العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فهم التشيع جزء 2 النشأة السياسية للتشيع

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
التشيع: النشأة السياسية

ظاهرة التَّشيُّع

إن ظاهرة نشوء التيار الشيعي لا تَخْرُج عن الإطار العام لظهور وتطوُّر المذاهب السياسيّة والفكريّة؛ فهو نتيجة تفاعلات اجتماعية وسياسية وثقافية عاشها المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهي في أصلها حَرَكَةُ مجموعةٍ من الناس اعتنقت مذهباً سياسيّاً في نُصْرَة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه والقول بأولويّته بالخلافة. ولَمَّا كان النظام السياسي في ذلك الوقت خاضعا لأعراف النظام القبلي والنّظام الوراثي، فإنهم جعلوا الحكم وراثيا في ذريّة الزعيم الرَّمْز الذي رَأَوْهُ أَوْلَى بالحكم، كما جعل الأمويون الحكم وراثيا فيهم، وجعله العباسيون وراثيا فيهم، وتتابع الأمر على ذلك في الممالك التي قامت في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.

وفي خضمّ الصراع الاجتماعي والسياسي الذي نشأ بين العشائر والقبائل تطوّرت فكرة القول بأولويّة عليّ بن أبي طالب بالخلافة إلى فكرة الوصاية، وبدأت تأخذ طابعاً دينيّاً زيادة على طابعها السياسي. وكلّما طال أَمَدُ الصِّراع ازداد التّطوُّر حتى وصلت الفكرة في النهاية إلى مرحلة تكوين مذاهب فكريّة وعقديّة متكاملة لمجموعة كبيرة من الفِرَق الشيعية تحمل كلّ إفرازات المراحل المختلفة للصراع.

وقد أدّت الهزائم المتتالية التي مُنِيَّ بها التيار الشيعي على مستوى الصراع على الحكم ضد الأمويين والعباسيين إلى محاولة التَّعْويض عن تلك الهزائم الميدانية ببعض الانتصارات النظريّة، سواء على المستوى السياسي بحَصْر الخلافة في عليّ بن أبي طالب وذريّته وإبطال خلافة غيرهم، أم على المستوى الديني باستقلال الشيعة بمصادر خاصة بهم والطعن في مصادر أهل السنة والجماعة. وقد نتج عن السعي إلى تحقيق ذلك الانتصار النّظري غلوٌّ ومبالغات كثيرة فرضتها ظروف الصراع الطويل، وساعد على ترسيخ تلك المبالغات وعدم تمحيصها الطابع السِّري الذي كان يتبعه التيار الشيعي في المعارضة السياسية، والتغطيّة على أفكار ومعتقدات أصحابه بمبدأ "التقيّة".

وبعد استقرار المذهب يصبح من الصعب التّراجُع عن تلك المبالغات والأفكار الشاذة؛ لأن ذلك يعني إضعاف المذهب وتعريضه إلى انتقادات وهزَّات قد تَهْدم بُنْيَانَهُ من الأساس، خاصة أنّ أكثر ذلك الغلوّ والمبالغة متعلّق بحجر الأساس في البناء الشيعي: وهو مسألة الإمامة! وإذا اكتشف صاحب البيت بعد اكتمال بُنْيَانِه أنّ بعضاً من حجارة أساس البيت غريب ودخيل، فإنه من الصعب عليه أن يجازف بنَزْع تلك الحجارة؛ لأنّ في نَزْعها مُجَازَفَة بهدم البنيان كلِّهِ، فلا يبقى أمامه سوى طريق التّبرير والتّغطية، ومحاولة إعطاء المشروعية لتلك الحجارة الغريبة الدخيلة، وجعلها جزءاً أصيلاً من البناء.

بواكير النشأة السياسية
يُرْجِع بعض الشيعة نشأة فِرقتهم إلى ما قبل وجود البشرية على وجه الأرض، وبالضبط إلى الوقت الذي جمع فيه الله سبحانه وتعالى الخلق -في عالم الغيب- على شكل ذُرٍّ وأشهدهم على ربوبيّته سبحانه وتعالى،([1]) حيث أخذ في ذلك الوقت الميثاق على الشيعة بالولاية لعليّ بن أبي طالب وذريته من بعده. روى الكليني بسنده عن بكير بن أعين قال: "كان أبو جعفر عليه السلام يقول: إنّ الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية وهم ذُرٌّ، يوم أخذَ الميثاق على الذُّرِّ والإقرار له بالربوبية ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة".([2])

كما يُرْجِعُ بعضهم بداية نشأة مذهبهم إلى بداية الرسالة، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع بذرة التشيُّع بنفسه، وهو الذي تعهَّدَها بالرعاية والعناية حتى كبرت في حياته وأثمرت بعد وفاته. ومن أجل إثبات ذلك عمدوا إلى تأويل آيات القرآن الكريم وبعض أحداث السيرة بما يؤيد ذلك، ودعموا ذلك بنسج شبكة كبيرة من الأخبار حول تلك الأحداث وأسباب نزول القرآن الكريم.([3])

ومثل هذه المبالغات معهودة عند أصحاب الفِرق الدينية من أجل إثبات المشروعية، وإبراز السَّبْق على الفِرق الدينية المخالِفَة، ولذلك فهي تبقى في إطار المبالغات الخيالية، ولا تحتاج إلى مناقشة علميّة. أما النّظرة الواقعيّة لنشأة التيار الشيعي فتكون وفق ما هو ثابت من الأحداث التاريخية.
لقد ترك غيّاب الرسول صلى الله عليه وسلم فراغاً سياسيّا وإداريّا، وكان لابُدّ من رجل يخلفه ويتولّى إدارة شؤون الدولة الإسلامية. وكان من الطبيعي أن تكون للصحابة آراء مختلفة فيمن يرونه أَوْلى بتولِّي الحكم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فظهرت في ذلك ثلاثة توجهّات أساسية: الأول: رأي غالب الأنصار، والثاني: رأي أنصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والثالث: رأي بعض وُجهاء المهاجرين.

لقد رأى الأنصار رضي الله عنهم أولوِيَّتَهم بالخلافة. ولِمَ لا؟ فالأرض أرْضُهم، والبلد بلدُهم، والمهاجرون ضيوفٌ عندهم، والريّاسة تكون عادة لصاحب البيت لا للضيف. إنهم هم الذين آووا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الفارِّين من اضطهاد المشركين في مكة وغيرها من البلاد، وهم الذين وَفَّرُوا أرضيّةَ قيام الدولة الإسلامية وحَمُوها بدمائهم وأموالهم؛ فمن المنطقيّ أن يكون لهم الحقّ في تولِّي قيادة تلك الدولة، وتسييرها نحو مستقبل زاهر يضمن التواصل مع مآثر مرحلة النبوّة.

ورأى بنو هاشم أحقيّتهم بالخلافة؛ فهم أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم وعشيرته، وهم أولى بوراثته في الحكم، وأرادوا مبايعة علي بن أبي طالب، وأيّدهم في ذلك بعض الصحابة.

وفي مقابل رأي الأنصار، رأى بعض وجهاء المهاجرين أن الحكم ينبغي أن يكون في قريش؛ لأنها هي التي يمكن أن تحقق الاجتماع السياسي للقبائل العربية، ورشحوا للخلافة أبا بكر الصديق رضي الله عنه.

لقد كان مما اتَّصَف به الأنصار رضي الله عنهم صفاء النفوس، وإخلاص القلوب، والعطاء والإيثار، وقد جعلتهم تلك الصفات النّبيلة يتخلّون عن رأيهم في أحقِّيّتهم بالخلافة بمجرّد أن بيّن لهم أبو بكر رضي الله عنه أنّ مصلحة الأمة في تلك الظروف تقتضي وحدتها، وأنّ وحدتها لا تتمّ إلاّ بأن يكون الخليفة من قريش كما أخبر عن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. وبذلك تنازل الأنصار عن فكرة أولويَّتِهم بالحكم، وقدَّموا مصلحة الأمة على مصلحتهم، وانتهت مشكلتهم، ولم يؤثر عنهم أنهم طالبوا بالحكم فيما بعد.

كما أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه والنَّفر الذين كانوا يرون أولويته للخلاقة تنازلوا عن رأيهم، وبايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما رأوا أنّ المسلمين قد بايعوه، فخضعوا لرأي الأغلبية، وانضووا تحت لواء أبي بكر لخدمة الإسلام والمسلمين، ولم يجعلوا من ذلك قضيّة.

وهذه هي طبيعة الحكم في الإسلام وفي النُّظُم الديمقراطية بصفة عامة؛ كلّ شخص له الحقّ في أن يرشِّح ويقدِّم من يراه أولى بالحكم ويدعو له ويناصره، فإذا تَمّ اختيار حاكم من قِبَل أغلبية المواطنين وَجَبَ على الكلّ العملُ تحت سلطته والخضوع للقوانين العامة للدولة، مع حقِّهم في الاحتفاظ بآرائهم ومبرراتهم في اختيار شخص وتقديمه على الآخرين.

لقد كان موقف أولئك الصحابة الذين أرادوا ترشيح عليّ بن أبي طالب للخلافة مجرّد رأْي سياسي، ولا يمكن أن يكون إيماناً منهم بفكرة الوصيّة لعليّ بن أبي طالب وذريته، أو اعتقادا بأنّ نظام الحكم الإسلامي يجب أن يكون وراثيّاً في أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو اعتقادا بأنّ أولويّة عليّ بالخلافة هي مسألة دينيّة كما يصوِّرها الشيعة. والدليل على ذلك أنّ أغلب الذين رشَّحوا عليّاً للخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قد غيروا ميولهم فيما بعد لَمّا تغيّرت الظروف؛ ولو كان ترشيحهم لعليّ بن أبي طالب في المرّة الأولى بناءً على حقّ إلهيّ له في الخلافة لَمَا أجازوا لأنفسهم التّراجُع عن ذلك فيما بعد. فالزبير بن العوام رضي الله عنه كان من الذين رشّحوا عليّاً للخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوا إلى ذلك، ولكنه بعد ذلك اختلف معه بعد مقتل عثمان بن عفّان رضي الله عنه ولم يقف في صفه، وأبو سفيان وعتبة بن أبي جهل كانا من أوائل الذين دعوا إلى ترشيح عليّ للخلافة وعارضوا اختيار أبي بكر الصديق لذلك،([4]) ولكنهما غيّرا رأيهما فيما بعد.

ولم يكن للمجموعة التي كانت تفضل ترشيح عليّ بن أبي طالب للخلافة نشاط سياسي معروف في تأييد عليّ بن أبي طالب سوى أثناء اختيار الخليفة الأول؛ ولذلك فإنّ موقف تلك المجموعة من الصحابة رضي الله عنهم لا يمكن عدُّه نواة المذهب الشيعي؛ لأن بين مواقف وعقائد وأفكار أولئك الصحابة ومواقف وعقائد المذهب الشيعي بُعْدُ ما بين المشرق والمغرب، ولكن يمكن أن يكون ذلك بذرة مذهب سياسي يرى تقديم علي بن أبي طالب بالخلافة.

تبلور التيار السياسي للعلويين

بعد مبايعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة، ونقله مقرّ الخلافة إلى الكوفة، والفتنة التي حصلت بين عليّ وشيعته من جهة ومعاويّة وشيعته من جهة أخرى، تكوّن تيار سياسيّ يناصر خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان من الطبيعيّ بعد مقتله أن يُبايع أهلُ الكوفة وما جاوَرَها ابنه الحسن بن عليّ بالخلافة، فهو يمثِّل رمْزَ التّواصُل مع القيادة السّابقة، فضلاً عن أن ثقافة الحكم السائدة فيهم هي مبادئ النِّظام الوراثيّ.

ولَمّا رأى الحسن بن عليّ رضي الله عنه عدم جَدْوى الحرب التي يخوضها ضد معاوية فضّل حقن دماء المسلمين، وقرَّر التوقُّف عن القتال والتَّنازل عن الخلافة. يقول المسعودي: "وقد كان أهل الكوفة انتهبوا سرادق الحسن ورَحْلَه، وطعنوا بالخنجر في جوفه، فلمّا تيقَّنَ ما نزل به انقاد إلى الصلح".([5])

وقد استبشر أغلب المسلمين بتلك الخطوة التي اتَّخذها الحسن رضي الله عنه، ورحَّبوا بها لِمَا فيها من حَقْن لدماء المسلمين، وحفْظ للأرواح التي تُزْهَق في صِراع سياسي لم تكن تعلم نهايته، حتى سَمُّوا ذلك العام بعام الجماعة. ولكن مجموعة من شيعة عليّ رفضوا ذلك الصّلح رفضاً شديدا، ووصلت بهم المعارضة إلى أن دبَّروا محاولة لاغتيال زعيمهم الجديد الحسن بن علي، وكان صاحب محاولة الاغتيال الجراح بن سنان الأسدي.([6])

والملاحظ أنه إلى غاية هذا الوقت لم يكن شيعة عليّ وابنه الحسن رضي الله عنهما يختلفون عن غيرهم من المسلمين في المبادئ العقديّة والفقهيّة، وكان الخلاف بينهم وبين غيرهم من المسلمين محصورا في الآراء السياسية.

بعد تنازل الحسن بن علي عن الخلافة انتهى الصّراع السياسي بانتصار ميدانيّ للأمويين والاستيلاء على السلطة كاملة وخضوع العراق -بما فيه الكوفة- لسلطان الدولة الأمويّة، ولكن فريقاً من شيعة الحسن بن عليّ لم يسلِّموا بهذه الهزيمة الميدانيّة، وبقوا يتحَيَّنون الفُرص للثورة عليهم وإسقاط حُكمهم.

جاءت المحاولة الأولى بعد حوالي عشرين سنة، حيث كتبوا إلى الحسين بن عليّ رضي الله عنهما يعلنون تأييدهم له ومبايعتهم إياه، ويطلبون منه الحضور إلى الكوفة لتنصيبه خليفة وإعلان الثورة على الأمويين تحت لوائه. ولما انتهى الأمر بالفشل ومقتل الحسين رضي الله عنه انْقَسم شيعتُه من أهل الكوفة إلى طوائف: طائفة شعروا بوَخْزِ الضّمير بسبب خيّانتهم للحسين وعدم الخروج للقتال معه، وقرَّروا أن يُعاقبوا أنفسهم بما عاقب به الله تعالى بني إسرائيل؛ وهو قتل أنفسهم([7])، فخرجوا للقتال حتى قُتِلوا جمعياً، وهم الذين أُطْلِق عليهم اسم "حركة التوّابين"؛ لأن عمَلَهم ذلك كان في اعتقادهم رَمْز التّوبة من خيّانة الحسين وتسْليمه للقتل في معركة كربلاء.

واكتفت طائفة بتعيين إمام نظريّ يمثّل رَمْزَ التّواصل مع الخطّ العلوي ويمثّل السّلطة الروحيّة لهم، ورأوا في ذلك كِفاية لهم، وهؤلاء هم الذين اختاروا زين العابدين عليّ بن الحسين ليكون الإمام الرَّمز لهم.

وطائفة ثالثة لم تكن ترى جَدْوى من قتْل النّفس للتّكفير عن ذَنْبِ خيّانة الحسين بن عليّ، ولا رأت فائدة في فكرة تعيين إمام نظريّ لا سلطة له في الواقع العملي، ورأوا أنّ الخيار الأفضل هو مواصلة الثورة ضدّ الأمويين في صفٍّ مُنَظَّمٍ مع رفْع شِعار الانتساب إلى واحد من ذريّة عليّ بن أبي طالب، وهم الذين قاتلوا في صفّ المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي اختار محمد بن عليّ بن أبي طالب (المشهور باسم محمد بن الحنفية) ليكون شِعَارَ المشروعيّة لثورته وطموحه للحُكْم.

استمرّ الشيعة في خطّ عدم التّسليم بالهزيمة، وفي حَجْب الولاء الباطني عن السلطة القائمة وإعطائه لإمامهم النظريّ الذي يمثّل رمْز التّواصل مع البيت العلويّ، فذلك يمثِّل أضعفَ مراتب الثّورة: الثّورة بالقلب ماداموا لم يُفْلِحُوا في الثورة باليد. وكانت فكرة تعيين إمام نظري من ذرية علي بن أبي طالب هي القاسم المشترك بين عشرات الفِرق الشيعية، وإن كانوا قد اختلفوا اختلافاً كبيراً في من يروه أوْلى بتلك الإمامة النظريّة، كما اختلفت مواقفهم العسكريّة من السلطتين الأموية والعباسية.

ظهور فكرة وصاية علي رضي الله عنه

لقد أثبت كبار رجال الدين الشيعي القدامى أنّ أوّل من أظهر الطعن في الصحابة، وقال بفكرة كون عليّ بن أبي طالب وصيّاً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديا وأعلن إسلامه وصار من شيعة علي رضي الله عنه، وأنه نقلها من التراث اليهودي. يقول رجل الدين الشيعي الحسن بن موسى النوبختي في كتابه "فِرَق الشيعة" عن عبد الله بن سبأ: "وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرّأ منهم، وقال إن عليّا عليه السلام أمره بذلك، فأخذه عليّ فسأله عن قوله هذا، فأقرَّ به، فأمر بقتله، فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين أتقتل رجلا يدعو إلى حُبِّكم أهل البيت، وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك؟ فصيَّره إلى المدائن.([8]) وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب عليّ عليه السلام أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم، ووالى عليّا عليه السلام. وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة، فقال في إسلامه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله في عليّ عليه السلام بمثل ذلك. وهو أول من شَهَرَ القول بفرض إمامة عليّ عليه السلام، وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه. فمن هناك قال من خالف الشيعة إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية."([9])
وبهذا يتبين أن محاولة بعض المعاصرين نفي وجود عبد الله بن سبأ والادعاء بأنه شخصية أسطورية كلام لا معنى له؛ لأن مصادر الشيعة القديمة تنطق بهذه الحقيقة التاريخية وتؤكدها.

وعلى الرغم من أن فكرة الوصاية التي أثارها عبد الله بن سبأ كانت مرفوضة من طرف علي بن أبي طالب وغالبية شيعته في ذلك الوقت، إلا أن الفكرة ترسّخت فيما بعد في المنظومة العقدية لجميع الفرق الشيعية، وصارت القاسم المشترك بينها وحجر الزاوية فيها. ولم تقتصر تلك الفرق الشيعية على القول بوصاية علي رضي الله عنه، بل سحبت تلك الوصاية إلى ذريته فجعلت الخلافة وراثية ومحصورة فيهم على اختلاف بين تلك الفِرق في عدد الأوصياء وأسمائهم.

ظهور لقب "الشيعة"

مصطلح "الشيعة" يعني الأنصار والأتباع، وقد ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى.([10]) وكان أنصار علي بن أبي طالب يُسمون "شيعة علي"، وأنصار معاوية بن أبي سفيان يُسمون "شيعة معاوية"، ومما يدل على ذلك ما ورد في كتاب معاوية لبُسر بن أرطأة حين أرسله إلى اليمن يقول: "أَمْعِنْ حتى تأتي صنعاء فإن لنا بها شيعة".([11]) وبمرور الوقت غلب استعمال لقب "الشيعة" على شيعة عليّ بن أبي طالب وذريته حتى صار عَلَما عليهم، ولا يمكن تحديد وقت معين لذلك. وزيادة على مصطلح "الشيعة" كانت هناك مصطلحات أخرى مستعملة في التعبير عن التيار السياسي الموالي لعلي بن أبي طالب، هي: العلويون، والهاشميون، والطالبيون.

الحاجة إلى مذهب متكامل
لقد سعى كلٌّ من العلويين والأمويين والعباسيين إلى الحكم، واستطاع الأميّون والعباسيّون تحقيق طموحاتهم فوصلوا إلى الحكم، وكان العلويّون وشيعتهم أسوأ الطوائف حظّاً، فلم يستطيعوا تحقيق طموحاتهم، وباءت محاولاتهم للاستيلاء على السّلطة بالفشل، ولم ينالوا من تلك المحاولات المتكرِّرة سوى القمع والتّنكيل على أيدي منافسيهم من الأمويين والعباسيين. لقد كان ذلك الفشل المتواصل يُنْذِر بزوالهم، فكان لابُدّ من مذهب عقدي يحْتَضِن فكْرتهم ويحملها وينشرها، ويحشد المؤيِّدين لها للتضحية من أجلها، ويغذِّيها بأفكار ودماء جديدة.

لقد كان الشيعة في أمسِّ الحاجة إلى التّعْويض عن الفشل الميدانيّ بالسّعي إلى إيجاد نَصْر على المستوى النظري من خلال بنَاء نظريّةٍ تُثْبِت أنّهم هم الورثة الشرعيّون لِخَطّ النبوّة، وأنّ أئمتهم من طِينة خاصّة، وفيهم أرواح خاصّة، وأنّهم هم أَوْلى الناس بالخلافة، وأنّ الفِرَق الأخرى المنافسة قد ضلّت وانحرفت عن خطّ الإسلام الصحيح، وأنها تمثّل عصابات من المغتصبين الذين اغتصبوا الحقّ الإلهي لأئمَّتِهم في الخلافة.

وكان الشّعور بالحِقْد والعداوة الذي تولّد في نفوس الشيعة -نتيجة الصّراع المرير الذي كان بينهم وبين الأمويين والعباسيين- كافيّاً ليولِّد في نفوسهم الشُّعورَ بضرورة إيجاد منهج مُخَالِف لمنهج أعدائهم؛ فإنّ البقاء على منهج من يرونه عدوّاً لهم والاسْتِقَاء من مصادره يُعَدُّ نوعاً من التَّسْليم له والانهزام أمامه، فكان لابُدّ من التَّمايُز والمفاصلة بإنْشَاء مذهب متكامل يتميَّز عن مذهب من يرونهم ظالمين اغتصبوا من أئمتهم حقهم الشرعي.
وقد بلغت بهم الرغبة في التميُّز عن مخالفيهم إلى درجة أنهم جعلوا مخالفة جمهور المسلمين من أهل السنة والجماعة أصلا من أصولهم، ونَظَّرُوا لذلك الأصل بنسبته إلى جعفر الصادق، فقد روى الكليني بسنده فيما ينسبه إلى جعفر الصادق أنه قال: "دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم".([12]) والمقصود بـ"القوم" أهل السنّة والجماعة.

وفي النص الآتي بيان وافٍ للكيفيّة التي نَظَّرَ بها الشيعة للفُرْقَةِ والاختلاف مع أهل السنّة والجماعة (الذين يعبرون عنهم بالعامة) حتى جعلوا ذلك أصلاً من أصول مذهبهم:
روى الكليني بسنده فيما ينسبه إلى جعفر الصادق أن عمر بن حنظلة قال: "سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَيْنٍ أو ميراثٍ فَتَحَاكَمَا إلى السّلطان أو القُضَاة أَيَحِلُّ ذلك؟ قال: من تَحَاكَمَ إليهم في حقٍّ أو باطلٍ فإنَّمَا تَحَاكَمَ إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنَّمَا يأخذ سُحْتاً وإنْ كان حقّاً ثابتاً له لأنه أخذه بِحُكْمِ الطاغوت، وقد أَمَرَ الله أن يُكْفَرَ به، قال تعالى: ï±،ï*گ ï±? ï±گ ﱑ ï±’ ﱓ ï±” ﱕ ï±– ï±— ï±?ï±* قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران [إلى] مَنْ كان منكم مِمَّنْ قد روى حديثَنَا ونَظَرَ في حَلاَلِنَا وحَرَامِنَا وعَرَفَ أحكامَنَا فليرضوا به حَكَماً فإنِّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بِحُكْمِنَا فلم يَقْبَلْهُ منه فإنَّمَا اسْتَخَفَّ بحُكْمِ اللهِ، وعلينَا رَدَّ والرَّادُ علينا الرَّادُ على اللهِ وهو على حَدِّ الشِّرْكِ بالله...
"قلت: فإن كان الخَبَرَانِ عنكما مشهورين قد رواهما الثُّقَاتُ عنكم؟ قال: يُنْظَرُ فيما وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ الكتاب والسنّة وخَالَفَ العامّة فيُؤْخَذُ به ويُتْرَكُ ما خَالَف حُكْمُهُ حُكْمَ الكتاب والسنّة ووَافَقَ العامّة. قلت: جُعِلْتُ فداك أرأيت إن كان الفقيهان عَرَفَا حُكْمَه من الكتاب والسنّة ووجدنا أَحَدَ الخبرين موافِقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم بأيّ الخبرين يُؤْخَذ؟ قال: ما خَالَفَ العامّة ففيه الرَّشاد. فقلت: جُعِلْتُ فِدَاكَ فإن وافقهما* الخبران جميعا؟ قال: يُنْظَرُ إلى مَا هم إليه أَمْيَلُ حكَّامُهم وقضاتُهُم فَيُتْرَكُ ويُؤْخَذُ بالآخر. قلت: فإنْ وَافَقَ حكّامُهُم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فَأَرْجِهِ حتى تلقى إمامَك فإنّ الوقوفَ عند الشُّبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات".([13])

هذا هو موقف منظِّرِي المذهب الشيعي من السنّة التي رواها أهل السنّة والجماعة، وهو السعيّ قَدْرَ الإمكان إلى مخالفتها! وهذا هو موقف منظِّرِي المذهب مِنْ حكَّام وقضاة أهل السنّة والجماعة: فهم طواغيت يَحْرُمُ الاحتكام إليهم، ولا يجوز للشيعي العمل بحكمهم حتى لو حكموا بما يَراهُ الشيعة أنفسهم حقّاً! فالواجب على الشيعيّ مقاطعة أهل السنّة مقاطعة كاملة، والسعيّ إلى مخالفتهم في كل الأمور!

ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن يُوجِدَ الشيعةُ مذهباً خاصّاً بهم، وأن يرفضوا كلّ ما جاء من طريق أهل السنّة، ولذلك نجد أنّ هذه المبالغة في مخالفة أهل السنّة قد حملتهم في كثير من الأحيان على مخالفة بعض الأقوال الثّابتة عندهم عن أئمتهم، مثل غسل الرجلين في الوضوء والمسح على الخفّ رغبة في مخالفة أهل السنة، وفسُّروا أفعال أئمتهم تلك بأنّها كانت تقيّة منهم فقط.

([1]) المقصود بذلك قول الله سبحانه وتعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 172).
([2]) الكليني، محمد بن يعقوب. (1968-1971م). الأصول من الكافي. طهران: دار الكتب الإسلامية. ج2، ص318.
([3]) انظر في ذلك الكتب الشيعية التي تتحدث عن نشأة المذهب الشيعي والتعريف به مثل: الشيعة الإمامية لمحمد حسين المظفري، الشيعة والتشيع لجواد مغنية وغيرها.
([4]) من المفارقات أن يطعن الشيعة في إسلام أبي سفيان مع أنه كان من أكثر الناس حماساً لتنصيب عليّ بن أبي طالب للخلافة. فكيف لم يشفع هذا لأبي سفيان؟ ولماذا لم يَعُدَّهُ الشيعة من مؤسسي مذهبهم أو على الأقلّ واحداً من أفراد الفِرقة؟ يبدو أنّ الصراع الذي وقع فيما بعد بين عليّ ومعاوية بن أبي سفيان قد طغى على هذا الموقف، فعَمَّمَ الشيعة نقمتهم على كلّ بني أميّة.
([5]) المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي. (1988م). مروج الذهب ومعادن الجوهر. بيروت: المكتبة العصرية. ج3، ص9.
([6]) انظر: اليعقوبي، أحمد بن إسحاق بن واضح. (1358هـ). تاريخ اليعقوبي. النجف: المكتبة المرتضوية. ج2، ص191-192.
([7]) وذلك في قول الله عز وجل: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 54).
([8]) اختلفت الروايات الشيعية في موقف علي بن أبي طالب من عبد الله بن سبأ، فهذه الرواية تذكر أنه نفاه إلى المدائن، ورواية أخرى تقول إنه قتله. يقول رجل الدين الشيعي عبد الله المامقاني: "عبد الله بن سبأ: بالسين المهملة المفتوحة، والباء الموحدة المفتوحة والألف قد وقع في طريق الصدوق في باب التعقيب من الفقيه، وقال الشيخ في باب أصحاب أمير المؤمنين: عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو، وقال ابن داود: عبد الله بن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلو، كان يدّعي النبوّة، وأنّ عليّاً هو الله، فاستتابه ثلاثة أيام فلم يرجع فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلاً ادعوا فيه ذلك". عبد الله المامقاني. تنقيح المقال في أحوال الرجال. طبعة النجف.ج2، ص183-184. نقلا عن: عبد الحميد خروب. رواية الحديث عند الشيعة الإمامية. ص40.
([9]) النوبختي، أبو محمد الحسن بن موسى. (1931م). فرق الشيعة. نشر جمعية المستشرقين الألمانية، طبعة إستانبول.ص19-20. والكلام نفسه نجده عند رجل الدين الشيعي أبو عمرو الكشي (توفي في حدود 350هـ)، حيث يقول: "وذكر أهل العلم أنّ عبد الله بن سبأ كان يهوديّاً فأسْلَمَ ووَالَى عليّاً، وكان يقول وهو على يهوديّته في يوشع بن نون وصيّ موسى بالغلوّ، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عليّ مثل ذلك، وكان أوّل من شَهَرَ بالقول بِفَرْضِ إمامة عليّ، وأظْهَرَ البراءة من أعدائه، وكَاشَفَ مخالفيه وكَفَّرَهُم، فمن هنا قال من خَالَفَ الشيعة إنّ أصْلَ التَّشَيُّعِ والرَّفْضِ مأخوذٌ من اليهودية." الكشي. أبو عمرو. (د.ت.). رجال الكشي. كربلاء ـ بغداد: مؤسسة الأعلمي.ص9. نقلا عن: عبد الحميد خروب. رواية الحديث عند الشيعة الإمامية.ص39.
([10]) من ذلك قوله تعالى عن موسى عليه السلام: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) (القصص: 15).
([11]) اليعقوبي. تاريخ اليعقوبي. ج2.ص173.
([12]) الكليني. أصول الكافي. ج1.ص 9.
* أي إذا وافق الخبران ما عليه أهل السنة والجماعة. ولقب "العامة" هو لفظ يطلقه الشيعة المتقدمون على أهل السنة، على اعتبار أنهم عامة الناس الذين لا يعرفون شيئاً من الحق، وأن الشيعة هم الخاصة الذين اختصّهم الله تعالى بالحقّ وميراث الرسالة السماويّة الخاتمة.
([13]) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص86-88.
 
إنضم
8 يناير 2019
المشاركات
6
التخصص
إعلام آلي
المدينة
سيدي بلعباس
المذهب الفقهي
طالب علم
رد: فهم التشيع جزء 2 النشأة السياسية للتشيع

السلام عليكم
جميل جدا
شكرا لك يا دكتور
 
أعلى