العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فهم التشيع جزء 8 صراع المشروعية وأثره في تشكيل الفكر الشيعي (1)

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
صراع المشروعية وأثره في تشكيل الفكر الشيعي (1)

في الأنظمة الدستوريّة يلجأ المتنافسون على الحكم عند الاختلاف والتّنازع إلى البحث عن دعائم ومبررات دستوريّة وقانونيّة لإثبات المشروعيّة والأولويّة، وفي المجتمعات القبليّة يتفاضل المتنافسون عند التّنازع بسلسلة النَّسَب والولاء القَبَلي، وفي المجتمعات الدينيّة يلجأ المتنافسون إلى البحث عن مبررات ودعائم دينيّة ترجِّح كفَّة أحد المتنافسين على الآخرين. وقد كان المجتمع الإسلاميّ في القرون الأولى يحمل طابعاً دينيّاً قبليّاً. وفي خِضَمّ الصّراع السياسيّ بين مختلف الأطراف الطّامحة إلى الوصول إلى الحكم كان لابُدّ لكلّ طائفة من الطوائف أن تبحث عن دعائم ومبررات دينيّة وقبليّة تُبْرِزُ فَضْلَ زعمائها، وتعطي لهم المشروعيّة لتولِّي الحكم، والتّقدُّم على زعماء غيرها من الطوائف المخالفة.

أما الجانب القبلي العصبي بالنسبة للشيعة فقد كان مركّزاً على القرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم هو المؤسِّس والحاكم الأول للدولة الإسلامية، فتكون وراثته -حسب أعراف النظام الوراثي- لأقرب الناس إليه نسباً. وبما أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد، فإنّ حقّ الوراثة ينتقل إلى أبناء عمومته، وقد وقع التنافس بينهم على من يتولّى وراثته؛ وهو التنافس الذي ظهر بين العلويين والعبّاسيين. وأما الجانب الديني، فقد كان التركيز فيه على تأويل النصوص الشرعية لخدمة الأغراض السياسية والحزبية، وإبراز فضائل الزعماء مع الطعن في المنافسين، ووضع الأحاديث والآثار، ووصل الأمر ببعض الشيعة إلى التشكيك في اكتمال القرآن الكريم الموجود بين المسلمين وادعاء إخفاء النصوص المتعلقة بإمامة علي بن أبي طالب.

لقد خاض الشيعة الإثني عشرية صراع المشروعية على جبهات مختلفة: الجبهة الداخلية ضدّ عشرات الفرق الشيعية المخالفة لهم في اختيار الأئمة، وجبهة الأمويين والعباسيين، وجبهة الصحابة الذين اختاروا للخلافة أبا بكر وعمر وعثمان قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا. وقد كان لذلك الصراع من أجل كسب المشروعية الدينية أثرٌ كبير في تكوين الفكر الشيعي وتحديد أسسه ومعالمه، حيث ظهرت كثير من المعتقدات والأفكار الشيعية نتيجة لذلك الصراع، مثل عقيدة البَدَاء، ورفع أئمتهم إلى مرتبة الأنبياء، والطعن في الصحابة، والقول بنقصان القرآن الكريم الذي نقله الصحابة، والقول بالوصية التي وردت بأسماء الأئمة، وغيرها من المعتقدات.

أولا: صراع المشروعية ضد الفرق الشيعية المخالفة

رأينا في الفصل السابق كيف كان التيار الشيعي ينقسم بعد موت كل إمام من الأئمة، وقد نتج عن ذلك ظهور عشرات الفِرق الشيعيّة كلٌّ منها تدَّعي أنّ سلسلة الأئمة التي اختارتها هي السلسلة الصحيحة، وتروي فيها آثاراً ووصايا، وأدّى ذلك إلى ظهور صراعات فكرية شديدة بين تلك الفِرق. وقد كانت النتيجة البارزة لذلك الصراع إنتاج المئات من النصوص التي تسعى إلى إثبات المشروعية لهذه الفِرقة أو لتلك، وإبطال مشروعية الفِرق المخالفة. كما أدى ذلك الصراع إلى نشوء وتطور أفكار ومعتقدات تلك الفِرق. وسأقتصر على عرض نماذج من الآثار التي نتجت عن صراع المشروعية عند فرقة الشيعة الإثني عشرية.

النموذج الأول
: لقد كان تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية هدما صريحا للنظرية الشيعية، ولذلك اعتبرها الشيعة خيانة سياسية. كما أن أكثر العلويين الثائرين على السلطتين الأموية والعباسية كانوا من ذرية الحسن بن علي، وقد شكل ذلك هدما آخر لنظرية الشيعة الإثني عشرية القائمة على حصر الإمامة في ذرية الحسين بن علي وحرمان ذرية الحسن منها. وسعيا إلى تدارك آثار ذلك الهدم وضع الشيعة الإثني عشرية نصوصا -منسوبة عادة إلى جعفر الصادق- تقول بحرمان ذرية الحسن بن علي من الإمامة، منها ما رواه الكليني بسنده منسوبا إلى جعفر الصادق أنه قال: "فلما مضى عليّ عليه السلام كان الحسن عليه السلام أولى بها لكبره، فلما توفي لم يستطع أن يُدْخِل ولدَه، ولم يكن ليفعل ذلك والله عزّ وجلّ يقول: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) [1] فيجعلها في ولده، إذاً لقال الحسين: أَمَرَ اللهُ بطاعتي كما أَمَرَ بطاعتك وطاعة أبيك، وبلَّغ فيَّ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم كما بلَّغ فيك وفي أبيك، وأذهب الله عني الرجس كما أذهب عنك وعن أبيك. فلما صارت إلى الحسين لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع أن يدّعي عليه كما كان هو يدَّعي على أخيه وعلى أبيه، لو أرادا أن يَصْرِفَا الأمر عنه ولم يكونَا ليفعلاَ. ثم صارت حين أفضت إلى الحسين عليه السلام فجرى تأويل هذه الآية (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ثم صارت من بعد الحسين لعلي بن الحسين...".([2])

انظر كيف أن آية: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) تُأَوَّلُ حسب الحاجة؛ ففي المرة الأولى احتاج الشيعة إلى إثبات أولويّة الحسين بالإمامة على أبناء الحسن بن عليّ (لأن الأصل في النظرية الشيعية أن الإمامة تنتقل إلى الابن الأكبر) فجرى تأويل الآية بأن المقصود بـ"أولو الأرحام" هم الإخوة، فلما رأى الشيعة الإثني عشرية حصر الإمامة في ذريّة الحسين، وأنّها تكون في الأبناء لا في الإخوة، أوَّلُوهَا تأويلاً معاكساً فصار المقصود بـ "أولو الأرحام" ليس الإخوة بل الأبناء.

وروى الكليني بسنده عن عبد الرحيم بن روح القصير منسوبا إلى محمد الباقر أنه سئل عن قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) [3] فيمن نزلت؟ فقال: نزلت في الإِمْرَةِ، إنّ هذه الآية جَرَتْ في وَلَدِ الحسين عليه السلام من بعده، فنحن أَوْلَى بالأمْرِ وبرسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم من المؤمنين والمهاجرين والأنْصَار. قلت: فولَدُ جَعْفَر لهم فيها نصيب؟ قال: لا، قلت: فَلِوَلَدِ العبّاس فيها نصيب؟ فقال: لا، فعددت عليه بُطُونَ بني عبد المطَّلب، كلُّ ذلك يقول: لا، قال ونسيت وَلَدَ الحسن عليه السلام فدخلت بعد ذلك عليه فقلت له: هلْ لولد الحسن فيها نصيب؟ فقال: لا، والله يا عبد الرحيم ما لمحمديّ فيها نصيب غيرنا".([4])

وهذا النص يضرب عصافير كثيرة بحجر واحد: فهو يستبعد ذرية الحسن بن عليّ من الإمامة، ويستبعد العباسيين، وغيرهم من أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم.

النموذج الثاني:
لما وقَع النِّزاع بين الشيعة الزيديّة والشيعة الإثني عشرية على من يكون الإمام بعد زين العابدين عليّ بن الحسين، وضع الشيعة الإثني عشريّة نصا في كون الإمامة تتبع السلاح، وأن السلاح عند إمامهم وليس عند إمام الشيعة الزيدية. روى الكليني بسنده عن سعيد السمان قال: "كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه رجلان من الزيدية فقالا له: أَفيكُم إمَامٌ مُفْتَرَضُ الطّاعة؟ قال: فقال لا. قال: فقالا له: قد أخبرنا عنك الثُّقات أنّك تُفْتِي وتُقِرُّ وتقول به ونسمّيهم لك: فلان وفلان، وهم أصحابُ وَرَعٍ وتَشْمِير وهم ممن لا يكذب، فغضب أبو عبد الله عليه السلام فقال: ما أمرتهم بهذا، فلمّا رأيَا الغضب في وجهه خرجَا،([5]) فقال لي: أتعرف هذين؟ قلت: نعم، هما من أهل سوقنا وهما من الزيديّة، وهما يزعمان أنّ سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عبد الله بن الحسن، فقال: كذبَا لعنهما الله، والله ما رآه عبد الله بن الحسن بعينيه، ولا بواحدة من عينيه، ولا رآه أبوه، اللهم إلاّ أنْ يكون رآه عند عليّ بن الحسين...وإنّ عندي لراية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الـمِغْلَبَة، وإنّ عندي أَلْوَاح موسى وعصاه، وإنّ عندي لخاتم سليمان بن داود، وإنّ عندي الطَّسْت الذي كان موسى يقِّربُ به القربان... ومثل السلاح فينا كمثل التابوت في بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل في أيِّ أهْل بيْتٍ وُجِدَ التابوتُ على أبوابهم أُوتُوا النبوّة، ومن صار إليه السلاح منا أوتي الإمامة."([6])

وفي هذا النص ترى قمة الخيال في صناعة الخرافة: كيف وصلت أدوات سليمان وموسى عليهما السلام إلى جعفر الصادق؟

النموذج الثالث
: لَمّا مات جعفر الصادق، وكان ابنه الأكبر إسماعيل قد مات في حياته، صار الابن الأكبر هو عبد الله الأفطح، وكان الـمُفْتَرَض أن يكون هو الإمام، ويبدو أنه كان يسعى إلى ذلك،([7]) ولكن بعض الشيعة رفضوا القول بإمامته بسبب عاهته وقلّة علمه، وعيَّنوا بدلا منه أخاه موسى، ومن أجل تبرير عدولهم عن قاعدة الإمامة في الابن الأكبر وضعوا نصوصا تضيف شروطا أخرى للإمامة، هي: انتفاء العاهة، وكونُه أعلم أولاد الإمام السابق. روى الكليني بسنده منسوبا إلى جعفر الصادق أنه قال: "إنّ الأمْرَ في الكبير ما لم تكن فيه عاهة".([8]) وروى الكليني بسنده عن عبد الأعلى قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الـمُتَوَثِّبُ على هذا الأمر المدَّعي له ما الحُجّة عليه؟ قال: يُسْأل عن الحلال والحرام."([9])

النموذج
الرابع: كان لجعفر الصادق أبناء: أكبرهم إسماعيل، ثم عبد الله الأفطح، ثم محمد، ثم موسى. وحسب النظريّة الشيعيّة التي تنُصُّ على أنّ الإمامة تكون في الابن الأكبر من أولاد الإمام، فقد صار معلوماً لدى الشيعة أنّ الإمام السّابع هو إسماعيل بن جعفر الصادق. وطبقاً لما يقول به الشيعة في نظريّة الوصيّة تكون إرادة الله عزّ وجلّ قد اقتضت أنْ يكون إسماعيل بن جعفر هو الإمام السابع، ولا بُدّ أن يكون اسمه مُدْرجاً في الوصيّة المزعومة. ولكن جاءت المفاجأة، ووقع ما لم يكن في الحُسْبَان، فقد مات إسماعيل قبل وفاة أبيه، وبذلك وقعت نظريّة الوصيّة في مأزق: لقد مات الإمام السابع والإمام السادس مازال حيّاً، فمن سيكون الخليفة بعده؟ وقد تكررت هذه الحادثة مع الإمام العاشر (أبو الحسن عليّ بن محمد الهادي)، حيث كان له أولاد أكبرهم محمد وكان المفترض أن يكون هو الإمام الحادي عشر، ولكن قصّة الإمام السابع تتكرَّرُ مرّة أخرى، فيموت الإمام الحادي عشر قبل وفاة الإمام العاشر، ويتكرر المأزق نفسه. وقد كان هذا طعنا مباشرا في وجود الوصية المزعومة التي تقول إنّ الأئمة قد عيَّنَهم الله تعالى ونصّ عليهم بأسمائهم، ولا يمكن للبَشَرِ تغيِيرُهم.

وقد سعى منظرو الشيعة الإثني عشرية إلى حل هذا المأزق بالقول بفكرة البَدَاء. والمقصود بالبَدَاء أنّ الله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- كان قد قضى أن يكون الإمام السابع هو إسماعيل بن جعفر، والإمام الحادي عشر هو محمد بن أبي الحسن الهادي، ولكنه -سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً- بَدَا لَهُ مَا لم يَكُنْ يُعْرَف لَهُ مِن قَبْلُ فغيَّر إرادته وقَضَى بأنْ يكون الإمامُ السابع هو موسى الكاظم، والإمام الحادي عشر هو أبو محمد الحسن العسكري.

ومن أجل تشريع عقيدة البداء وضعوا نصوصا نسبوها إلى أئمتهم، منها ما رواه الكليني بسنده عن أبي هاشم الجعفري قال: "كنت عند أبي الحسن عليه السلام بعد ما مضى ابنه أبو جعفر وإنِّي لأفكِّر في نفسي أريد أنْ أقول: كأنَّهُما أعني أبا جعفر وأبا محمد في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل ابني جعفر بن محمد عليهم السلام وإنّ قصَّتَهُما كقصَّتِهِما، إذْ كان أبو محمد عليه السلام المُرَجَّى بعد أبي جعفر، فأَقْبَلَ عليَّ أبو الحسن قَبْلَ أنْ أنْطِقَ فقال: نعم يا أبا هاشم! بَدَا للهِ في أبي محمد عليه السلام بعد أبي جعفر ما لم يكن يُعْرَف لَهُ، كما بَدَا له في موسى عليه السلام بعد مُضَيِّ إسماعيل ما كَشَفَ به عن حاله، وهو كما حدَّثَتْكَ نَفْسُكَ وإنْ كَرِهَ المُبْطلون، وأبو محمد ابني الخَلَفُ من بعدي، عنده عِلْمُ ما يُحْتَاج إليه ومَعَهُ آلَةُ الإمامة".([10])

ولم يقف الأمر عند حدّ نسبة البَدَاء (القائم على الجهل) إلى الله سبحانه وتعالى، بل تعدَّى ذلك إلى جعل البَدَاء جزءاً من عقيدة الشيعة، وأصبحت عقيدة البَدَاء عندهم أفضل ما يُعْبَدُ به الله سبحانه وتعالى، وأصبح الاعتقاد في فكرة البَدَاء أفضل من الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها من العبادات! روى الكليني بسنده عن زرارة بن أعين "عن أحدهما عليهما السلام ]يعني جعفر الصادق أو والده محمد الباقر[ قال: ما عُبِدَ اللهُ بشيءٍ مثل البَدَاء. وفي رواية ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام: ما عُظِّمَ اللهُ بمثل البَدَاء".([11]) وروى الكليني بسنده منسوبا إلى جعفر الصادق أنه قال: "لو علم الناس ما في البَدَاء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه."([12])

وهكذا صار وصف الله سبحانه وتعالى بالجهل من أفضل العبادات التي يتقرب بها الإنسان الشيعي إلى الله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-! كل ذلك من أجل الدفاع عن نظرية الإمامة وترقيع ما فيها من خروق لا يمكن ترقيعها!

ولما كانت عقيدة "البَدَاء" فيها مخالفة صريحة للعقيدة الإسلامية لأنها طعن صريح في صفة العلم عند الله تعالى، فإن رجال الدين الشيعة في كتاباتهم الموجهة لغير الشيعة يحاولون الدفاع عنها وتكييفها في صورة مقبولة، وإدخالها في قوله الله عز وجل: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)[13]، ويأولون ما نُسب إلى أئمتهم. ولكن ما يقولونه مخالف لما هو موجود في نصوصهم، فالنصوص الموجودة في الكليني صريحة، فانظر مثلاً ما نُسِبَ إلى الحسن العسكري: "بَدَا للهِ في أبي محمد عليه السلام بعد أبي جعفر ما لم يكن يُعْرَف لَهُ، كما بَدَا له في موسى عليه السلام بعد مُضَيِّ إسماعيل ما كَشَفَ به عن حاله، وهو كما حدَّثَتْكَ نَفْسُكَ وإنْ كَرِهَ الـمُبْطلون"! فالله -سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً- بدا له "ما لم يكن يُعْرَفُ له"، ثم يُصِرُّ نَاسِبُ هذا القولِ إلى الحسن العسكري على وَصْفِ الله سبحانه وتعالى بهذا الوصف القبيح بقوله: "وإن كره المبطلون"، أي المخالفون المنكرون لهذا القول.

النموذج الخامس
: توفي الإمام الثامن للشيعة الإثني عشرية (علي الرضا) وكان له أخ كبير وابن صغير مازال في السابعة من عمره، وقد اختلف الشيعة فيمن يُنَصَّبُ الإمام بعده: أخوه الذي تتوفر فيه شروط الإمامة مِنْ عِلْمٍ ونُضْجٍ أم يجب الالتزام باختيار الابن ولو كان صبيا؟ وقد اختار بعض الشيعة الأخ ورفضوا إعطاء الإمامة لصبي لا علم ولا فهم له. واختار الشيعة الذين كوَّنوا فيما بعد الشيعة الإثني عشرية الصبيّ، وكان لابد لهم من نصوص تُنْسَبُ إلى الأئمة تُبيِّنُ بطلان مذهب الشيعة الذين ذهبوا إلى اختيار الأخ، فوضعوا في ذلك نصوصا منها ما رواه الكليني بسنده منسوبا إلى أبي الحسن الرضا: "أنه سُئِلَ أتكون الإمامة في عَمٍّ أو خال؟ فقال: لا، فقلت: ففي أخ؟ قال: لا، قلت: ففي من؟ قال: في ولدي - وهو يومئذ لا ولد له".([14]) وما رواه بسنده عن عيسى بن عبد الله عن أبي عبد الله فيما يزعمه من حوار مع جعفر الصادق: "قال: قلت له: إِنْ كَانَ كَوْنٌ -ولا أَرَانِيَّ اللهُ- فبمن أَئْتَمُّ؟ فأومأ إلى ابنه موسى عليه السلام، قال: قلت: فإن حدث بموسى حدث فبمن أَئْتَمُّ؟ قال: بولده، قلت: فإن حدث بولده حدثٌ وترك أخاً كبيراً وابناً صغيراً فبمن أَئْتَمُّ؟ قال: بولده، ثم واحداً فواحداً."([15])

ولا شكَّ أنّ هذا النصّ إنَّما وُضِعَ بعد وفاة جعفر الصادق بأكثر من نصف قرن من الزمان، إذ أنّ جعفر الصادق توفي يوم 25 شوال 148هـ قبل ميلاد حفيده الإمام الثامن أبو الحسن الرّضا الذي وُلِدَ يوم 11 ذو القعدة 148هـ، والسائل يسأل عن حادثة سوف تقع في المستقبل بعد خمس وخمسين سنة، وهي موت الإمام الثامن أبي الحسن الرضا وتَرْكُهُ لأخٍ كبيرٍ في السنّ في حين كان أكبر أبنائه لم يتجاوز السابعة من عمره، وقد اختار الشيعة الإثني عشرية الطفل الصغير ليكون هو الإمام التاسع، ولذلك وُضِعَ هذا النصّ ونُسِبَ إلى جعفر الصّادق للاحتجاج به على الفِرْقَة الشيعيّة المخالفة. ومن غير المعقول لهذا السائل أن يتنبَّأَ بما سوف يقع لأبي الحسن الرضا وهو لم يولد بَعْد في وقت السؤال.

ولما احتجّ الشيعة الذين نقلوا الإمامة إلى الأخ بدلا من الابن الصبي بسابقة تعيين الحسين بعد الحسن، حيث انتقلت الإمامة إلى الأخ وليس إلى الابن، رد عليهم الشيعة الإثني عشرية بوضع نصوص أخرى نسبوها إلى الأئمة تُبْطِل ذلك الاحتجاج. روى الكليني بسنده منسوبا إلى جعفر الصادق أنه قال: "لا تَعُودُ الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين أبداً، إنما جرت من عليّ إلى الحسين كما قال الله تبارك وتعالى: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فلا تكون بعد عليّ بن الحسين عليه السلام إلاّ في الأعقاب وأعقاب الأعقاب".([16])

وهو نصّ يضرب عصفورين بحجر واحد: فهو يُبْطِل قول من اختار أخ علي الرضا بدل ابنه محمد الجواد، كما أنه يبطل قول الشيعة الكيسانية الذين نقلوا الإمامة بعد الحسين بن عليّ إلى أخيه محمد بن عليّ بن أبي طالب.

وفي هذه الواقعة ذاتها اختلف أولئك الذين قالوا بنقل الإمامة إلى الابن -الذي كان ما زال صبيا- في كيفية انتقال العلم إليه. فالنظرية الشيعية تنص على أن الإمام عند توليه الإمامة يكون محيطا بجميع العلوم، وعنده جميع ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من علوم الدين والدنيا،([17]) وهذا الولد ما زال في السابعة من عمره وليس له القدرة على تحصيل العلوم أصلا؟ فذهب بعضهم إلى أن الله تعالى يُعلّمه بعد البلوغ عن طريق الإلهام والنكت في القلب، والنقر في الأذن، والرؤيا الصادقة في النوم، والملك المحدِّث له، وأما قبل البلوغ فهو إمام على اعتبار أن الأمر إليه دون غيره. وذهب آخرون إلى أنه تعلم العلم اللازم بعد بلوغه من كتب أبيه. وذهبت طائفة ثالثة إلى أنه حصل له ذلك العلم وهو صبيّ عن طريق الإلهام والنكت في القلب، والنقر في الأذن، والرؤيا الصادقة في النوم، والملك المحدِّث له، وأنه في ذلك مثل يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم عليهما السلام.([18]) ويبدو أنه من هذه الحادثة ترسخت عند الشيعة الإثني عشرية فكرة الوحي إلى أئمتهم، وجعلهم بمرتبة الأنبياء في تلقي العلم، حيث يأتيهم الملك بالعلوم فيسمعون صوته ولكن لا يرون صورته. فعقيدة الوحي إلى أئمتهم نشأت لحل إشكال إثبات إمامة هذا الصبي الذي لم يصل بعد إلى مرحلة استيعاب العلوم من طريق التعلُّم. روى الكليني بسنده عن زرارة قال: "سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: (وكان رسولا نبيا) [19]) ما الرّسول وما النّبيّ؟ قال: النّبيّ الذي يَرَى في مَنَامِه ويَسْمَعُ الصَّوت ولا يُعَايِنُ الـمَلَك، والرّسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويُعَايِنُ الـمَلَك. قلت: الإمام مَا مَنْزِلَتُه؟ قال: يسمع الصوت ولا يرى ولا يُعَايِنُ الـمَلَك."([20])

النموذج السادس
: زيادة على ما سبق من النصوص التي وُضعت لحالات خاصة، وضع أتباع فرقة الشيعة الإثني عشرية نصوصا عامة ضد جميع المخالفين لهم من الفرق الشيعية، منها:

روى الكليني بسنده عن الحسين بن المختار قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جُعِلْتُ فِدَاك (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) 21] قال: كلُّ من زعم أنه إمام وليس بإمام، قلت: وإنْ كان فاطميّاً علويّاً؟ قال: وإنْ كان فاطميّاً علويّا".([22])

ولم يقف الحدُّ عند تسْوِيد وُجُوه ذريّة عليّ بن أبي طالب الذين كان لهم طُمُوح إلى الخلافة وسعوا إليها، أو كان لهم شيعة جعلوهم أئمة لهم، ووصفهم بالكذب على الله سبحانه وتعالى، بل وصلت النِّقْمة عليهم ذروتها بتكفيرهم وإخراجهم من دائرة الإسلام. روى الكليني بسنده عن أبي عبد الله جعفر الصادق قال: "من ادَّعى الإمامة وليس من أهلها فهو كَافِر".([23])

ولا يكفي في التَّنْفِير من اتِّبَاعِ الفِرَق الشيعيّة الـمُخَالِفَة القولُ بِضَلال الزّعِيم أو كفره، بل لابُدّ من صبِّ تلك اللّعنة على الأتْبَاع أيضاً حتّى لا تُسَوِّل لأحَدٍ نَفْسُه التَّفْكير في اتّخاذ خَطٍّ مُخَالِف للخطِّ الإمامي الإثني عشري. روى الكليني بسنده منسوبا إلى جعفر الصادق أنه قال: "ثلاثة لا يكلِّمُهُم اللهُ يوم القيامة ولا يزكِّيهم ولهم عذاب أليم: من ادّعى إمامة من الله ليست له، ومَنْ جَحَدَ إماماً مِن الله، ومَنْ زَعَمَ أنّ لهما في الإسلام نصيباً".([24])

ويصل الهجوم على الفرق الشيعية المخالفة قمَّتَه عندما يزعم أتباع المذهب الشيعي الإثني عشري أن إفراد أئمتهم بالإمامة فريضة شرعيّة، وأن إِشْرَاك أيّ أَحَد معهم في الإمامة شِرْك بالله تعالى، وهذا يعني أن الفرق الشيعية الأخرى التي اتخذت لها أئمة آخرين غير أئمة الشيعة الإثني عشرية قد وقعت في الشرك. وقد وضعوا في ذلك أخبارا منها ما رواه الكليني منسوبا إلى جعفر الصادق أنه قال: "مَن أَشْرَكَ مع إِمَامٍ إِمَامَتُهُ مِن عنْدِ اللهِ مَنْ لَيْسَتْ إِمَامَتُهُ مِن عنْدِ اللهِ كانَ مُشْرِكاً بالله".([25])

([1]) سورة الأحزاب: 6.
([2]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص40-44.
([3]) سورة الأحزاب: 6.
([4]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص46.
([5]) من الغريب جداًّ أن يُنْسَبَ هذا الموقف إلى جعفر الصادق! ما الدافع الذي دفعه إلى إنكار كونه إمام الزمان للشيعة الإثني عشرية؟ ولماذا لم يستغل هذه الفرصة لإخبار هذين الزيديين بوجود الوصية له بالإمامة وإقناعهما بذلك وتصحيح عقيدتهما الفاسدة في كونهما يعتقدان أنّ الخطّ الصحيح للإمامة في زيد وذريته وليس في غيره كما يرى الشيعة الإثني عشرية؟ لو كان الرجلان من غير الشيعة لكان كتمان الأمر عنهما من باب التقية، ولكنهما شيعيين أيضاً فما محلّ التقيّة؟
([6]) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص337-338.
([7]) يقول النوبختي: "وذلك أنه كان عند مضيّ جعفر أكبر ولده سنّا، وجلس مجلس أبيه، وادعى الإمامة ووصية أبيه... فمال إلى عبد الله والقول بإمامته جُلُّ من قال بإمامة أبيه، غير نفر يسير عرفوا الحق، فامتحنوا عبد الله بمسائل في الحلال والحرام من الصلاة والزكاة وغير ذلك، فلم يجدوا عنده علما." النوبختي. فرق الشيعة. ص65.
([8]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص37.
([9]) المرجع نفسه. ج2. ص36.
([10]) الكليني. أصول الكافي. ج2، ص116.
([11]) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص200-201.
([12]) المرجع نفسه. ج1. ص203.
([13]) سورة الرعد: 39.
([14]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص39.
([15]) المرجع نفسه. ج2. ص40.
([16]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص.39
([17]) النوبختي. فرق الشيعة. ص74.
([18]) المرجع نفسه، ص76.
([19]) مريم: 51، 54.
([20]) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص248.
([21]) الزمر: 60.
 
التعديل الأخير:
أعلى