العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فهم التشيع ج 11 الإمامة عند الشيعة

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
الإمامة عند الشيعة
بين الواقع والآمال


النقطة المشتركة بين جميع الفرق الشيعية هي القول بالإمامة؛ أي الاعتقاد في وجود أئمة لهم الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا. وتتفق تلك الفرق الشيعية في أن إمامهم الأول هو علي بن أبي طالب، وإمامهم الثاني هو الحسن بن علي، وإمامهم الثالث هو الحسين بن علي رضي الله عنهم. ثم اختلفوا بعد ذلك اختلافا كبيرا في من ينصبونه إماما لهم. وسيقتصر الحديث في هذا الكتاب على تصوُّر الشيعة الإثني عشرية للإمامة.

أولا: طبيعة الحكم في الإسلام

تقوم النظريّة الشيعيّة في أساسها على مبدأ وراثة النبوّة سياسيّا ودينيّاً، ولَمّا كان أقرب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو عليّ بن أبي طالب، حيث جمع بين القرابة والمصاهرة، فإنهم رأوا أنه هو وذريته يكونون أولى الناس بوراثته في الحُكم والنبوّة. وهم ينظرون إلى أن وراثة الرسالة مَكْسَب أُسرِيّ يجب أن يبقى داخل أقرب دائرة من الورثة.

وفكرة البحث عن طريقٍ لوراثة الرسالة بالنّصرة أو القرابة وُجِدت قبل الفِكر الشيعي، فقد وُجدت قبْل قيام الدولة الإسلامية، حيث اشترطت قبيلة بني عامر بن صعصعة على الرسول صلى الله عليه وسلم أن ترث الحكم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مقابل أن تأويه إليها وتؤمن به وتنصره وتدافع عنه، وتوفر له مكان إقامة دولة للإسلام والمسلمين. روى ابن إسحاق عن الإمام الزهري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم "أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس...: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال: فقال له: أَفَتُهْدَفُ نُحُورُنَا للعرب دُونَك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه".([1])

إن هذه الواقعة دليل على أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يكون الحكم بعده شورى بين المسلمين، وأنه لا يصحّ أن تختصّ به أُسرة من الأسر أو قبيلة من القبائل دون غيرها.

لقد كان هذا العَرْض من هذه القبيلة في أصْعَب الظروف التي مرّت بها الدعوة وعاشَها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان في أمسّ الحاجة إلى مَن يحمي الدعوة ويَفْسَح لها مجالاً للانتشار، وكان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يُعطِي مُقَابِل الحصول على ذلك امتيازاً لتلك القبيلة بأن تتولَّى الحكم بعده، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يُدرك الخطورة التي تنتج عن احتكار الحكم في أسرة أو قبيلة، والآثار السلبية التي يخلّفها ذلك على مستقبل الإسلام والمسلمين، فضلاً عن أن ذلك يخالف المبادئ التي جاء بها الإسلام.

ويُروى أنه قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أراد عمُّه العباس رضي الله عنه أن يأخذ تفويضاً أو وصيّة من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يكون الحكم وراثيّاً في أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم، وطلب من ابن أخيه عليّ بن أبي طالب أن يطْلُب ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن عليّ بن أبي طالب كان يُدْرِك بعلمه وبصيرته الإسلامية أنّ الحُكم في الإسلام شُورى بين المسلمين ولا يمكن أن يكون حِكْراً على أُسْرِة أو قَبِيلة، وأنّه إذا طلب ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم ورفضَ الرسول صلى الله عليه وسلم طلبه ذلك فإن ذلك الرّفْض يصير دليلاً ليس فقط على عدم أولوِيَّتهم بالحكم، بل دليلاً على عدم جواز تولِّيهم الحُكم أصلاً، فيُمْنَعُوا مِن ذلك منعاً مطْلقا.([2])

ثانيا: صفات الأئمة

لقد كانت الحجة الأساسية لأنصار عليّ الأوائل في تقديمه للخلافة هي قرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه الميزة لم تَعُدْ كافيّة فيما بعد لتفضيل سلسلة الأئمة التي اختارها الشيعة الإثني عشرية على أئمة الفِرَق الشيعية الأخرى؛ لأنّ أئمتهم هم أيضاً من ذريّة عليّ وفاطمة، كما أن العباسيين صاروا ينازعونهم في ذلك؛ لأنهم هم أيضاً أصحاب قرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم. وأمام هذه التحديات احتاج الشيعة إلى مبررات إضافيّة -زيادة على مبرِّر القرابة والمصاهرة- تعطي لأئمتهم مبرراً قويّاً للتَّفرُّد بالإمامة، وبناء على ذلك أضفوا عليهم أوصافا خيالية، حتى ذهب بعضهم إلى درجة إعطائهم صفة الألوهية.

ومن الدوافع التي دفعت الشيعة إلى القول بعصمة الأئمة أنهم لَمّا طعنوا في عدالة الصحابة ورفضوا الأحاديث التي رُوِيَت من طريقهم، كان لابد من البحث عن مصدر بديل، ولم يكن هناك طريق أفضل من فكرة الإمام المعصوم الذي وَرِثَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الأنبياء والرسل السابقين علماً خفيّاً فيه ما يحتاج إليه الناس منذ خُلِقَت الدُّنيا إلى أن تقوم الساعة. وبذلك أوجدوا مصدراً تشريعيّا خاصّاً بهم، وأصبحت الأقوال المنسوبة إلى أئمتهم سُنّة لا تقلّ عن سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم؛([3]) لأنها قول إمام معصوم مثل الأنبياء والرسل. ومادام الإمام معصوماً، ومرتبتُه مثل مرتبة الرسول إلاّ أنه لا يوحى إليه، فإنه يمكنه أن يروي مباشرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولو كان بين مولده ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عشرات السنين؛ فالسّند الذي يوجد فيه إمام لا يحتاج إلى أن يكون موصولاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يكفي إيصال السند إلى أَحَدِ الأئمة لتكون الرواية عند الشيعة صحيحة لا شكّ فيها. وبذلك استغنوا عن وساطة الصحابة في الرواية.

وعلى الرغم من أن الشيعة الإثني عشرية -من الناحية النظرية- جعلوا أئمتهم في مرتبة الأنبياء فقط، إلا أنهم في الواقع أعطوهم صفات تتجازو صفات الأنبياء والرسل، بل هي من صفات الألوهية. فقد أعطى الشيعة الإثني عشرية لأئمتهم صفة العلم المحيط؛ فالإمام -كما يقول النوبختي- يعلم "جميع ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله، وما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها".([4]) كما أسندوا إلى أئمتهم علم الغيب مع أن الله عز وجل يقول صراحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن غيره من الأنبياء: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)،([5]) ويقول عز وجل: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).([6])ولأن القول بأنهم يعلمون الغيب منافٍ لصريح القرآن، فقد هذّب بعضهم تلك الفكرة وجعل علم الغيب مرهونا بإرادة الإمام؛ فإذا أراد الإمام أن يعلم الغيب أطلعه الله على ذلك الغيب. روى الكليني عن عمار الساباطي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الإمام يعلم الغيب؟ فقال: لا، ولكن إذا أراد أن يعلم الشيء، أعلمه الله ذلك."([7]) فالإمام هو الذي يقرر ما يريد أن يعلمه من علوم الغيب، والله عز وجل يستجيب لذلك القرار!

كما أعطوهم صفة العصمة المطلقة حتى من النسيان والخطأ منذ الصبا إلى الموت. روى الكليني بسنده عن محمد بن مسلم فيما ينسبه إلى جعفر الصادق أنه قال: "الأئمة بمنْزِلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلاّ أنهم ليسوا بأنبيّاء، ولا يحلّ لهم من النّساء ما يحلّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فأمَّا ما خلا ذلك فهم فيه بمنْزِلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".([8]) ويقول أحد رجال الدين الشيعة المعاصرين: "ونعتقد: أنّ الإمام كالنبيّ يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش، ما ظهر منها وما بطن، من سِنِّ الطفولة إلى الموت، عمداً وسهواً. كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان؛ لأنّ الأئمّة حفظة الشرع، والقوَّامون عليه، حالهم في ذلك حال النبي، والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأَئمة، بلا فرق."([9])

والحق أن العصمة المطلقة عن الخطأ والسهو هي مرتبة الألوهية، وليست مرتبة النبوّة أو مرتبة البشرية. والعصمة التي تجب للأنبياء والرسل هي العِصْمة في التبليغ والتّشريع، فلا يجوز في حَقِّهِم الخطأ والنّسيان في التَّبْليغ عن الله سبحانه وتعالى، ولا في تشريع الأحكام وبيانها، كما أنهم لا يُتَصَوَّرُ في حقِّهم تَعَمُّد ارتكاب المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة. أما الخطأ في الاجتهاد خاصة في أمور التدبير الدنيويّة فإنَّه وَاقعٌ في حقِّهم. والفَرْقَ بين خطأ الأنبياء والرّسل وخطأ غيرهم من البَشَر أنَّ الأنبياء إذا أخطأوا في أمْرٍ يتعلّق بالدِّين فإنّه يستحيل إقْرَارُهُم على ذلك الخطأ، بل يَنْزِلُ الوحيُ مباشرة بتصحيح ذلك الخطأ وبيانه؛ لأنّ إقرارهم على الخطأ يؤدِّي إلى تحريف الدين. أما غيرهم من البَشَر فإن اجتهاداتهم لا يَنْبَنِي عليها أيّ تشريع، وإنّما تبقى مجرَّدَ اجتهادات لا تلزم أحداً من الناس، ويكفي فيها تصحيح المجتهدين لبعضهم البعض من خلال ما يكون بينهم من تعقيبات ومناقشات.

وأقوى ما استدل به الشيعة الإثني عشرية على عصمة الأئمة هو ما يسمونه "آية التطهير"، وهي قول الله عزّ وجلّ: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).([10])وقد بيّنّا في الفصل السابق أن المراد بأهل البيت في هذه الآية زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وأولاده، ولا يدخل فيها أهل بيت علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وبيّنا أن هذه الآية ليس لها علاقة بالعصمة. وحتى لو سلَّمْنا جدلاً مع الشيعة الإثني عشرية بأنّ ما يُسمى "آية التطهير" تَدُلُّ على عصمة هؤلاء الأربعة (علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين)، فما الدليل على عصمة الأئمة التسعة الآخرين للشيعة الإثني عشرية؟ وكيف انتقلت العصمة من هؤلاء الأربعة إلى ذريتهم؟ هل انتقلت بالوراثة بأن لا يَلِدُ الـمَعْصُومُ إلاّ مَعْصُوماً؟ وإذا كانت العصمة انتقلت إليهم بالوراثة لكونهم من ذريّة عليّ وفاطمة فإن هذه العصمة يجب أن تشمل كلّ ذريّة عليّ وفاطمة بمن فيهم أئمة الشيعة الزيدية، وأئمة الشيعة الإسماعيلية، وأبناء الحسن، لأنّهم جميعاً أبناء أولئك الذين يقول الشيعة إنهم معصومون، وليس هناك أيّ فرق بينهم من حيث العلاقة بأولئك "المعصومين الأربعة" سوى الروايات التي وضعها الشيعة الإثني عشرية لتفضيل أئمتهم على غيرهم من ذريّة عليّ وفاطمة، وهي روايات يرفضها الشيعة الآخرون ويرون أنّها إنّما وُضِعَت لِنُصْرَة المذهب الإثني عشري فقط، ولهم رواياتهم التي تُكَذِّبُ تلك الروايات وتُخَالِفُها.

أمّا ما استدلّ به الشيعة الإثني عشرية من نصوص منسوبة إلى أئمتهم يصرِّحون فيها بأنّهم قومٌ معصومون، فهي نصوصٌ وضعها رجال من الشيعة ثم انتشرت بعد ذلك بينهم وأصبحت كأنها مسلَّمة، ويكفي في ردِّها أنّها مَرْفُوضَةٌ من قِبَل الفرق الشيعية الأخرى التي تدعي أئمة آخرين غير أئمة الشيعة الإثني عشرية، وتدعي لهم العصمة أيضا. وما استدلّوا به من أدلّة عقليّة،([11]) هي مجرّد افتراضات افترضوها وألزموا أنفسهم بها؛ فقد افترضوا فكرة الإمام الحُجّة الذي يبقى موجودا إلى يوم القيامة، واختاروا سلسلة من ذرية علي بن أبي طالب ليكونوا هم الأئمة، ولما انقطعت تلك السلسلة في الإمام الحادي عشر افترضوا وجود الإمام الثاني عشر، وقالوا إنه موجود -ولكنه مخفيّ- حتى تبقى الحُجّة قائمة على الناس إلى أن يرجع، وأعطوا صفات خيالية لأولئك الأئمة هي من صفات الألوهية. وقد خالفهم غيرهم من الفرق الشيعية وافترضوا وجود أئمة آخرين غير الذين اختارهم الشيعة الإثني عشرية، وافترضوا وجوب طاعتهم وقيام الحجة بهم، وأعطوهم صفات لا تقل عن الصفات التي أعطاها الشيعة الإثني عشرية لأئمتهم.

وعلى الرغم من تلك الروايات التي وضعها الشيعة في إثبات العصمة لأئمتهم، فإنك تجد في مصادرهم القديمة نصوصا صريحة تنفي العصمة. جاء في كتاب نهج البلاغة -الذي جمعه الشيعة- ونسبوه إلى عليّ بن أبي طالب: "...فلا تُكلِّمُوني بما تُكَلَّم به الجبابرة، ولا تتحفَّظُوا مِنِّي بما يُتَحَفَّظُ به عند أهل البَادِرَة، ولا تُخَالِطوني بالـمُصَانَعة، ولا تَظُنُّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً في حَقٍّ قِيل لي، ولا الْتِمَاسَ إعْظَامٍ لنَفْسي، فإنه مَن اسْتَثْقَلَ الحقَّ أنْ يُقَال لَهُ، أو العَدْلَ أنْ يُعَرَضَ عليه، كانَ العملُ بهما أَثْقَلَ عليه، فلا تَكُفُّوا عن مَقَالَةٍ بحقٍّ، أوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فإنِّي لَسْتُ في نَفْسِي بِفَوْقِ أنْ أُخْطِئَ، ولا آمَنُ ذلك من فِعْلِي، إلاّ أنْ يَكْفِيَ اللهُ مِن نَفْسِي ما هو أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي. فإنَّما أنَا وأَنْتُم عَبِيدٌ مَمْلُوكُون لِرَبٍّ لا رَبَّ غَيْرُه. يَمْلِكُ مِنَّا مَا لا نملك من أنفسنا، وأخرَجَنا مما كُنَّا فيه إلى مَا صَلَحْنَا عليه، فأبْدَلَنَا بعد الضّلالة بالهُدَى، وأعْطَانَا البَصِيرَة بَعْدَ العَمَى".([12])

فهذا عليّ رضي الله عنه يُصَرِّحُ بأنه مُعَرَّضٌ للخطأ: "فإنِّي لَسْتُ في نَفْسِي بِفَوْقِ أنْ أُخْطِئَ"، وأنه يحتاج إلى نصيحة أتباعه ومشورتهم "مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ"، ويأمرهم بتصحيح أخطائه وقول الحق له إذا أخطأ "لا تَكُفُّوا عن مَقَالَةٍ بحقٍّ"، كما أنه يسوِّي نفسه بأتباعه في كونهم جميعاً عباد الله تعالى يصيبون ويخطئون "فإنَّما أنَا وأَنْتُم عَبِيدٌ مَمْلُوكُون لِرَبٍّ لا رَبَّ غَيْرُه".

أما عن وظيفة الإمام فيعتقد الشيعة أنها تشمل أمور الدين والدنيا، وفي ذلك يقول أحد رجال الدين الشيعي: "الإِمام: هو الإِنسان الذي له الرئاسة العامّة في أمور الدين والدنيا([13]) بالأصالة في دار التكليف. ويُقصد هنا بقيد «الأصالة»، أيْ أنّ الإِمامة من قِبَلِ الباري عزّ وجلّ، لا من قِبَلِ أيّ أحدٍ سواه حتّى وإن كان نبيّاً أو مرسلاً...وعلى كلِّ حالٍ، فإنّ الإِمامة ليست بيد الأُمّة ولا يكون تعيين الإِمام من قِبَلها أبداً."([14]) ويقول آخر: "بل نعتقد: أنّ أَمْرَهُمْ أَمْرُ الله تعالى، ونَهْيَهُمْ نَهْيُهُ، وطاعَتَهُمْ طَاعَتُهُ، ومعصِيَتَهُمْ معصِيَتُهُ، ووليّهم وليّه، وعدوَّهم عدوّه. ولا يجوز الردُّ عليهم والرادُّ عليهم كالرادِّ على الرسول، والرادُّ على الرسول كالرادِّ على الله تعالى. فيجب التَّسليم لهم والانقياد لأمرهم والأخذ بقولهم. ولهذا نعتقد: أنّ الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلاّ من نمير مائهم، ولا يصحّ أخذها إلاّ منهم، ولا تفرغ ذمّة المكلَّف بالرجوع إلى غيرهم، ولا يطمئنّ بينه وبين الله إلى أنّه قد أدّى ما عليه من التكاليف المفروضة إلاّ من طريقهم."([15])

وما دام هذا هو اعتقاد الشيعة في أئمتهم، فمن الطبيعي أن يعتبروا كل المسلمين الذين هم ليسوا من الشيعة الإثني عشرية على ضلال وفي خسران مبين؛ لأنهم لا يرجعون في أداء التكاليف الشرعية إلى أولئك الأئمة ووكلائهم من رجال الدين الشيعة. ولكن الواقع يخالف ما يزعمونه، فهم أنفسهم يأخذون في كثير من المسائل باجتهادات علمائهم وليس بأقوال من يسمونهم "الأئمة المعصومين". وقد يزعم بعض رجال الدين عندهم أنهم يتلقون فتاواهم من الإمام الغائب، وهو كلام لا معنى له؛ لأن الإمام الغائب (الإمام الثاني عشر) لا وجود له أصلا كما سيأتي بيانه في الفصل المتعلق بالمهدي المنتظر.

وبما أن الشيعة قد أعطوا لأئمتهم تلك الصفات الخيالية، فقد جعلوا قبورهم مزارات يحجون إليها على مدار السنّة، ووضعوا في الترغيب في ذلك أخبارا كثيرة، منها: أنهم نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن من زار قبر علي وقبر الحسن فله الجنة.([16]) ونسبوا إلى جعفر الصادق أنه قال: "من زار إماما من الأئمة، وصلى عنده أربع ركعات، كتبت له حجة وعمرة."([17]) كما نسبوا إليه أنه قال: "أيما مؤمن أتى قبر الحسين عليه السلام عارفا بحقه في غير يوم عيد كتب الله له عشرين حجة وعشرين عمرة مبرورات مقبولات، وعشرين حجة وعمرة مع نبي مرسل أو إمام عدل، ومن أتاه في يوم عيد كتب الله له مئة حجة ومئة عمرة ومئة غزوة مع نبي مرسل أو إمام عدل."([18]) سبحان الله! إلى هذا الحد وصلت بهم المبالغة في الترغيب في زيارة تلك القبور! ولا شك أن علامات الكذب في غاية الظهور في هذه الأخبار التي تحمل أجورا خيالية. ومعلوم في الإسلام أن زيارة القبور إنما شرعت لتذكير الناس بالموت والآخرة ترقيقا لقلوبهم ودفعا لهم إلى التوبة والزهد في الدنيا، وليس من أجل تحصيل الثواب. أما الدعاء للأموات فلا يُشترط فيه أن يكون عند قبر الميت، بل يحصل من أي مكان: من البيت أو المسجد أو السوق أو غيرها من الأماكن.

لقد وضع منظرو الشيعة هذه الأخبار من أجل الشحن العاطفي المستمر لأتباع الفِرقة، وسعيا إلى المحافظة على ولائهم لها –خاصة في الفترة التي كانوا فيها أقلية- من خلال الربط المستمر بزعمائها الروحيين. ومن أجل ترسيخ الشعور بتعظيم أولئك الزعماء الروحيين، وتطويع نفوس الأتباع للقبول بكل ما يُنسب إليهم طلبوا من الزائرين الالتزام بآداب تبعث في نفوسهم الشعور بقداسة تلك القبور.

وقد نتج عن ذلك الترغيب أن أصبح مئات الألوف من الشيعة يحجون باستمرار إلى تلك القبور. وعند تلك القبور يقدمون النذور، ويطلبون الشفاعة، ويستغيثون بأصحابها على رفع المصائب، والشفاء من الأمراض، وقضاء حاجات الدنيا والآخرة. وتجمع المؤسسات الدينية الشيعية مئات الملايين من تلك النذور والزيارات، تنفق منها على رجالها وعلى مشاريعها. ويا لها من تجارة مربحة -في الدنيا- تدرّ على أصحابها الملايين دون عمل. وصدق الله عزّ وجل في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).([19])

ثالثا: كيفية تعيين الأئمة

رأينا عند الحديث عن نشأة الفِرق الشيعية كيف أنه -بعد مقتل الحسين بن عليّ- أصبح مألوفا بين الشيعة الاختلاف بعد وفاة كل إمام حول من يعتبرونه الإمام التالي، وذلك بسبب اختلافهم في المعيار الذي يعتمدونه في تحديد إمامهم، وادّعاء كل فرقة أن الإمام السابق قد أوصى للإمام الذي اختارته.

1- القرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم

فيما يتعلق بإمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، تتحدث المصادر الشيعية القديمة عن الاحتجاج على أولويته بالخلافة بقرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم. ففي كتاب نهج البلاغة الذي جمع الـخُطب المنسوبة إلى عليّ رضي الله عنه -ويُعَدّ من المراجع الشيعية- يذكر أنّ عليّا رضي الله عنه كان يحتجّ على أولويّته بالخلافة بكونه جمع بين الصُّحْبَة والقرابة، وهذا دليل في غاية الوضوح على أنّ فكرة الوصيّة من الله تعالى لم تكن واردة في ذلك الوقت، وإلاّ كيف يترك الاستدلال بالدليل القاطع الذي ينصّ على أنه هو الوصيّ بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يستدلّ بالقرابة والمصاهرة التي هي من الأدلّة المعهودة في النظام القبلي والحكم الوراثي؟ جاء في نهج البلاغة: "لَمّا انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنْبَاءُ سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عليه السلام: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منّا أمير ومنكم أمير. قال عليه السلام: فهلاّ احتججتم عليهم بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصّى بأن يُحْسَن إلى مُحْسِنِهم، ويُتَجَاوَز عن مسيئهم؟ قالوا: وما في هذا من الحجّة عليهم؟ فقال عليه السلام: لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصيّة بهم. ثم قال عليه السلام: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجّت بأنّها شجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عليه السلام: احتجُّوا بالشّجرة، وأضاعوا الثمرة. وقال عليه السلام: واعجباً أن تكون الخلافة بالصّحابة، ولا تكون بالصّحابة والقرابة".([20])

والتاريخ يذكر أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه رفض أن يوصي بالخلافة من بعده سواء إلى أبنائه أو إلى غيرهم، يقول المسعودي: "دخل عليه الناس يسألونه، فقالوا: يا أمير المؤمنين! أرأيت إن فقدناك، ولا نفقدك، أنبايع الحسن؟ قال: لا آمركم ولا أنهاكم، وأنتم أَبْصَرُ مِنِّي...فقال له رجل من القوم: ألاَ تعهد يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكني أتركهم كما تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فماذا تقول لربّك إذا أتيته؟ قال: أقول اللهم [إنك] أبقيتني فيهم ما شئت أن تبقيني، ثم قبضتني وتركتك فيهم فإن شئت أفسدتهم، وإن شئت أصلحتهم".([21])

وهذا النصّ يعبِّر عن موقف الإسلام الحقيقي من مسألة الحكم ويدلّ على أن فكرة الوصيّة لم تكن مقبولة عند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. كما أن في النص إقراراً صريحاً من عليّ بن أبي طالب بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعيِّن أحداً بعده للخلافة، ولم يوصِ لعليّ بن أبي طالب بالخلافة بعده، ولا أَمَرَ المسلمين بمبايعته، وذلك قوله: "ولكني أتركهم كما تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ولم يقع خلاف بين الشيعة حول اختيار الحسن بن علي؛ لأنه كان الابن الأكبر لعلي بن أبي طالب، وكذلك لم يقع الخلاف في تعيين الحسين؛ لأن الأبن الثاني لعلي بن أبي طالب من فاطمة الزهراء.

2- العلم والسلاح وكونه الابن الأكبر

بعد مقتل الحسين وقع الخلاف بين شيعته: فمنهم من نقل الإمامة إلى محمد بن عليّ (محمد بن الحنفية)، وذلك لأنه كان أكثر أبناء عليّ المتبقّين استحقاقا لذلك، في حين رفض آخرون ذلك؛ لأن أمه ليست فاطمة بل جارية من الجواري، وجعلوا الإمامة في الابن الأكبر للحسين. والملاحظ أنه بعد مقتل الحسين بن علي أصبحت القاعدة العامة في تعيين الإمام -عند عامة الشيعة- هي كونه الابن الأكبر، ولكن من وقت إلى آخر كان بعض الشيعة يتخلون عن هذه القاعدة عندما يأتي تطبيقها بشخص لا يرغبون في إمامته، ولذلك أضافوا معايير أخرى هي: ادعاء الوصية من الإمام السابق بتعيين من يكون الإمام بعده، وكونه أعلم أبناء الإمام السابق، وكون سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده. ويتم الاحتجاج بواحد أو أكثر من هذه الأمور حسب طبيعة الخلاف الواقع حول من يكون الإمام، وفيما يأتي نماذج من تلك النصوص:

لما وقَع النِّزاع بين الشيعة الزيديّة والشيعة الإثني عشرية على من يكون الإمام بعد زين العابدين عليّ بن الحسين، احتجّ الشيعة الإثني عشريّة على أنّ سلسلتهم في الإمامة هي الصحيحة بادعاء أن السلاح عند إمامهم وليس عند إمام الشيعة الزيدية. روى الكليني بسنده عن سعيد السمان قال: "كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه رجلان من الزيدية فقالا له: أَفيكُم إمَامٌ مُفْتَرَضُ الطّاعة؟ قال: فقال لا. قال: فقالا له: قد أخبرنا عنك الثُّقات أنّك تُفْتِي وتُقِرُّ وتقول به ونسمّيهم لك: فلان وفلان، وهم أصحابُ وَرَعٍ وتَشْمِير وهم ممن لا يكذب، فغضب أبو عبد الله عليه السلام فقال: ما أمرتهم بهذا، فلمّا رأيَا الغضب في وجهه خرجَا، فقال لي: أتعرف هذين؟ قلت: نعم، هما من أهل سوقنا وهما من الزيديّة، وهما يزعمان أنّ سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عبد الله بن الحسن، فقال: كذبَا لعنهما الله، والله ما رآه عبد الله بن الحسن بعينيه، ولا بواحدة من عينيه، ولا رآه أبوه، اللهم إلاّ أنْ يكون رآه عند عليّ بن الحسين...وإنّ عندي لراية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الـمِغْلَبَة، وإنّ عندي أَلْوَاح موسى وعصاه، وإنّ عندي لخاتم سليمان بن داود، وإنّ عندي الطَّسْت الذي كان موسى يقِّربُ به القربان...ومثل السلاح فينا كمثل التابوت في بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل في أيِّ أهْل بيْتٍ وُجِدَ التابوتُ على أبوابهم أُوتُوا النبوّة، ومن صار إليه السلاح منا أوتي الإمامة...".([22])
وروى الكليني بسنده عن ابن أبي نصر قال: "قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إذا مات الإمام بِمَ يُعرف الذي بعده؟ فقال: للإمام علامات منها أن يكون أكبر ولد أبيه، ويكون فيه الفضل والوصيّة، ويَقْدُمُ الرَّكْب فيقول: إلى مَن أوصى فلان: فيقال: إلى فلان. والسّلاح فينا بمنْزلة التابوت في بني إسرائيل، تكون الإمامة مع السّلاح حيثما كان".([23])

وروى الكليني بسنده عن عبد الأعلى قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الـمُتَوَثِّبُ على هذا الأمر المدَّعي له ما الحُجّة عليه؟ قال: يُسْأل عن الحلال والحرام، قال: ثُمّ أقْبَل عليّ فقال: ثلاثة من الحُجَّة لم تجتمع في أحدٍ إلاّ كان صاحب هذا الأمر: أن يكون أولى الناس بمن كان قبله، ويكون عنده السلاح، ويكون صاحب الوصيّة الظاهرة التي إذا قَدِمْتَ المدينة سألت عنها العامَّة والصِّبْيان: إلى مَنْ أوْصى فلان؟ فيقولون: إلى فلان بن فلان".([24])

هذه النصوص تظهر أن فكرة الوصية من عند الله تعالى بأسماء الأئمة لم تظهر في ذلك الوقت، حيث إنه لم يرد ذكرها ضمن النقاشات التي كانت بين مختلف الفِرق الشيعية حول من يكون الإمام التالي بعد وفاة الإمام السابق، أو أنها لم تستخدم في ذلك النقاش لأن الفِرق الشيعية الأخرى عارفة بالأسرار الداخلية للتيار الشيعي وتعلم أنه لا وجود لتلك الوصية.

رابعا: التآمر على الأئمة

إمعانا في تشويه صورة المخالفين وغرس الحقد عليهم، وسعيا إلى استعطاف المسلمين، تُظهر المصادر المتأخرة للشيعة الإثني عشرية أئمتهم بمظهر الضحايا الذين قُتلوا جميعا إما بالسيف أو بالسم. فيزعمون أن فاطمة رضي الله عنها ماتت مجروحة من ضرب عمر بن الخطاب، والأئمة الآخرون -باستثناء علي بن أبي طالب وابنه الحسين- قتلوا جميعا بالسُمّ.

إن النّاظر في المصادر التاريخيّة ومصادر الشيعة القديمة يجد ذلك الادعاء مخالفا لحقائق التاريخ. فهذا اليعقوبي ذكر وفاة فاطمة رضي الله عنها وأنها ماتت موتة طبيعية ودُفِنَتْ في المدينة. كما أورد خبر وفاة عليّ بن الحسين (زين العابدين الإمام الرابع)،([25])وخبر وفاة محمد بن عليّ بن الحسين (محمد الباقر الإمام الخامس)،([26])وخبر وفاة جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين (جعفر الصادق الإمام السادس)،([27])وخبر وفاة موسى بن جعفر (موسى الكاظم الإمام السابع)،([28])وخبر وفاة عليّ بن موسى (الرضا الإمام الثامن)،([29])وخبر وفاة عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى (الهادي الإمام التاسع)،([30])ولم يذكر في كلّ ذلك شيئاً عن كونهم ماتوا مسمومين، مما يدلّ على أن فكرة قتلهم بالسمّ إنما جاءت متأخِّرة جدا، وأنها ليس لها أي نصيب من الثبوت التاريخي. أما الحسن بن علي بن أبي طالب فقد أورد الرواية التي تقول بأنه مات مسموما، ولكنه أوردها بصيغة التضعيف، مما يوحي بأنه كان يشكُّ في صحتها. أما رجل الدين الشيعي الحسن بن موسى النوبختي فإنه جزم بعدم صحّة القول بموت الحسن بن عليّ مسموما، بل قال في موته بعد حديثه من محاولة اغتياله من طرف رجل من الشيعة كان ناقما عليه بسبب التنازل عن الخلافة: "ثم انصرف إلى المدينة، فلم يزل جريحا من طعنته، كاظما لغيظه، متجرعا لريقه على الشجا والأذى من أهل دعوته، حتى توفي عليه السلام في آخر صفر سنة سبع وأربعين."([31]) كما ذكر الحسن بن موسى النوبختي وفاة جميع الأئمة ولم يذكر وفاتهم بالسم، باسثناء موسى بن جعفر الصادق، فقد أورد أن بعض الشيعة قالوا بأنه قتل بالسم في حبسه، وأن الذي سمَّه هو يحيى بن خالد البرمكي، ولم يجزم النوبختي بتلك الرواية، بل قال عن سجنه ووفاته: "فحبسه عند السندي بن شاهك، فتوفي في حبسه ببغداد لخمس ليال بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة."([32])


([1]) ابن هشام. السيرة النبوية. ج2. ص270.
([2]) روى الطبري "أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفيّ فيه، فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا، فأخذ بيده عباس بن عبد المطّلب، فقال: ألا ترى أنك بعد ثلاث عَبْدُ العصا! وإني أرى رسول الله سَيُتَوَفَّى في وجعه هذا؛ وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت؛ فاذهب إلى رسول الله فَسَلْهُ فيمن يكون هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أَمَرَ به فأوصى بنا. قال عليّ: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدا، والله لا أسألها رسول الله أبدا". الطبري. تاريخ الطبري. ج2. ص229؛ والرواية في: البخاري. صحيح البخاري. كتاب المغازي. باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. ج5. ص165-166.
([3]) يعرِّف الشيعة الإثني عشرية السنّة بأنها: "قول المعصوم وفعله وتقريره غير قرآن ولا عادي". السيد حسن الصدر. نهاية الدراية. ص9. نقلاً عن: عبد الحميد خروب. رواية الحديث عند الشيعة الإمامية. ص68. والمراد بالمعصوم عندهم الأئمة الإثني عشر والرسول صلى الله عليه وسلم.
([4]) النوبختي. فرق الشيعة. ص74.
([5]) الأنعام: 50.
([6]) الأعراف: 188.
([7]) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص380.
([8]) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص12.
([9]) محمد رضا المظفر. عقائد الإمامية. ص89.
([10]) الأحزاب: 33.
([11]) تتلخص تلك الأدلة فيما ذكره أحد رجال الدين الشيعة المعاصرين: "والدليل على وجوب العصمة؛ أنّه لو جاز أن يفعل النبي المعصية، أو يخطأ وينسى، وصدر منه شيء من هذا القبيل، فإمّا أن يجب اتّباعه في فعله الصادر منه عصياناً أو خطأً أو لا يجب، فإن وجب اتّباعه فقد جوّزنا فعل المعاصي برخصة من الله تعالى، بل أوجبنا ذلك، وهذا باطل بضرورة الدين والعقل. وإن لم يجب اتّباعه فذلك ينافي النبوَّة التي لابدّ أن تقترن بوجوب الطاعة أبداً...وهذا الدليل على العصمة يجري عيناً في الإمام؛ لأن المفروض فيه أنه منصوب من الله تعالى لهداية البشر خليفة للنبي". محمد رضا المظفر. عقائد الإمامية. ص64-65.
([12]) لبيب بيضون. (1408هـ). تصنيف نهج البلاغة. إيران: مركز النشر مكتب الإعلام الإسلامي. ط2. ص384.
([13]) من الواضح أن هذا التعريف لا ينطبق على أئمة الشيعة ما عدا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابنه الحسن؛ إذ أنه يشترط في صحة إمامة الرجل أن تكون له الرياسة في أمور الدين والدنيا، وأئمة الشيعة -ما عدا علي بن أبي طالب وابنه الحسن- لم تكن لهم أي رياسة في أمور الدنيا، بل كانوا أفراداً عاديين في الدولة الإسلامية يسمعون ويطيعون للسلطة الحاكمة، ولم يَثُرْ منهم على السلطة الحاكمة سوى الحسين بن عليّ رضي الله عنه. وإنما ينطبق هذا التعريف على الخلفاء الراشدين الأربعة، وخلفاء الدولتين الأموية والعباسية.
([14]) راجع: الحلي. الألفين في إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام. ص12. نقلا عن: العصمة حقيقتها وأدلتها. مركز الرسالة. سلسلة المعارف الإسلامية (18). ص7.
([15]) محمد رضا المظفر. عقائد الإمامية. ص95.
([16]) الشيخ المفيد. (1410هـ). المقنعة. قم: مؤسسة النشر الإسلامي. ط2. ص461، 465.
([17]) المرجع نفسه. ص474.
([18]) الكليني. الكافي. ج4. ص580.
([19]) الأعراف: 194.
([20]) لبيب بيضون. تصنيف نهج البلاغة. ص414.
([21]) المسعودي. مروج الذهب. ج2. ص425.
([22]) الكليني. أصول الكافي. ج1. ص337-338.
([23]) المرجع نفسه. ج2. ص36.
([24]) المرجع نفسه. ج2. ص36.
([25]) اليعقوبي. (1358هـ). تاريخ اليعقوبي. ج3، ص45 وما بعدها.
([26]) المرجع نفسه. ج3. ص60 وما بعدها.
([27]) المرجع نفسه. ج3. ص115 وما بعدها.
([28]) المرجع نفسه. ج3. ص145 وما بعدها.
([29]) المرجع نفسه.ج3. ص180 وما بعدها.
([30]) المرجع نفسه. ج3. ص225.
([31]) النوبختي. فرق الشيعة. ص22.
([32]) النوبختي. فرق الشيعة. ص72.
 
أعلى