ لا يُسقِطُها أخوها:
فكيف يُسقطها من هو أبعدُ منه من العصبات كالعمِّ وابنه ؟
وإذا لم يكن العصبة الأبعد مسقطاً لها ، فيتعيَّنُ تقديمُها عليه ، لامتناع مشاركته لها
فمفهوم الآية:
أنَّ الولد يمنع أنْ يكونَ للأختِ النصفُ بالفرضِ ، وهذا حقٌّ ليس مفهومها أنَّ الأخت تسقطُ بالبنت ، ولا تأخذ ما فضل من ميراثها ، يَدُلُّ عليه قوله تعالى :{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَد }
وقد أجمعتِ الأمة:
على أنَّ الولد الأنثى لا يمنع الأخ أنْ يرثَ من مال أخته ما فضلَ عن البنت أو البنات، وإنَّما وجودُ الولد الأنثى يمنع أنْ يَحُوزَ الأخُ ميراثَ أخته كلَّه.
فكما : أنَّ الولد إنْ كان ذكراً ، منع الأخ من الميراث ، وإنْ كان أنثى ، لم يمنعه الفاضل عن ميراثها ، وإنْ منعه حيازة الميراثِ.
فكذلك: الولد إنْ كان ذكراً مَنَع الأخت الميراثَ بالكليَّة ، وإنْ كان أنثى ، منعت الأخت أنْ يفرض لها النصف ، ولم يمنعها أنْ تأخذ ما فَضَلَ عن فرضها ، والله أعلم.
ثم قال ابن رجب رحمه الله:
وإنَّما أشكل على العلماء حكمُ ميراث البنتين:
فإنَّ لهما الثلثين بالإجماع كما حكاه ابنُ المنذر وغيره.
وما حُكي فيه عن ابن عباس: أنَّ لهما النِّصفُ.
فقد قيل : إنَّ إسنادَه لا يَصِحُّ ، والقرآن يدلُّ على خلافه ، حيث قال : {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}، فكيف تُورث أكثر من واحدة النصف ؟
وحديثُ ابن مسعود في توريث البنت النصف وبنت الابن السدس تكملة الثلثين:
يدلُّ على توريث البنتين الثلثين بطريق الأولى .
وخرَّج الإمامُ أحمد ، وأبو داود ، والترمذي:
من حديث جابر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ورَّث ابنتي سعد بن الربيع الثلثين.
ولكنْ أشكل فهمُ ذلك من القرآن:
لقوله تعالى : {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ }فلهذا اضطربَ الناسُ في هذا ، وقال كثيرٌ من الناس فيه أقوالاً مستبعدةً.
ومنهم من قال :
أستُفيد حكم ميراث الابنتين من ميراث الأختين ، فإنَّه قال تعالى : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ }، وأستُفيد حكمُ ميراث أكثر من الأختين من حكم ميراث ما فوق الاثنتين.
ثم قال تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ }
يعني : إذا لم يكن للميت ولد ، وله أبوان يرثانه ، فلأُمِّه الثلث ، فيُفهم من ذلك أنَّ الباقي بعدَ الثلث للأب ؛ لأنه أثبت ميراثه لأبويه ، وخصَّ الأم من الميراث بالثلث ، فعلم أنَّ الباقي للأب ، ولم يقل : فللأب - مثلاً - ما للأم ، لئلا يُوهم أنَّ اقتسامَهُما المالَ هو بالتَّعصيبِ كالأولاد والإخوة ، إذا كان فيهم ذكورٌ وإناثٌ .
ثم قال ابن رجب رحمه الله:
وكان ابنُ عبّاس يتمسَّك بهذه الآية بقوله في المسألتين الملقبتين بالعمريتين:
وهما : زوجٌ وأبوان ، وزوجةٌ وأبوان ، فإنَّ عمر قضى أنَّ الزوجين يأخذان فرضَهُما من المال ، وما بقي بعد فرضهما في المسألتين ، فللأم ثلثُه ، والباقي للأب ، وتابعه على ذلك جمهور الأمة.
وقال ابن عباس: بل للأم الثلثُ كاملاً ، تمسُّكاً بقوله : { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ}
وقد قيل في جواب هذا :
إنَّ الله إنَّما جعل للأم الثلث بشرطين :
أحدُهما : أنْ لا يكونَ للولد المتوفَّى ولدٌ.
والثاني : أنْ يرِثَه أبواه ، أي : أنْ ينفرِدَ أبواه بميراثه.
فما لم ينفرد أبواه بميراثه ، فلا تستحقُّ الأمُّ الثلث ، وإنْ لم يكن للمتوفَّى ولدٌ .
وقد يقال - وهو أحسن - :
إنَّ قوله : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ }أي : ممَّا ورثه الأبوان ، ولم يقل : فلأمه الثلث مما ترك كما قال في السُّدس.
فالمعنى : أنَّه إذا لم يكن له وَلَدٌ ، وكان لأبويه مِن ماله ميراثٌ ، فللأُمِّ ثُلُثُ ذلك الميراثِ الذي يختصُّ به الأبوان ، ويبقى الباقي للأب .
ولهذا السرِّ والله أعلم:
حيث ذكر الله الفروض المقدَّرة لأهلها ، قال فيها : { مِمَّا تَرَكَ }، أو ما يدلُّ على ذلك ، كقوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ }، ليبين أنَّ ذا الفرضِ حَقُّه ذلك الجزء المفروض المقدَّر له من جميع المال بعد الوصايا والديون.
وحيث ذكر ميراثَ العصبات ، أو ما يقتسِمُه الذُّكورُ والإناث على وجه التَّعصيب ، كالأولاد والإخوة لم يقيِّده بشيءٍ من ذلك.
ليبيِّنَ: أنَّ المالَ المقتسم بالتَّعصيب ليس هو المالَ كُلَّهُ ، بل تارةً يكونُ جميع المال ، وتارةً يكونُ هو الفاضلَ عن الفروض المفروضة المقدَّرة.
وهُنا:
لمَّا ذكر ميراثَ الأبوين من ولدهما الذي لا ولدَ له ، ولم يكن اقتسامهما للميراث بالفرض المحضِ ، كما في ميراثهما مع الولد ، ولا كان بالتَّعصيب المحض الذي يُعصب فيه الذَّكر الأنثى ، ويأخذ مِثلَي ما تأخذُهُ الأنثى ، بل كانت الأُمُّ تأخذُ ما تأخذُهُ بالفرض ، والأب يأخذُ ما يأخذُهُ بالتَّعصيب ، قال : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } يعني : أنَّ القدر الذي يستحقُّه الأبوان من ميراثه تأخذُ الأُم ثلثه فرضاً ، والباقي يأخذُه الأب بالتَّعصيب.
وهذا ممَّا فتح الله به ، ولا أعلم أحداً سبق إليه ، ولله الحمد والمنَّة ."
([1])جامع العلوم والحكم (2 / 419)
التعديل الأخير: