العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فهم التشيع جزء 3 كيفية نشأة الفرق الشيعية

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
نشأة الفِرَق الشيعية

لقد شهد التيار الشيعيّ خلافات داخليّة كثيرة منذ بدايته، مما جعله أكْثَر الفِرق الإسلاميّة عُرْضَة للانقسام، حيث تولَّدت عن هذا التيار عشرات الفِرق. وقد كان المحور الأساس للصّراع والخلاف هو مسألة الإمامة، فلا يكاد يموت رمز من رموز البيت العلوي إلاّ ويختلف شيعته حول من يكون الإمام بعده، وتظهر مجموعة من الفِرق الجديدة تقول بالوصية لمن تختاره ليكون الإمام التالي. ومن الطبيعيّ -في ظل ذلك الصّراع- أن تَسْعى كلّ فِرْقَة إلى إثبات صحَّة نظريّتها وإبْطال نظريّات الفِرق المخالفة؛ فلا تكتفي كل فرقة بسَنّ نظريّة خاصّة بها في الإمامة، بل لا بدّ من إبْطال النّظريّات الـمُنَافِسة لها.


وسأقتصر على عرض مختصر للفِرَق الشيعية التي كانت نشأتها بسبب الاختلاف حول موضوع الإمامة من خلال خط الشيعة الإثني عشرية، ولن أتعرض للخلافات التي حصلت داخل تلك الفرق التي تكونت بعد موت كل إمام من أئمة الشيعة الإثني عشرية؛ لأن كل فرقة من تلك الفرق انقسمت بعد ذلك إلى فرق أخرى، وبذلك صارت الفرق التي خرجت من رحم الشيعة بالعشرات.
وأعتمد -أساسا- في هذا العرض على تلخيص ما ورد في واحد من أقدم المصادر الشيعية، ومؤلفه من كبار رجال الشيعة الإثني عشرية في زمانه، هو كتاب "فِرَق الشيعة" للنوبختي.

باكورة التفريخ

أوّل فِرقة خرجت من رَحِم التيار الشيعي كانت في حياة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث رفضت مجموعة من شيعته نتيجة التحكيم التي تَمّت بينه وبين معاوية بعد معركة صفّين، على الرغم من أنّهم كانوا في البداية من أنصار التحكيم والمتحمسين له. وقد سُمِّيَت هذه الفِرقة فيما بعد باسم "الخوارج".

على الرغم من أنّ فِرقة "الخوارج" وُلِدت من الرّحِم الشيعية، إلاّ أنها اختلفت اختلافا جذريا عن الفِرق الشيعية في مسألة الإمامة التي تُعد محور القضيّة الشيعية؛ حيث رفض الخوارج فكرة الحكم الوراثي، وذهبوا إلى أنّ الحكم يجب أن يكون شورى بين المسلمين، ولا يشترط فيمن يتولى الحكم أن يكون من أسرة أو قبيلة معينّة، وإنما يكفي فيه أن يكون مسلماً عدلا. لكن على الرغم من ذلك الاختلاف فإننا نجد فرقة "الخوارج" تشترك مع الفرق الشيعية الأخرى في ظاهرة الغلو وتأويل النصوص تأويلاً بعيداً بما يخدم أفكارها الخاصة، وتكفير المخالفين لها، واعتبار أنفسهم الفِرْقَة الوحيدة التي بقيّت على طريق الحقِّ والصواب.

مقتل علي بن أبي طالب

بعد مقتل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه اختلف أنصاره إلى فرقتين:
الفرقة الأولى: قالت إن عليّا لم يُقتل، ولم يمت، ولا يُقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه، ويملأ الأرض عدلا وقِسْطا كما مُلئت ظلما وجورا، وهي فرقة السبأية نسبة إلى عبد الله بن سبأ (الذي كان يهوديا وأعلن إسلامه) صاحب فكرة وصاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه.([1])
الفرقة الثانية: وهم عامة أتباع علي بن أبي طالب، بايعوا ابنه الحسن بن عليّ بالخلافة.

تنازل الحسن بن عليّ عن الخلافة

بعد تنازل الحسن بن عليّ عن الخلافة ومبايعته معاوية بن أبي سفيان ودعوة أتباعه إلى ذلك، وافقه على ذلك عامة أتباعه فبايعوا معاوية، وصاروا ضمن أهل السنة والجماعة.
ورفضت طائفة قليلة ما فعله الحسن بن علي، وحاول بعضهم اغتياله،([2]) وهذه الطائفة هي التي استمرت بعد ذلك في العمل السياسي المعارض للأمويين في الكوفة، وكان نظرُها متَّجها إلى الحسين بن علي، وبعد حوالي عشرين سنة أرسلوا إليه يعلمونه أنهم قد بايعوه، وأنهم ينتظرون قدومه إلى الكوفة ليتولى الخلافة.

مقتل الحسين بن علي

بعد مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه سنة (60هـ) اختلف أتباعه إلى خمس فرق:
الأولى: قال أصحابها: قد اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين؛ فإذا كان الذي فعله الحسن بن علي حقا بتنازله عن الخلافة على الرغم من كثرة أتباعه، فإنه كان أولى بالحسين أن لا يثور مع قلة أتباعه. وإن كان ما فعله الحسين حقا واجبا، فإن ما فعله الحسن كان باطلا. وبذلك شكُّوا في إمامتهما، وتركوا التشيُّع ورجعوا إلى أهل السنة والجماعة.([3])

الثانية: قالت بإمامة محمد بن عليّ بن أبي طالب (المعروف باسم محمد بن الحنفية نسبة إلى أمه وهي جارية من بني حنيفة). واستدلوا بأنه لم يبق أحد أقرب إلى علي بن أبي طالب من ابنه محمد بن الحنفية، فيكون هو أولى الناس بالإمامة كما كان الحسين أولى بها بعد أخيه الحسن،([4]) كما زعموا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بَشَّرَ بميلاده، وأنّ عليّ بن أبي طالب سلَّمه الرَّايَة في مَوْقِعَة الجَمَل فكان ذلك إشارة إلى أحقيّته بالإمامة. وهؤلاء هم الذين عُرفوا باسم "الشيعة الكيسانية".

وبعد موت محمد بن علي (محمد بن الحنفية) سنة (81هـ) انقسمت هذه الفرقة إلى طوائف: طائفة قالت إنه هو المهدي، وإنه لم يمت ولا يجوز أن يموت ولكنه غاب ولا يُدرى أين هو، وسيرجع ويملك الأرض، ولا إمام بعد غيبته إلى أن يرجع. وكان رأس هذه الطائفة رجل يقال له "ابن كرب" ولذلك سموا "الشيعة الكربية"، وقد تفرعت منها فرق ادعى بعض أصحابها النبوة. وطائفة قالت إن محمد بن الحنفية حيّ لم يمت، وأنه مقيم بجبال رضوى بين مكة والمدينة يحرسه أسد ونمر إلى أن يحين موعد خروجه، وأنه هو المهدي المنتظر. وطائفة قالت إن الإمام بعد محمد بن عليّ هو ابنه أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي (ت97هـ)، وهؤلاء هم الشيعة "الأبو هاشمية". وقد تفرقوا إلى طوائف كثيرة بعد موت أبي هاشم، منهم من ادعى النبوة، ومنهم من ادعى الألوهية للأئمة، وظهر في كثير منهم القول بتناسخ الأرواح.([5]) وأبو هاشم هذا هو الذي يقول العباسيون إنّه نقل إليهم وصيّة أبيه محمد بن علي (محمد بن الحنفية) بنقل الإمامة من البيت العلويّ إلى البيت العبّاسيّ، وكان ذلك سنة 97هـ.([6])

وهنا نرى أن فكرة "المهدي المنتظر" ظهرت بقوة عند الشيعة الكيسانية، وكذلك فكرة غيبة الإمام وانتظار عودته، وهم أول من قال بفكرة الأسباط.([7]) وقد انتقلت هذه الأفكار فيما بعد إلى الشيعة الإثني عشرية مع إدخال بعض التعديلات عليها.

الثالثة: قالت إن الأئمة بعد الرسول ثلاثة فقط: عليّ والحسن والحسين، وأن هؤلاء هم الذين أوصى إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمائهم واستخلفهم بعده، وأنه لا إمامة لأحد بعدهم.([8])

الرابعة: قالت إن الإمامة بعد الحسين صارت في أبناء الحسن والحسين يستحقها من ثار ودعا لنفسه بالإمامة، فمن فعل ذلك صارت إمامته واجبة وطاعته لازمة، أما من لم يعلن الثورة وادعى الإمامة وهو قاعد في بيته فلا إمامة له، ويحرم على الناس اتباعه.([9])

الخامسة: قالت إن الإمام بعد الحسين هو ابنه زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب. وهو الخط الذي نشأت منه الشيعة الإثني عشرية.

وفاة زين العابدين علي بن الحسين

بعد موت زين العابدين علي بن الحسين (ت94هـ) نقل عامة شيعته الإمامة إلى ابنه محمد بن علي بن الحسين، المكنى "أبو جعفر" والمشهور باسم "محمد الباقر".

وفاة محمد الباقر

بعد وفاة محمد الباقر (ت114هـ) انقسم شيعته إلى ثلاث فرق:
الأولى: اعتقدت أن الإمام بعده هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الذي أعلن الثورة على السلطة الأموية وأعانه على ذلك أخوه إبراهيم بن عبد الله في البصرة، وانتهى الأمر بهزيمتهما ومقتلهما. وبعد مقتله قال أتباعه إنه لم يمت، وإنه المهدي المنتظر.([10])

الثانية: رأى أصحابها أن زيد بن عليّ بن الحسين (وهو الأخ الأصغر لمحمد الباقر) كان على استعداد للثورة والمطالبة بالخلافة، وبذلك كان أكثر استجابةً لطموحاتهم، فرأوا أنّه هو الأولى بالإمامة بعد أخيه محمد الباقر. وهؤلاء هم الشيعية "الزيدية" نسبة إلى زيد بن عليّ بن الحسين، وجعلوا الإمامة في ذريته.([11]) وأهم ما ميَّز الشيعة الزيدية عن غيرهم من فرق الشيعة القول بجواز إمامة المفضُول مع وجود الأفضل: بمعنى أنّ عليّ بن أبي طالب كان أفضل الصحابة جميعاً، وأنه كان أولى بالخلافة، ولكن لَمَّا كان عامّة النّاس قد بايعوا الخلفاء الراشدين الثلاثة وقدَّموهم على عليّ بن أبي طالب، وقد قَبِل عليّ بن أبي طالب نفسه بذلك، فإنّ خلافتهم صحيحة. كما يرفضون فكرة حصر الإمامة في الابن الأكبر، ويرون أنّه يجوز لكل فاطميّ عَدْلٍ زاهدٍ شُجَاع سخيّ يثور على السلطة أن يكون إماماً واجب الطاعة.

الثالثة: نقلت الإمامة إلى ابنه الأكبر جعفر الصادق، وهو الخط الذي نشأت منه الشيعة الإثني عشرية.([12])

وفاة جعفر الصادق

كان لجعفر الصادق عدّة أبناء أكبرهم إسماعيل، والثاني عبد الله الأفطح، والثالث محمد بن جعفر، والرابع موسى الكاظم. وكان من المفترض -وفق النظرية الشيعيّة في الإمامة- أن يكون إسماعيل هو الإمام بعد موت أبيه جعفر الصادق، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد مات إسماعيل قبل موت أبيه ووقعت النظريّة أمام اختبار عسير: كيف يمكن التوفيق بين القول بأن الإمامة تكون في الابن الأكبر من ذريّة الحسين وبين موت الابن الأكبر إسماعيل قبل توليه الإمامة؟ وهنا تفرق شيعة جعفر الصادق إلى ست فرق:

الأولى: قالت إن جعفر الصادق لم يمت، بل غاب غيبة، وأنه هو المهدي المنتظر وسيعود ويتولى أمر الناس. ونسبوا إلى جعفر الصادق أنه قال: "إذا رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوه فإني أنا صاحبكم ]أي المهدي المنتظر[...وإن جاءكم من يخبركم عني أنه مرَّضني وغسّلني وكفّنني فلا تصدقوه، فإني صاحبكم صاحب السيف."([13]) وهم الذين سموا "الشيعة الناووسية".

الثانية: التزمت بقاعدة كون الإمامة في الابن الأكبر، وقالوا إن الإمامة تكون لإسماعيل، وقالوا إنه لم يَمُتْ ولا يموت، بل اختفى وسيظهر بعد ذلك، وهو المهدي المنتظر. وهم الذين شكلوا فرقة "الشيعة الإسماعيلية" الخالصة. وكان زعيمهم "أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع" الذي قال أتباعه فيما بعد إنه نبيّ، وإنه لم يُقتل ولم يمت، وقال بعضهم إنه تحوّل إلى ملاك من الملائكة. وقد تفرعت من هذه الفرقة فرق كثيرة، منها القرامطة الذين هجموا على حُجّاج بيت الله الحرام في مكة سنة 317هـ فقتلوا ثلاثين ألفا منهم في الحرم المكي، وأخذوا الحجر الأسود.

الثالثة: التزمت هي أيضا بقاعدة كون الإمامة في الابن الأكبر، وقالوا إن الإمامة تكون لإسماعيل، ولما كان إسماعيل قد توفي فإن الإمامة تنتقل إلى ابنه الأكبر محمد بن إسماعيل الذي تركه أبوه في الثالثة من عمره. وهؤلاء هم الذين سُمُّوا بعد ذلك "الشيعة الإسماعيلية المباركية" نسبة إلى رئيسهم الذي كان يسمى "المبارك" وكان مولى لإسماعيل بن جعفر الصادق.([14]) ويقول أصحاب هذه الفرقة -في صراعهم ضد الشيعة الإثني عشرية- أن موسى الكاظم إنما جُعِلَ وصيّاً على ابن أخيه محمد بن إسماعيل في انتظار أن يكبر ويَتَهَيَّأَ للإمامة، ولكن موسى الكاظم طَمَع في الإمامة لتكون له ولأولاده من بعده واغتصبها منه. وردًّا على هذا الاتهام الصادر من الشيعة الإسماعيلية، اتَّهَم الشيعة الإثني عشريّة محمد بن إسماعيل (إمام الإسماعيلية) بأنه وَشَى بموسى الكاظم لدى هارون الرشيد وقَبَضَ مَبْلَغاً من المال على وشايته تلك، وأنّ موسى الكاظم سُجِنَ بسبب تلك الوشاية.([15])

الرابعة: التزمت هي أيضا بقاعدة كون الإمامة في الابن الأكبر لجعفر الصادق، ولَمّا كان الابن الأكبر إسماعيل قد مات قبل وفاة أبيه، نقلوا الإمامة إلى الابن الثاني، وهو عبد الله بن جعفر الأفطح، وسُمُّوا بعد ذلك "الشيعة الأفطحية" نسبة إليه. ووضعوا روايات منسوبة إلى جعفر الصادق تقول إنه أوصى بالإمامة بعده لابنه عبد الله الأفطح.([16])

الخامسة: قالت إن الإمام هو الابن الثالث: محمد بن جعفر الصادق. ورووا في ذلك رواية عن جعفر الصادق تشير إلى أنه هو الإمام بعده.([17])

الفرقة السادسة: رفضت نقل الإمامة إلى ذرية الابن الأكبر إسماعيل بن جعفر الصادق، ورفضوا نقلها إلى الابن الثاني عبد الله الأفطح؛ لأنه كانت فيه عاهة، ولم يكن صاحب علم، كما رفضوا أيضاً نقلها إلى الابن الثالث محمد بن جعفر الصادق؛ لأنه كان من الشيعة الزيدية وكان يرى صحّة خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب. ولم يبق لهم خيار سوى الابن الرابع، وهو موسى الكاظم فاختاروه للإمامة، وقد شجّعهم على ذلك أنه كان أكثر إخوته علماً. وبرَّرُوا خَرْقَهُم لقانون الوراثة في الابن الأكبر بفكرة "البَدَاء"، ووضعوا في ذلك روايات نسبوها إلى جعفر الصادق.

وفاة موسى بن جعفر (الكاظم)

بعد موت موسى الكاظم في الحبس (ت183هـ) اختلفت شيعته إلى فرق كثيرة:
الأولى: ذهبت إلى أنه خرج من الحبس نهارا دون أن يراه أحد، وأنه لم يمت، بل اختفى، وهو المهدي المنتظر، ورووا في ذلك روايات عن أبيه جعفر الصادق أنه هو المهدي المنتظر.([18])

الثانية: ذهبت إلى القول بتوقُّف الإمامة في موسى الكاظم، وأن من يأتي بعده هم خلفاءه فقط إلى وقت خروجه، وزعموا أنه لم يمت.([19])

الثالثة: قالوا إنه مات، ولكن رجع بعد موته، وأنه يُسمّى القائم لأنه يقوم بعد موته. وقالوا إنه مُخْتَف، وأن بعض أصحابه يلقونه ويرونه، وأنه لا تكون الإمامة بعده لغيره حتى يرجع. ورووا في ذلك روايات عن جعفر الصادق.([20])

الرابعة: قالوا إن فيه شبها بعيسى بن مريم، وأنه مات ورفعه الله إليه، وأنه يرجع في وقت قيامه فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. ورووا في ذلك روايات عن أبيه جعفر الصادق.([21])

الخامسة: قالت إن موسى بن جعفر لم يمت ولم يحبس، وأنه حيّ غائب، وأنه القائم المهدي، وأنه في وقت غيبته استخلف على الأمر "محمد بن بشير" من أهل الكوفة، وجعله وصيَّه، وأعطاه خاتمه، وعلّمه جميع ما يحتاج إليه أتباعه.([22])

السادسة: ذهبت إلى نقل الإمامة إلى ابنه عليّ بن موسى ليكون هو الإمام الثامن لهم، وهذه الفرقة هي التي نتجت عنها فرقة الشيعة الإثني عشرية.

وفاة علي بن موسى (الرضا)

بعد وفاة علي بن موسى (ت203هـ) وقد ترك ولدا واحدا فقط عمره سبع سنوات، انقسم شيعته حول من يكون الإمام بعده إلى فرقتين:
الأولى: رفضت إمامة ابنه محمد بن عليّ؛ لأنه كان في مرحلة الصبا، حيث كان عمره سبع سنوات فقط، وقالوا بإمامة أخيه أحمد بن موسى بن جعفر.([23])

الثانية: رفضت نقل الإمامة إلى أخيه، وجعلتها في ابنه الوحيد محمد بن علي، وبرَّروا القول بإمامته في سنّ الصبا بمبررات سيأتي ذكرها عند الحديث عن أثر صراع المشروعية في تكوين المعتقدات الشيعية. وهم الذين يشكلون خط الشيعة الإثني عشرية.

وفاة محمد بن علي (الجواد)

بعد وفاة محمد بن علي (ت220هـ) اختلف أتباعه فيمن يكون الإمام بعده إلى فرقتين:([24])
الأولى: ذهبت إلى أن الإمامة بعده تكون لابنه علي بن محمد، وهم الذين شكلوا خط الشيعة الإثني عشرية.
الثانية: ذهبت إلى أن الإمامة تكون لأخيه موسى بن محمد، ولكنهم رجعوا بعد ذلك إلى القول بإمامة عليّ بن محمد.

وفاة علي بن محمد (الهادي)

بعد وفاة عليّ بن محمد اختلف أتباعه فيمن يكون الإمام بعده إلى ثلاث فرق:([25])
الأولى: قالت إن الإمامة تنتقل إلى ابنه الأكبر محمد بن عليّ الذي توفي قبل وفاة أبيه، وقالوا إنه لم يمت، وهو المهدي المنتظر. ورووا في ذلك روايات عن أبيه بأنه المهدي المنتظر.

الفرقة الثانية: قالت إن الإمامة تنتقل إلى الابن الثاني: جعفر بن علي لأنه صار هو الأكبر بعد وفاة أخيه محمد، ورووا أن أباه أوصى إليه بالإمامة بعد وفاة أخيه محمد.

الثالثة: قالت إن الإمامة تكون للابن الثالث: الحسن بن علي، ورووا أن أباه أوصى إليه وليس إلى أخيه الأكبر جعفر. وهذه الفرقة هي التي شكّلت خط الشيعة الإثني عشرية.

وفاة الحسن بن علي (العسكري)

بعد وفاة الحسن بن عليّ (العسكري) دون أن يترك ولداً وقع المأزق الأكبر في تاريخ التيار الشيعي، وهو انقطاع سلسلة الإمامة. وقد اختلف شيعة الحسن العسكري حول كيفية الخروج من هذه الإشكالية، وانقسموا إلى أربع عشرة فرقة، أهمها الآتية:([26])
- أَقَرَّ قوم بأنّ الحسن بن عليّ لم يكن له ولد، وقالوا بأنه لم يمت وإنما غاب، وسيعود
وهو المهدي المنتظر.
- أَقَرَّ قوم أيضاً بأن الحسن بن عليّ لم يكن له ولد، وقالوا بانتقال الإمامة إلى أخيه
جعفر بن علي.
- أَقَرَّ آخرون أيضاً بأنّ الحسن بن عليّ لم يكن له ولد، ولكنهم زعموا أنه ترك جارية حاملاً، وأنّها سوف تلد ذكراً عندما تلد، وسوف يكون هو الإمام الثاني عشر.
- وزعمت فِرقة أنّ الحسن بن علي ترك ولداً مخفيّا عمره خمس سنوات هو الإمام الثاني عشر، وأنه غاب وسيعود. وهذه الفِرقة هي التي صارت تسمى "الشيعة الإثني عشرية" و"الشيعة الجعفرية"، وهم الموجودون الآن في إيران والعراق وما جاورهما.

خلاصة

إنّ الناظر في هذه المسيرة الخصبة التي فرَّخت عشرات الفِرَق الشيعية بسبب الاختلاف حول من يكون الأحقّ بالإمامة لا يجد أدنى شكٍّ في أنه لم تكن هناك أيُّ وصيَّة بالإمامة لا من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من عليّ بن أبي طالب، ولا من إمام من أئمة الشيعة إلى الإمام الذي يأتي بعده، وأن فكرة الوصية التي يقول الشيعة الإثني عشرية إنها نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بأسماء الأئمة لم تكن موجودة في مرحلة تكوُّن تلك الفِرَق الشيعية، وإنما وُضِعت هذه الفكرة في وقت متأخر، وكانت إفرازا للصراعات الفكرية بين تلك الفِرق. ولو كانت الوصية موجودة لكانت معلومة لدى عامة الشيعة وخاصتهم والتزموا بها ولم تقع بينهم تلك الانقسامات التي كانت تتكرر بعد وفاة كل إمام. كما تدل تلك الانقسامات على أن النصوص المتضاربة التي روتها تلك الفرق ونسَبَتْها إلى رموز البيت العلوي -خاصة جعفر الصادق- موضوعة كلّها، ودليل وضعها تضاربها، حيث كانت كل فرقة تضع نصوصا تحتجُّ بها على صحّة اختيارها، وتضع الفرق المخالفة نصوصا تعارضها وتنسبها إلى المصدر نفسه لتبطل اختيارات الفرق المخالفة، وكان هذا يحصل بعد وفاة كل إمام من الأئمة.

([1]) النوبختي. فرق الشيعة. ص20.
([2]) النوبختي. فرق الشيعة. ص21.
([3]) المرجع نفسه. ص23.
([4]) المرجع نفسه. ص23-24.
([5]) النوبختي. فرق الشيعة. ص24-41.
([6]) اليعقوبي. تاريخ اليعقوبي. ج3. ص40.
([7]) أبو خلف القمي. (1968م). كتاب المقالات. نقلا عن: د. علي سامي النشار. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام. القاهرة: دار المعارف. ج2، ص73.
([8]) النوبختي. فرق الشيعة. ص48.
([9]) المرجع نفسه. ص48.
([10]) النوبختي. فرق الشيعة. ص53-54.
([11]) المرجع نفسه. ص51.
([12]) المرجع نفسه. ص55.
([13]) النوبختي. فرق الشيعة. ص57.
([14]) المرجع نفسه. ص58.
([15]) انظر: علي سامي النشار. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام. ج2. ص284-285.
([16]) النوبختي. فرق الشيعة. ص65.
([17]) المرجع نفسه. ص65.
([18]) المرجع نفسه. ص67-68.
([19]) النوبختي. فرق الشيعة. ص68.
([20]) المرجع نفسه. ص68.
([21]) المرجع نفسه. ص68.
([22]) المرجع نفسه. ص70.
([23]) المرجع نفسه. ص72.
([24]) النوبختي. فرق الشيعة. ص77.
([25]) المرجع نفسه. ص79.
([26]) النوبختي. فرق الشيعة. ص79-94.
 
أعلى