أبو محمد المصرى
موقوف
- إنضم
- 16 ديسمبر 2007
- المشاركات
- 290
الفقه العالي ونظرة ظاهرية ..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فقد يستغرب أحدكم من عنوان هذا الموضوع، وقبل أن يبدأ أحدكم بالتصور والتحليل، أبين لكم ما هو الفقه العالي هذا.
عبارة الفقه العالي لا تمر كثيراً في كتب أهل العلم، وقد ترد أحياناً، لكنه استعمال نادر جداً بحسب ما اطلعت عليه من كتب واذكره، وهذا العلم ليس شيئاً جديداً، ولكنه مخترع في الفقه عند المذاهب كافة.
فتارة يعبرون عنه بهذا الاسم، وتارة بغيره، ويريدون منه: إدارك الفروق الفقهية في الفقه، وينقسم هذا العلم كما عند شيخنا أ.د محمد رواس قلعه جي إلى أقسام:
القسم الأول: الفرق بين المصطلحات الفقهية.
القسم الثاني: الفرق بين المسائل الفقهية.
القسم الثالث: الفرق بين القواعد الفقهية.
ونشأة هذا العلم كانت قديمة، وإن كانت لم تذكر في كتبهم بهذا التقسيم ، وإنما هذا التقسيم من وضع شيخنا حفظه الله، ولا أذكر أن أحداً سبقه إلى ذلك.
فإدراك الفروق الدقيقة بين لفظ ولفظ، أو بين مسألة وأخرى، أو قاعدة فقهية وأخرى، فكل هذا تحت علم الفروق، ويسمى علم الفقه العالي أو الفقه العالي وهو لا يدرس إلا للذين قطعوا أشواطاً كبيرة في دراسة الفقه.
وأول كتاب كما قال شيخنا في ذلك هو كتاب الجامع الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني، إلا أنه لم يحرر هذه الفروق، وإنما ذكر المسائل المتشابهة في الظاهر، مع اختلاف حكمها الفقهي، ولم ينبه على الفرق في هذا الكتاب، وأحياناً يذكر هذه الفروق في كتبه الأخرى، وأحياناً لا يذكرها.
وأكثر كتب الفروق اليوم هي على مذهب الحنفيين، فقد كان لهم السبق في هذا الفن، فإذا اطلعت على كتب الفروق تجد المسائل مرتبة على أبواب الفقه، وتحت كل باب تجد مسألة أو أكثر بحسب ما في مذهبهم من مسائ ظاهرها التشابه وهي مختلفة في الحكم.
فمحمد بن الحسن الشيباني كما يقول شيخنا حفظه الله أراد كما يظهر من جميع مصنفاته إبراز شخصيته الفقهية، وأنها مستقلة عن أبي يوسف، وعن أبي حنيفة، لذلك يذكر قوله في موطأ مالك قبل قول شيخه، ليبين لمن شكك في قدرته الفقهية أنه مستقل عنهم في الفهم.
أما من جاء بعده من فقهاء المذهب فإنهم حاولوا بيان فروق من كلام أئمتهم، وفقهاء المذهب بين شيئين يجزمون أنهم متشابهين من كل وجه، إلا وجها واحداً، فحكموا لكل شيء بحكم يخالف الآخر.
فإذا اعترض عليهم أحد وقال: ما الفرق بين كذا وكذا، وهي متشابهة، وقد حكمتم في كل مسألة بحكم يخالف الآخر، قالوا: لأن الفرق بينهما كذا وكذا.
ولا ننسى أن نذكر: أن كل شيئين فإنهما يتشابهان في أشياء ويختلفان في أشياء، وهذا موجود بالضرورة، وأن الشيئين إذا اتفاقا من كل وجه فهما شيء واحد.
وأعرض مسألة من مسائلهم حتى ترى التطبيق العملي لهذه المسائل، وهي في مسألة الطهارة، وخروج الدود من الجرح، وخروجه من الجسد، فقد قالوا بأن الوضوء ينتقض بخروج الدود من أحد السبيلين، ولا ينتقض بخروجه من الجرح الذي في الجسد.
فنقول:جميل، فلأي شيء فرقتم بين الأمرين، وجعلتم لكل شيء حكماً يخالف الآخر ؟
فيقولون: لأن خروج الدود من أحد السبيلين لا بد أن تخرج معه بلة من بول أو غائط، فصحيح أن الدود طاهر في أصله، لكنه خرج ومعه بعض النجس، والذي متى ما خرج من أحد السبيلين فالوضوء ينتقض، وهذا قول أبي حنيفة.
وقال: أما الدود فهو طاهر، وخرج من غير السبيلين بلا سيلان، وما كان هكذا فلا ينقض الوضوء.
فأنت تراه هنا قد اعتبر بكون المكان الذي خرج منه الدود أهو نجس أو طاهر، وكذلك كون الخارج هذا شيء نجس أو شيء طاهر.
أما الثلجي فقال: فنظر إلى مكان تولد الدود، فإن كان خرج من السبيلين فهو متولد منها، فهو نجس، وإن خرج من الجسد، فقد تولد من اللحم، فهو طاهر، وما لم يخرج بسيلان فلا ينقض الوضوء .
وطبعا قولهم في السيلان ليس في هذه الكتب، ولكن بحسب أصلهم، وذلك أن خروجه بسيلان يعني خروج الدم بسيلان، وخروج الدم بسيلان مبطل للوضوء، فهذا الأصل يدرك من فهم مذهبهم في مسائل الطهارة، لذلك قلت أن هذا الفن لا يدرسه إلا الذي فرغ من فقه المذهب عندهم.
فهذا مثال على أحد أقسام الفروق الفقهية، أما مثال القسم الأول وهو في الفرق بين المصطلحات، فهو:
كقولنا في لفظ ( إخبار ) .
وقضاء، وفتوى، وشهادة، ودعوى، وإقرار.
فلو تأملت فيها كلها تجد أن فيها إخبار بشيء، فأما القضاء فهو إخبار بحكم الله تعالى اللازم على المتقاضي.
وأما الفتوى فهي إخبار بحكم الله لا على سبيل الإلزام، وهكذا يعبرون هم.
وأما الشهادة: فهي إخبار لمصحلة الغير ، وأما الدعوى فهي إخبار بحق للنفس على الغير ..
وأما الإقرار فهو إخبار بحق على النفس.
فالفرق يظهر بالقيود التي تلي قولنا إخبار، وعبارتهم مقاربة لعبارتي، وهكذا في سائر المصطلحات التي تتفق في شيء، وتختلف في شيء آخر.
وأما الفروق بين القواعد الفقهية فكتاب الفروق للقرافي خير مثال لمن أراد معرفة هذا القسم بشكل جيد.
إلا أن الملاحظ على هذا العلم أنه لم يتطور، ولم ينضج بعد، وكأنه مهمل متروك، ويحتاج عناية جيدة، ولا تحصل هذه العناية إلا بالجمع والتحصيل لهذه الفروق، وما تركه الدارس إلا لصعوبته وصعوبة جمع هذه الفروق.
ولن تجد حولك من يدرس هذا العلم، إلا ما ندر، وإن درسه فلا يحضر كل طالب للعلم، لأنه سيكون أشبه بمن ضاع في فلاة، خاصة لمن لم يدرس المذهب الذي أخرجت منه هذه الفروق.
ورغم أني لا أحبذ دراسة كتب مذهبية، ولا أنصح بها، لكن كيف بظاهري يبطل القياس، ويريد إبطال قياس خصمه، وهو لا يعرف لماذا فرقوا بين كذا وكذا ؟!
وكيف يتعقبهم من طريق آخر ليبطل قولهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بمعرفة كتبهم، ومناهجهم، ومذاهبهم، والإشراف على كل ذلك.
ورغم أن هذه الفروق فيها جملة من تحيل أصحاب المذاهب للفرار من قول مخالفهم، لكن فيها ميزة فهم خصمك فهماً جيداً، فتعرف من أي مدخل تدخل عليه.
ومعرفة الفروق بين المصطلحات تغني كثيراً عن الشرح والتطويل، وذلك حين يأتينا ذكر مسائل تعتمد على معرفة معاني الألفاظ وعلى ماذا تقع.
وقد يستفيد الناظر والباحث من أهل الظاهر من هذا الفن، وليس تحيل بعض أهل المذاهب دليل على فساد هذا الفن، بل هذا فن نفيس وعلم جليل القدر لمن أدرك فائدته .
فعلم الفروق التي تكون بين المصطلحات مركب من معرفة اللغة ومعرفة الشريعة، وذلك لأن الأصل في الخطاب أننا خوطبنا بلسان عربي مبين، وهذا اللسان قد أوقع أسماء على أشياء، ومنع من إطلاق هذه الأسماء على أشياء وإن كان ظاهرها التشابه، ولكن لأجل فرق ما منع من إطلاق هذه الكلمة على ذلك المعنى، وأكثر من اعتنى بهذا من الجانب اللغوي هو أبو هلال العسكري في كتابه الفروق اللغوية.
وكذلك يعتمد على معرفة الشريعة، بمعنى أن الشرع قد يقيد اللفظ العربي، أو يزيد من معانيه، أو يسوي بين هذه الألفاظ، فمعرفة علم اللغة مع معرفة الشرع تحقق الوقوف على الفروق بين المصطلحات الشرعية أو الفقهية أو الأصولية.
وقد تكلم الإمام ابن حزم عن الفروق بين المصطلحات، وأجاد في ذلك، وهو منثور في التقريب لحد المنطق، وهو أصل مكان الكلام على هذه الفروق، ثم التطبيق العملي في كتبه كلها.
أما الفروق بين المسائل، فكثيراً من نجد استخدام الإمام ابن حزم لهذا القسم، وذلك حين يفرق لخصمه بين قوله بالدليل، الذي هو أصل رابع عند أهل الظاهر كما يقال اليوم، وبين قوله بالقياس، ويبين أن الفرق: أن الدليل موجود في النص ولم نزده من عند أنفسنا، بخلاف القياس الذي ليس موجوداً ولا علته، فهو مخترع من عقل القائس يتعقب به ربه، ويكمل ما تركه بزعمه له.
فكثيراً ما تقف على مثل هذه الفروق التي يذكرها ابن حزم رحمه الله، ولا يدركها طالب العلم، أو يظنها كلاماً عادياً، وهي في حقيقته فرقاً دقيقاً، تجب ملاحظته لمن أراد دراسة فقه رجل أو عالم، فقد كان كالجراح الذي لا يشق شيئاً إلا كان من مقصوده، لذلك ترى عبارته لو رفعت بعض كلمات فيها اختلت، ولم تصل إلى المعنى الصحيح الذي يريده، فكل جملة يقولها فهو يريدها بكاملها، وكل دليل يذكره فهو قاصد لذلك، لأنه رحمه الله كان يضع المقدمات، ثم يبني عليها الحكم، فمن لم يعتن بهذه المقدمات فلن يفهم كيفية إخراجه للحكم.
ولعل في رسائله بعض هذه الفروق ( الأمالي في قواعد الفقه ) و ( ذو القواعد ) أو ( در القواعد ) وربما تكون هي كتاب واحد فلا أدري عن صحة هذه التسمية، وقد تكون للقواعد الفقهية الخاصة.
فله رسالة في قواعد الفقه في حوالي ألف صفحة، ولكني أراها قليلة، وخاصة إذا قارنت ما كتب الإمام وتقدير من قدّر كتبه فبلغت حوالي 80 ألف ورقة، فإن كان فقط ألف ورقة فلا أظنها كافية أو مستوعبة، وقد تكون مختصرة.
ولم أسمع عن أحد كتب عن الفروق الفقهية عند ابن حزم كرسالة للماجسيتر، ولو كتب في هذا ستكون إضافة قيمة في فقه ابن حزم، وأظن أن الأمر لم يتحقق بعد إما لصعوبة المحتوى، وإما للغفلة عنها.
وكذلك الفروق الفقهية على طريقة أهل الظاهر ونظرهم، فلم أسمع عن هذه الرسائل، ولا أظن أن أحداً سمع بذلك، إلا أننا سمعنا أن هناك رسالة ماجستير في قواعد الفقه عند ابن حزم.
فمن شاء أن يكون تخصصه في الماسجيتر بالفقه، فهذه رسالة قيمة، يمكن أن أعينه بوضع خطة للبحث إذا شاء، بحيث تكون مبدئية، ثم يبني عليها ويغير بحسب ما يظهر له.
هذا ما أحببت إفادتكم به، ولم أتطرق إلى المصنفات في ذلك لأن الموضوع للعلم بهذا الفقه فقط، ومن شاء التوسع فعليه بكتاب ( الفروق ) للكرابسي، ففي مقدمته جملة صالحة من هذه الكتب، إلا أن الكتاب فيه بعض الخلل، من سوء التحقيق، وقد وقفت مع شيخي على ذلك أثناء القراءة فيه قبل سنوات.
** منقول عن مقال للشيخ ابن تميم الظاهري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فقد يستغرب أحدكم من عنوان هذا الموضوع، وقبل أن يبدأ أحدكم بالتصور والتحليل، أبين لكم ما هو الفقه العالي هذا.
عبارة الفقه العالي لا تمر كثيراً في كتب أهل العلم، وقد ترد أحياناً، لكنه استعمال نادر جداً بحسب ما اطلعت عليه من كتب واذكره، وهذا العلم ليس شيئاً جديداً، ولكنه مخترع في الفقه عند المذاهب كافة.
فتارة يعبرون عنه بهذا الاسم، وتارة بغيره، ويريدون منه: إدارك الفروق الفقهية في الفقه، وينقسم هذا العلم كما عند شيخنا أ.د محمد رواس قلعه جي إلى أقسام:
القسم الأول: الفرق بين المصطلحات الفقهية.
القسم الثاني: الفرق بين المسائل الفقهية.
القسم الثالث: الفرق بين القواعد الفقهية.
ونشأة هذا العلم كانت قديمة، وإن كانت لم تذكر في كتبهم بهذا التقسيم ، وإنما هذا التقسيم من وضع شيخنا حفظه الله، ولا أذكر أن أحداً سبقه إلى ذلك.
فإدراك الفروق الدقيقة بين لفظ ولفظ، أو بين مسألة وأخرى، أو قاعدة فقهية وأخرى، فكل هذا تحت علم الفروق، ويسمى علم الفقه العالي أو الفقه العالي وهو لا يدرس إلا للذين قطعوا أشواطاً كبيرة في دراسة الفقه.
وأول كتاب كما قال شيخنا في ذلك هو كتاب الجامع الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني، إلا أنه لم يحرر هذه الفروق، وإنما ذكر المسائل المتشابهة في الظاهر، مع اختلاف حكمها الفقهي، ولم ينبه على الفرق في هذا الكتاب، وأحياناً يذكر هذه الفروق في كتبه الأخرى، وأحياناً لا يذكرها.
وأكثر كتب الفروق اليوم هي على مذهب الحنفيين، فقد كان لهم السبق في هذا الفن، فإذا اطلعت على كتب الفروق تجد المسائل مرتبة على أبواب الفقه، وتحت كل باب تجد مسألة أو أكثر بحسب ما في مذهبهم من مسائ ظاهرها التشابه وهي مختلفة في الحكم.
فمحمد بن الحسن الشيباني كما يقول شيخنا حفظه الله أراد كما يظهر من جميع مصنفاته إبراز شخصيته الفقهية، وأنها مستقلة عن أبي يوسف، وعن أبي حنيفة، لذلك يذكر قوله في موطأ مالك قبل قول شيخه، ليبين لمن شكك في قدرته الفقهية أنه مستقل عنهم في الفهم.
أما من جاء بعده من فقهاء المذهب فإنهم حاولوا بيان فروق من كلام أئمتهم، وفقهاء المذهب بين شيئين يجزمون أنهم متشابهين من كل وجه، إلا وجها واحداً، فحكموا لكل شيء بحكم يخالف الآخر.
فإذا اعترض عليهم أحد وقال: ما الفرق بين كذا وكذا، وهي متشابهة، وقد حكمتم في كل مسألة بحكم يخالف الآخر، قالوا: لأن الفرق بينهما كذا وكذا.
ولا ننسى أن نذكر: أن كل شيئين فإنهما يتشابهان في أشياء ويختلفان في أشياء، وهذا موجود بالضرورة، وأن الشيئين إذا اتفاقا من كل وجه فهما شيء واحد.
وأعرض مسألة من مسائلهم حتى ترى التطبيق العملي لهذه المسائل، وهي في مسألة الطهارة، وخروج الدود من الجرح، وخروجه من الجسد، فقد قالوا بأن الوضوء ينتقض بخروج الدود من أحد السبيلين، ولا ينتقض بخروجه من الجرح الذي في الجسد.
فنقول:جميل، فلأي شيء فرقتم بين الأمرين، وجعلتم لكل شيء حكماً يخالف الآخر ؟
فيقولون: لأن خروج الدود من أحد السبيلين لا بد أن تخرج معه بلة من بول أو غائط، فصحيح أن الدود طاهر في أصله، لكنه خرج ومعه بعض النجس، والذي متى ما خرج من أحد السبيلين فالوضوء ينتقض، وهذا قول أبي حنيفة.
وقال: أما الدود فهو طاهر، وخرج من غير السبيلين بلا سيلان، وما كان هكذا فلا ينقض الوضوء.
فأنت تراه هنا قد اعتبر بكون المكان الذي خرج منه الدود أهو نجس أو طاهر، وكذلك كون الخارج هذا شيء نجس أو شيء طاهر.
أما الثلجي فقال: فنظر إلى مكان تولد الدود، فإن كان خرج من السبيلين فهو متولد منها، فهو نجس، وإن خرج من الجسد، فقد تولد من اللحم، فهو طاهر، وما لم يخرج بسيلان فلا ينقض الوضوء .
وطبعا قولهم في السيلان ليس في هذه الكتب، ولكن بحسب أصلهم، وذلك أن خروجه بسيلان يعني خروج الدم بسيلان، وخروج الدم بسيلان مبطل للوضوء، فهذا الأصل يدرك من فهم مذهبهم في مسائل الطهارة، لذلك قلت أن هذا الفن لا يدرسه إلا الذي فرغ من فقه المذهب عندهم.
فهذا مثال على أحد أقسام الفروق الفقهية، أما مثال القسم الأول وهو في الفرق بين المصطلحات، فهو:
كقولنا في لفظ ( إخبار ) .
وقضاء، وفتوى، وشهادة، ودعوى، وإقرار.
فلو تأملت فيها كلها تجد أن فيها إخبار بشيء، فأما القضاء فهو إخبار بحكم الله تعالى اللازم على المتقاضي.
وأما الفتوى فهي إخبار بحكم الله لا على سبيل الإلزام، وهكذا يعبرون هم.
وأما الشهادة: فهي إخبار لمصحلة الغير ، وأما الدعوى فهي إخبار بحق للنفس على الغير ..
وأما الإقرار فهو إخبار بحق على النفس.
فالفرق يظهر بالقيود التي تلي قولنا إخبار، وعبارتهم مقاربة لعبارتي، وهكذا في سائر المصطلحات التي تتفق في شيء، وتختلف في شيء آخر.
وأما الفروق بين القواعد الفقهية فكتاب الفروق للقرافي خير مثال لمن أراد معرفة هذا القسم بشكل جيد.
إلا أن الملاحظ على هذا العلم أنه لم يتطور، ولم ينضج بعد، وكأنه مهمل متروك، ويحتاج عناية جيدة، ولا تحصل هذه العناية إلا بالجمع والتحصيل لهذه الفروق، وما تركه الدارس إلا لصعوبته وصعوبة جمع هذه الفروق.
ولن تجد حولك من يدرس هذا العلم، إلا ما ندر، وإن درسه فلا يحضر كل طالب للعلم، لأنه سيكون أشبه بمن ضاع في فلاة، خاصة لمن لم يدرس المذهب الذي أخرجت منه هذه الفروق.
ورغم أني لا أحبذ دراسة كتب مذهبية، ولا أنصح بها، لكن كيف بظاهري يبطل القياس، ويريد إبطال قياس خصمه، وهو لا يعرف لماذا فرقوا بين كذا وكذا ؟!
وكيف يتعقبهم من طريق آخر ليبطل قولهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بمعرفة كتبهم، ومناهجهم، ومذاهبهم، والإشراف على كل ذلك.
ورغم أن هذه الفروق فيها جملة من تحيل أصحاب المذاهب للفرار من قول مخالفهم، لكن فيها ميزة فهم خصمك فهماً جيداً، فتعرف من أي مدخل تدخل عليه.
ومعرفة الفروق بين المصطلحات تغني كثيراً عن الشرح والتطويل، وذلك حين يأتينا ذكر مسائل تعتمد على معرفة معاني الألفاظ وعلى ماذا تقع.
وقد يستفيد الناظر والباحث من أهل الظاهر من هذا الفن، وليس تحيل بعض أهل المذاهب دليل على فساد هذا الفن، بل هذا فن نفيس وعلم جليل القدر لمن أدرك فائدته .
فعلم الفروق التي تكون بين المصطلحات مركب من معرفة اللغة ومعرفة الشريعة، وذلك لأن الأصل في الخطاب أننا خوطبنا بلسان عربي مبين، وهذا اللسان قد أوقع أسماء على أشياء، ومنع من إطلاق هذه الأسماء على أشياء وإن كان ظاهرها التشابه، ولكن لأجل فرق ما منع من إطلاق هذه الكلمة على ذلك المعنى، وأكثر من اعتنى بهذا من الجانب اللغوي هو أبو هلال العسكري في كتابه الفروق اللغوية.
وكذلك يعتمد على معرفة الشريعة، بمعنى أن الشرع قد يقيد اللفظ العربي، أو يزيد من معانيه، أو يسوي بين هذه الألفاظ، فمعرفة علم اللغة مع معرفة الشرع تحقق الوقوف على الفروق بين المصطلحات الشرعية أو الفقهية أو الأصولية.
وقد تكلم الإمام ابن حزم عن الفروق بين المصطلحات، وأجاد في ذلك، وهو منثور في التقريب لحد المنطق، وهو أصل مكان الكلام على هذه الفروق، ثم التطبيق العملي في كتبه كلها.
أما الفروق بين المسائل، فكثيراً من نجد استخدام الإمام ابن حزم لهذا القسم، وذلك حين يفرق لخصمه بين قوله بالدليل، الذي هو أصل رابع عند أهل الظاهر كما يقال اليوم، وبين قوله بالقياس، ويبين أن الفرق: أن الدليل موجود في النص ولم نزده من عند أنفسنا، بخلاف القياس الذي ليس موجوداً ولا علته، فهو مخترع من عقل القائس يتعقب به ربه، ويكمل ما تركه بزعمه له.
فكثيراً ما تقف على مثل هذه الفروق التي يذكرها ابن حزم رحمه الله، ولا يدركها طالب العلم، أو يظنها كلاماً عادياً، وهي في حقيقته فرقاً دقيقاً، تجب ملاحظته لمن أراد دراسة فقه رجل أو عالم، فقد كان كالجراح الذي لا يشق شيئاً إلا كان من مقصوده، لذلك ترى عبارته لو رفعت بعض كلمات فيها اختلت، ولم تصل إلى المعنى الصحيح الذي يريده، فكل جملة يقولها فهو يريدها بكاملها، وكل دليل يذكره فهو قاصد لذلك، لأنه رحمه الله كان يضع المقدمات، ثم يبني عليها الحكم، فمن لم يعتن بهذه المقدمات فلن يفهم كيفية إخراجه للحكم.
ولعل في رسائله بعض هذه الفروق ( الأمالي في قواعد الفقه ) و ( ذو القواعد ) أو ( در القواعد ) وربما تكون هي كتاب واحد فلا أدري عن صحة هذه التسمية، وقد تكون للقواعد الفقهية الخاصة.
فله رسالة في قواعد الفقه في حوالي ألف صفحة، ولكني أراها قليلة، وخاصة إذا قارنت ما كتب الإمام وتقدير من قدّر كتبه فبلغت حوالي 80 ألف ورقة، فإن كان فقط ألف ورقة فلا أظنها كافية أو مستوعبة، وقد تكون مختصرة.
ولم أسمع عن أحد كتب عن الفروق الفقهية عند ابن حزم كرسالة للماجسيتر، ولو كتب في هذا ستكون إضافة قيمة في فقه ابن حزم، وأظن أن الأمر لم يتحقق بعد إما لصعوبة المحتوى، وإما للغفلة عنها.
وكذلك الفروق الفقهية على طريقة أهل الظاهر ونظرهم، فلم أسمع عن هذه الرسائل، ولا أظن أن أحداً سمع بذلك، إلا أننا سمعنا أن هناك رسالة ماجستير في قواعد الفقه عند ابن حزم.
فمن شاء أن يكون تخصصه في الماسجيتر بالفقه، فهذه رسالة قيمة، يمكن أن أعينه بوضع خطة للبحث إذا شاء، بحيث تكون مبدئية، ثم يبني عليها ويغير بحسب ما يظهر له.
هذا ما أحببت إفادتكم به، ولم أتطرق إلى المصنفات في ذلك لأن الموضوع للعلم بهذا الفقه فقط، ومن شاء التوسع فعليه بكتاب ( الفروق ) للكرابسي، ففي مقدمته جملة صالحة من هذه الكتب، إلا أن الكتاب فيه بعض الخلل، من سوء التحقيق، وقد وقفت مع شيخي على ذلك أثناء القراءة فيه قبل سنوات.
** منقول عن مقال للشيخ ابن تميم الظاهري