العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فهم التشيع ج 14 المهدي المنتظر: بين الحقيقة والآمال

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
المهدي المنتظر:
بين الحقيقة والآمال


رجل الأحلام الضائعة
فكرة المهدي المنتظر (المخلِّص) قديمة في التراث البشري تختلط فيها الأساطير بالحقائق، وهي في أغلبها عقيدة تلجأ إليها الشعوب للتعويض عن الفشل والحرمان الذي يصيبها. فلليهود مهديُّهم المنتظر (المسيح المخلص)، وللنّصارى مهديُّهم المنتظر (المسيح الذي يعود ليقود معركة هرمجدون ويقيم مملكة الرب على الأرض في الحكم الألفي السعيد). وقد سجّل لنا التاريخ أنّ الشيعة كانوا أكثر الطوائف وَلَعاً بفكرة الغيبة والمهدي المنتظر. فلا تكاد تجد فِرْقَة من عشرات الفِرَق الشيعية إلاّ ولها مهديّ مُنتَظَر يُحقِّق لها أحلامها ويعوض لها عن فشلها وينتقم من أعدائها. وأوَّلُ مهدي عند الشيعة هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مهدي الشيعة السبأية، والمهدي الثاني هو محمد بن عليّ بن أبي طالب مهدي فِرقة الشيعة الكيسانية، والمهديّ الثالث هو مهديّ الشيعة الأبوهاشمية، والمهديّ الرابع هو إسماعيل بن جعفر الصادق، والمهديّ الخامس هو جعفر الصادق، والمهديّ السادس هو موسى الكاظم، والمهديّ السابع هو محمد بن الحسن العسكري مهدي الشيعة الإثني عشرية، وغيرهم كثير.

المأزق والمخرج

فُوجِئَ الشيعة الإثني عشرية بوفاة الإمام الحادي عشر في ريعان شبابه، إذْ وافته المنيَّة وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ولم يُرْزَق بَعْدُ بولد يَخْلُفه من بعده. والموتُ المفاجِئ للقيادات الروحيّة والتاريخيّة يضع الفِرَق والأحزاب في مواقف صعبة، ويزداد الأمر صعوبة في فِرْقَة تعتمد نظاماً وراثيّاً صارماً يحصر الخَلَف في الابن الأكبر للزعيم المتَوَفَّى، ولا يسمح للإخوة أو لأبنائهم أو أبناء العمومة بشغل هذا المنصب وسدِّ الفراغ الذي قد يطرأ. ولم يَبْقَ أمام منظِّري هذه الفِرْقَة سوى اللجوء إلى المنهج الذي نهجته الفِرق الشيعية الأخرى، وهو القول باختفاء الإمام وتحويله إلى مهديّ مُنْتَظَر، ولكنّها جعلت لنفسها اختلافاً بسيطاً عن الفِرَق الأخرى، فلم تجعل المهدي المنتظر هو الإمام المتوفى نفسه، بل افترضت وجود ابن له اختفى عند موت والده.

حقيقة تاريخية

يُعَدُّ كون الحسن العسكري (الإمام الحادي عشر للشيعة الإثني عشرية) قد مات دون أن يخلِّف ولداً حقيقةً تاريخيّة ثابتةً، وأكبر دليل على ذلك هو اعتراف الغالبيّة العظمى من شيعته بعدم وجود أيّ ولد له، وقد أدى ذلك إلى انقسامهم بعد موته إلى عدّة فِرق بسبب اختلافهم حول صيغة الحلّ التي يجب تبنِّيها لحلّ مشكلة التّواصل في سلسلة الإمامة. ولم يقل بوجود ولد اختفى قُبَيْلَ أو عند وفاة أبيه (وكان عمره حوالي خمس سنوات) سوى فِرقة واحدة من بين أربع عشرة فرقة، هي الفرقة التي صارت تسمى الشيعة الإثني عشرية.

وقد كتب رجل الدين الشيعي الحسن بن موسى النوبختي (الذي عاش في فترة قريبة من فترة الإمام الحادي عشر، وعاصر فكرة غيبة الإمام الثاني عشر) يقول عن الإمام الحادي عشر: "ووُلد الحسن بن علي في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وتوفي بِسُرَّ مَنْ رَأى
]سامراء[ يوم الجمعة لثماني ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين، ودفن في داره في البيت الذي دفن فيه أبوه، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، وصلى عليه أبو عيسى بن المتوكل، وكانت إمامته خمس سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام. وتوفي ولم يُرَ له أثر ولم يُعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه وهي أم ولد يقال لها عسفان."([1]) كما سجَّلَ الكليني إقْرَارَ غالبيّة الشيعة بعدم وجودِ الإمام الثاني عشر، فروى بسنده عن زرارة قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إنّ للغلام غَيْبَةً قَبْلَ أن يقوم، قال: قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف -وأوْمَأَ بيده إلى بطنه- ثم قال: يا زرارة! وهو الـمُنْتَظَرُ، وهو الذي يُشَكُّ في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خَلَفٍ، ومنهم من يقول: حَمْلٌ، ومنهم من يقول: إنه وُلِدَ قَبْلَ موت أبيه بسنتين وهو الـمُنْتَظَرُ، غير أنّ الله عزّ وجلّ يُحِبُّ أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة...".([2]) ومن الواضح أن هذا النص وُضع بعد وفاة الإمام الحادي عشر؛ لأنه يصف حالة الشيعة في ذلك الوقت، وكيف اعترف أغلبهم بالحقيقة وتنكّر قليل منهم لتلك الحقيقة وادعوا وجود ولد مخفيّ. وقد نسَبَه واضعه إلى جعفر الصادق -الذي مات قبل ذلك بأكثر من مائة سنة- ليُظهر أن جعفر الصادق كان يعلم الغيب الذي سيقع في المستقبل فأخبر بما سيقع بعد موت الإمام الحادي عشر، وهي محاولة لإقناع أتباع الفرقة بما ادعاه منظّروها من وجود ولد مخفيّ سيظهر في المستقبل.

لقد كان عدم وجود ولد للحسن العسكريّ (الإمام الحادي عشر) يمثِّل مَصْدَر قَلَقٍ لدى الأوساط الشيعيّة التي تُؤْمِن بإمامته ومرجعيَّتِه، كما كان يمثِّل مَصْدَراً للتَّشَفِّي مِن قِبَل الخُصُوم السياسيّين.


ومما يدل على أن الأوساط الشيعية كانت تعلم بعدم وجود ولد للإمام الحادي عشر ما رواه الكليني بسنده أن أبا هاشم الجعفري قال: "قلت لأبي محمد (الإمام الحادي عشر) عليه السلام: جلالتك تمنعني من مسألتك، فتأذن لي أن أسألك؟ فقال: سَلْ، قلت: يا سيدي هل لك ولد؟ فقال: نعم، فقلت: فإن حَدَثَ بِك حَدَثٌ فأيْن أسْأَل عنه؟ قال: بالمدينة".([3]) يظهر من هذا النصّ أنّ كون الإمام الحادي عشر ليس له ولد كان أمراً معروفاً ومشتهراً بين الناس؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك لَمَا كان مِثْلُ هذا السؤال مُسْتَسَاغاً ولا كان لَهُ دَاعٍ. فأنت لا تسأل شخصاً هل له ذريّة؟ إلاَّ إذا كان عَهْدُكَ به أنّه لا ذُريّة له. وأغرب ما في السؤال هو قول السائل: "فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه" فهو سؤال غريب لا داعي له؛ إذْ من الطبيعي أنه إذا حَدَثَ حَدَثٌ بالرجل أن تكون ذريّته في بَيْتِه عند أسرته! وما دخل المدينة، وعائلة الإمام الحادي عشر كانت تسكن في سامراء (سُرّ مَن رَأَى) والشيعة أنفسهم يقولون إنه اختفى في سرْداب هناك.


وقد كانت حقيقة عدم وجود ولد للإمام الحادي عشر مصدر حيرة للشيعة بعد وفاته: مَنْ يُعَوِّضُه؟ وماذا يفعلون مع انقطاع سلسلة الإمامة؟ وقد نقل الكليني بعض الحالات من تلك الحيرة التي عمّت أتباع الحسن العسكري، فقد روى بسنده عن حمدان القلانِسيّ قال: "قلت للعُمَري
]النائب الأول الذي عين نفسه نائبا عن الإمام الغائب[ قد مضى أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام؟ فقال لي: قد مَضَى ولكن قد خَلَّفَ فيكم مَنْ رَقَبَتُه مثْل هذه وأشَارَ بِيَدِه".([4]) فهذا الشيعي يتساءل في حَيْرة: قد مات أبو محمد دون أن يترك ولدا فمن سيَخْلُفُه؟ وهو تساؤل يدلّ على أنّه كان معلوماً لدى عامة الشيعة أن أبا محمد (الإمام الحادي عشر) لم يكن له أولاد، وأنه لا يوجد من يَخْلُفَه، ولو كان له وَلَدٌ لَمَا كان مثْل هذا السؤال مُسْتَسَاغاً من واحد من الشيعة.

وروى الكليني أيضا بسنده عن عبد الله بن جعفر الحِمْيَرِي قال: "اجتمعت أنا والشيخ أبو عمْرو
]أي العمري، النائب الأول[ -رحمه الله- عند أحمد بن إسحاق فَغَمَزَنِي أحمد بن إسحاق أن أسْأَلَه عن الخَلَف، فقلت له: يا أبا عمرو! إني أُرِيد أن أسألك عن شيء وما أنا بِشَاكٍّ فيما أريد أن أسألك عنه فإنّ اعتقادي ودِينِي أنّ الأرض لا تخلو مِن حُجَّة...قال: فخرَّ أبو عَمْرو ساجداً وبَكَى ثُمّ قال: سَلْ حاجَتَك، فقلت: أنْت رأَيْتَ الخَلَف مِن بعد أبي محمد عليه السلام؟ فقال: أيْ والله ورَقَبَتُه مثْل ذا وأَوْمَأَ بيده، فقلت له: فبقيّت واحدة، فقال لي: هات، قلت: فالاسم؟ قال مُحَرَّمٌ عليكم أنْ تسْأَلوا عن ذلك ولا أقول هذا من عندي، فليس لي أن أحلِّل ولا أحرِّم، ولكن عنه عليه السلام، فإنّ الأمْر عنْد السُّلْطان أنّ أبا محمد مَضَى ولم يُخَلِّف ولداً، وقُسِّم ميراثه وأَخَذَه مَن لا حقَّ له فيه، وهو ذَا عِيالُه يجولون، ليس أَحَدٌ يَجْسُر أن يتعرّف إليهم أو يُنِيلَهُم شيئاً، وإذا وَقَع الاسم وَقَع الطَّلب، فاتَّقُوا الله وأَمْسِكُوا عن ذلك".([5])

فهذان شيعيان في حيرة من أمرهما يسألان العمري إذا كان يوجد فعلاً ولد مخفيٌّ للإمام الحادي عشر الـمُتَوَفَّى. وقول أحد السائلين: "وما أنا بِشَاكٍّ فيما أريد أن أسألك عنه فإنّ اعتقادي ودِينِي أنّ الأرض لا تخلو مِن حُجَّةٍ" دليل صريح على الشكِّ؛ لأن التظاهر بعدم الشكِّ دليلٌ على وجوده، وإلاَّ فما الحاجة إلى السؤال؟ وقوله: "فإنّ الأمْر عنْد السُّلْطان أنّ أبا محمد مَضَى ولم يُخَلِّف ولداً" اعترافٌ بأنّ كون الإمام الحادي عشر مات ولم يترك ولداً كان أمراً معروفاً ومشهورا. والنهيُ عن السؤال عن الاسم أكبر دليل على عدم وجود الولد أصلاً، وإلاّ فما الدّاعي إلى النّهي عن السؤال عن الاسم إذا كان صاحب الاسم موجوداً؟ ولست أدري لماذا خَرَّ أبو عمر ساجداً باكيّاً؟ هل حَسْرَةً على كون الإمام الحادي عشر مات دون أن يترك ولداً؟ أم تعظيماً للسؤال وتخوُّفاً من الإجابة عليه؟


وما ورد في هذه الرواية من تلميح إلى الربط بين اختفاء الولد والخوف عليه من السلطان لا معنى له؛ لأنه لم يذكر التاريخ أنّ الأمويين أو العباسيين قد تعرَّضوا بأيّ سوء لأبناء العلويين من الأولاد والصبيان، بل إنهم لم يتعرَّضُوا بسوء للرجال الذين اتخذهم الشيعة أئمة لهم، إلاّ من أعلن منهم الثورة على السلطة القائمة (الحسين بن عليّ)، أو شكوا في أنه يخطط للثورة (موسى بن جعفر الصادق الذي تعرض للسجن ومات في سجنه)، أما الذين لم يظهر منهم ذلك فإنهم لم يتعرضوا لأيّ أذى، بل كان خلفاء الأمويين والعباسيين يكرمونهم بالعطايا والهدايا.


أمّا كون عدم وجود ولد للإمام الحادي عشر يخلفه مصدراً لِتَشَفِّي الخصوم السياسيين، فما رواه الكليني بسنده عن أحمد بن محمد بن عبد الله قال: "خرج عَنْ أبي محمد عليه السلام حين قُتِل الزبيري لعنه الله: هذا جزاءُ من اجترأ على الله في أوليائه، يزعم أنه يقتلني وليس لي عقب، فكيف رأى قدرة الله فيه، وولد له ولد سماه (م ح م د) في سنة ستّ وخمسين ومائتين".([6]) فهذا نَصٌّ صريح في أنّ كون الحسن العسكري لم يكن له أيّ ولد كان أمراً معروفا، وكان ذلك سبباً لِتَشَفِّي بعض الخصوم السياسيين.


محاولات الخروج من مأزق انقطاع سلسلة الإمامة

بذل منظّرو فرقة الشيعة الإثني عشرية جهودا كبيرة للخروج من ذلك المأزق، وإيجاد تبرير مقنع لافتراض وجود الإمام الثاني عشر، وقد اتسمت تلك الجهود بالاضطراب والتضارب: فبعض الروايات تتحدث عن أنه لم يره أحد، وبعضها يقول إنه كان معروفا لدى كثير من الناس، وبعضها يذكر له اسما، وبعضها الآخر يحرّم تسميته والسؤال عن اسمه. وسيكون من المفيد نقل صورة لتلك الجهود المضطربة من خلال الروايات التي وردت في كتاب الكافي للكليني.

رأى بعض منظري الشيعة الإثني عشرية أنّ أفضل طريق لإثبات وجود الإمام الثاني عشر هو القول بعدم رؤيته أصلاً من قِبَلِ أيّ أحد من الناس وأن اسمه غير معروف، وللتّأكيد على ذلك وضعوا روايات منسوبة إلى بعض الأئمة تحرِّم رؤيته وتحرِّم السؤال عن اسمه، وتوجِبُ على الأتباع التّصديق بكلّ ما يقول لهم منظِّرو المذهب دون أيّ تردُّد أو استفسار. روى الكليني بسنده عن داود بن القاسم قال: "سمعت أبا الحسن
]الإمام العاشر[ عليه السلام يقول: الخَلَفُ من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخَلَفِ مِن بعد الخَلَف؟ فقلت: ولِمَ جعلني الله فداك؟ فقال: إنكم لا تَرُون شَخْصَه ولا يحلّ لكم ذكره باسمه، فقلت: فكيف نذكره؟ فقال: قولوا: الحُجَّة من آل محمد عليهم السلام".([7])

وروى الكليني بسنده عن الريّان بن الصّلت قال: "سمعت أبا الحسن الرِّضا عليه السلام (الإمام الثامن) يقول -وسُئِل عن القائم- فقال: لا يُرَى جِسْمُه ولا يُسَمَّى اسمه".([8])


هذان قولان منسوبان لإمامين -يرى الشيعة أنّهما معصومان لا يخطئان ولا تجوز مخالفة قوليهما- يَنُصَّان على أنّه لا يجوز لأيّ أَحَدٍ رؤية الإمام الثاني عشر ولا ذكره باسمه!
بل إنه قد نُسِب إلى الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق أنه كفَّر مَن يُسمِّي الإمام الثاني عشر باسمه. روى الكليني بسنده "عن ابن رئاب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: صاحب هذا الأمر لا يُسَمِّيه باسمه إلاّ كافر".([9])

ومقتضى هذه الروايات أنه لا يمكن لِعَيْن أَحَدٍ من الناس أنْ ترى جَسَدَ الإمام الثاني عشر ولو لحظة واحدة، كما لا يجوز ذكر اسمه، وأن من ذكر اسمه فهو كافر. ولكن بعض مُنَظِّري المذهب الشيعي الإثني عشري رأوا أنّ القول بعدم رؤية الإمام الثاني عشر سوف يكون اعترافاً ضمنيّا بعدم وجوده، وأنه من العسير إقناع القواعد الشعبية للشيعة بوجود إمام لم يره أي أحد من الناس، فحاولوا أن يثبتوا أن بعض الشيعة قد رآه فعلاً ليكون ذلك دليلاً على وجوده. وقد عقد الكليني لذلك باباً في كتابه أصول الكافي بعنوان "باب في تسمية من رآه عليه السلام".([10])


ولكن هذه الرؤية زيادة عمّا فيها من معارضة واضحة لِمَا نسبوه إلى جعفر الصادق، وأبي الحسن الرضا، وأبي الحسن الهادي من عدم جواز رؤيته ولا تسميته، فإن فيها اضطرابا شديدا؛ فمنهم من يثبت أنّ الرؤية كانت سِرِّيّة لأشخاص معيَّنِين فقط داخل البيت، ومنهم من يقول إنه رآه طفلاً في الخارج بعيداً عن البيت، ومنهم مَن يَزْعُمُ أنّه رآه شابّاً في مكّة.


روى الكليني بسنده عن رجل من أهل فارس قال: "أتيتُ سامِرّاء ولَزِمْت باب أبي محمد عليه السلام فدعاني، فدخلت عليه وسلّمت فقال: ما الذي أَقْدَمَكَ؟ قال: قلت: رغبةً في خدمتك، قال: فقال لي: فالْزم الباب، قال فكنت في الدار مع الخدم، ثم صِرت أشتري لهم الحوائج من السّوق وكنت أدخل عليهم من غير إذن إذا كان في الدار رجال. قال: فدخلت عليه يوماً وهو في دارِ الرجال، فسمعت حركة في البيت فناداني: مَكَانَك لا تَبْرَح، فلم أجْسُرْ أن أدخل ولا أخرج، فخرجت عليَّ جاريّة معها شيء مغطى، ثُمّ ناداني ادخل، فدخلت، ونادى الجاريّة فرجعت إليه، فقال لها: اكشفي عمَّا معك، فكشَفَت عن غلام أبيض حَسَن الوجه وكشف عن شَعْرِ بطْنه فإذا شعر نابت من لُبَّتِهِ إلى سرَّته أخضر ليس بأسود، فقال: هذا صاحبكم، ثم أمرها فحملته، فما رأيته بعد ذلك حتى مضى أبو محمد عليه السلام".([11])


مقتضى هذه الرواية أنّ وجود الإمام الثاني عشر كان سِرّاً؛ فهذا الرّجل بقي شهوراً أو سنوات يَخْدُم البيت وهو ملازم لباب البيت بمعنى أنه يرى كلّ من يدخل إلى البيت أو يخرج منه، وكان خَادِما بالبيت يدخل ويخرج بغير حاجة إلى استئذان، ولم يَرَ في يوم من الأيام هذا الولد -الذي صار عمره خمس سنوات- يَتَحَرَّك أو يَلْعَب في البيت أو يخرج من باب البيت أو يدخل؟


كما يوحي هذا النصّ بأنّ حركة هذا الولد في البيت كانت تَتِمُّ في غاية السرّية، فبمجرد أن سمع حَرَكَةَ نَقْلِهِ جاءه الأمر بأن يقف مكانه ولا يتحرك حتى لا يرى نقل الولد من مكان إلى مكان! والولد يُنْقَل كأنّه "شيء مُغَطّى" حتى لا يعرف أحد ممن في البيت ماذا تحت الغطاء! وقد كان من كَرَم الإمام العسكري على هذا الخادم أن سمح له برؤية صاحب الزمان فكشف له عن وجهه، ثم عن شعر نابت في صدره وبطنه -وكأنه في سِنّ البلوغ مع أنهم يقولون إن عمره عند اختفائه كان حوالي خمس سنوات فقط-، ثم أُخْفِيَ الطفلُ بعد ذلك في البيت ولم يتمكّن من رؤيته بعد ذلك إلى أن مات أبو محمد الإمام الحادي عشر‍!


إذا كان هذا الخادم الذي يحرس باب البيت ويدخل على أهل البيت في كلّ وقت بغير استئذان لم يتمكّن من رؤية الولد إلاّ مرّة واحدة بعد أن كُشِفَ عنه الغطاء، فإن عمّةَ أبِ الولد وهي تسكن في بيت آخر ولا تأتي إلاّ زائرة فقط كانت ترى الولد كثيرا!
روى الكليني بسنده "عن حكيمة ابنة محمد بن عليّ عليه السلام وهي عمّة أبيه أنّها رأته ليلة مولده وبعد ذلك".([12]) ومقتضى هذه الرواية أنه لم تكن في ولادة ولا نشأة الإمام الثاني عشر سِرِّيّة، إذ أن عمّته هذه رَأَتْه ليلة ولادته ورأته بعد ذلك! فكيف لم يره هذا الخادم الذي كان يحرس الباب؟

تنصّ نظرية الغيبة عند الشيعة على أن الإمام الثاني عشر قد اختفى ودخل مرحلة الغيبة الصغرى بعد وفاة والده مباشرة، وأنه لم يكن هناك أيّ اتصال بينه وبين الشيعة بعد ذلك إلاّ من خلال أرْبعة وكلاء شغلوا منصب الوكالة،([13]) ولكنّ الكليني روى روايات كثيرة تخالف القول باختفاء الإمام الثاني عشر، وتَنُصُّ صراحة على أنّه كان يعيش بين الناس ويلتقي بهم وأنّ الناس كانوا يرونه ويعرفونه. روى الكليني بسنده عن أبي عليّ أحمد بن إبراهيم بن إدريس، عن أبيه أنه قال: "رأيته عليه السلام بعد مُضَيِّ أبي محمّد حين أيْفَعَ وقبَّلْت يديْه ورأسه".([14]) فهذا يزعم أنه رآه بعد وفاة أبيه الحسن العسكري عندما صار فَتًى يافِعاً وقبَّل رَأْسَه ويديه، ويعني ذلك أنه رآه بعد وفاة أبيه بسنوات لأن أباه تركه في الخامسة من عمره!


وروى الكليني بسنده "عن موسى بن جعفر وكان أَسَنَّ شيخ من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعراق فقال: رأيته بين المسجدين وهو غلام عليه السلام". وقد علَّق شارح أصول الكافي على عبارة "المسجدين" بأن المقصود بهما: "إما مسجدي مكة والمدينة، أو مسجدي الكوفة وسهلة، أو مسجدي سهلة وصعصعة".([15])


وروى الكليني بسنده عن خادم لإبراهيم بن عبْدة النيسابوري أنّها قالت: "كنت واقفة مع إبراهيم على الصّفا فجاء عليه السلام حتى وقَفَ على إبراهيم وقَبَضَ على كِتَاب مناسكه وحدَّثَه بأشياء".([16])


وروى بسنده "عن أبي عبد الله بن صالح أنه رآه عند الْحَجَر الأسْود والنّاس يتجاذبون عليه وهو يقول: مَا بهذا أُمِرُوا".([17])


هذه الروايات تزعم أن الإمام الغائب كان يحضُر مناسِك الحجّ مع الناس، وهو معروف لدى الشّيعة بأنّه هو الإمام الثاني عشر، فكيف يُقال إنه كان في حالة اختفاء وغيبة؟


الغيبة الصغرى

لم يكن من السهل على القواعد الشعبية للشيعة أن تهضم فكرة القول بغيبة الإمام والبقاء من غير زعيم لها، فكان لابد من القول بغيبة مؤقتة، وقام شخص يدعى عثمان بن سعيد العمري وادعى أنه على اتصال بالإمام الغائب، وأن الإمام الغائب قد عيّنه وكيلا عنه ينقل تعليماته إلى القواعد الشيعية، وبعده ادعى ابنه محمد بن عثمان بن سعيد العمري أنه الوكيل الثاني، ثم ادعى أبو القاسم الحسين بن روح أنه الوكيل الثالث، ثم ادعى أبو الحسن عليّ بن محمد السمري أنه الوكيل الرابع.([18]) وبعد ذلك انتهت مرحلة الغيبة الصغرى، وأُعْلِنَت الغيبة الكبرى التي لا تُعرَفُ نهايتُها ولا يوجد فيها وكيل مُعيَّن للإمام الغائب.

لقد كانت فكرة تعيين وُكَلاَءَ ونوّاب للإمام الغائب يبشرون الأتباع بقُرْبِ عودته، ويعللونهم بالأماني من أجل مساعدتهم على تكييف أنفسهم شيئا فشيئا على قبول عدم وجود الزعيم الروحي (الإمام)، والتمهيد لإعلان الغيبة الكبرى. روى الكليني عن عليّ بن يقطين قال: "قال لي أبو الحسن عليه السلام:([19]) الشيعة تُرَبَّى بالأماني منذ مائتي سَنَة". ثم روى حواراً بين عليٍّ هذا وأبيه يقطين: "قال يقطين لابنه عليّ بن يقطين: ما بالنا قيل لنا فكان، وقيل لكم فلم يكن؟ قال: فقال له عليّ: إنّ الذي قِيل لنا ولكم كان من مَخْرَج واحد، غير أنّ أمْرَكُم حَضَر، فأُعْطَيتُم مَحْضَه، فكان كما قيل لكم، وإن أمْرَنا لم يحضُر، فعُلِّلْنا بالأماني، فلو قيل لنا: إنّ هذا الأمر لا يكون إلاَّ إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنَة لقسَتْ القلوب، ولرجَع عامّة الناس عن الإسلام،* ولكن قالوا: ما أسْرعَه وما أقْربه تألُّفاً لقلوب الناس وتقريبا للفَرَج".([20])


ومن باب التّعليل بالأماني وتشجيع الأتباع على القبول بفكرة الغيبة والعيش على أَمَل عودة الإمام الغائب، وضعوا نصوصا ترغبهم في ذلك ترغيبا شديدا وتعدهم بأجر عظيم. وفي هذا السياق أسند الكليني إلى أبي جعفر أنه قال في فضل المنتظرين للإمام الغائب: "...واعلموا أنّ المنتظر لهذا الأمر له مثل أَجْرِ الصّائم القائم، ومن أَدْرَكَ قائمنا
]أي المهدي المنتظر[ فخرج معه فقَتَل عدوَّنا كان له مثل أَجْرِ عشرين شهيدا، ومن قُتِل مع قَائِمِنَا كان له مثل أَجْرِ خمسة وعشرين شهيدا".([21])

ويا له مِن أجْرٍ مُغْرٍ يجعل الإنسان ينْتظر الإمام الغائب بشوق ولَهْفَة، فهو بمجرد انتظاره ينال أجْرَ الصائم القائم، أما إذا كُتِبَ له شرَف إدراك وقت خروج الإمام الغائب فإن الأجْرَ سوف يكون أعظم؛ فمجرَّد قتْلِ واحدٍ مِن أعْدَاء الشيعة مِن الفرق الشيعية المخالفة للشيعة الإثني عشريّة أو مِن أهل السّنة يمنحه أجْرَ عشرين شهيداً، فإذا مَنَّ الله تعالى عليه بالموت تحت لواء الإمام القائم فإنه لا يأخذ أَجْرَ شهيد واحد فقط، بل له أجْر خمسة وعشرين شهيدا‍!


وروى الكليني بسنده عن الـمُفَضَّل بن عمر عن أبي عبد الله قال: "أقرب ما يكون العباد من الله جلَّ ذكره وأَرْضَى ما يكون عنهم إذا افتقدوا حُجَّة الله جلَّ وعزَّ
]يعني المهدي المنتظر[ ولم يظهر لهم ولم يعلموا مكانه وهم في ذلك يعلمون أنه لم تبطل حُجَّةُ الله عزّ وجلّ ذِكْرُه ولا ميثاقه، فعندها فتوقَّعُوا الفَرَج صباحاً ومساءً فإن أشدَّ ما يكون غَضَبُ الله على أعدائه إذا افتقدوا حُجَّتَه ولم يَظْهَر لهم. وقد عَلِمَ أنّ أولياءه لا يرتابون ولو علم أنّهم يرتابون ما غيَّبَ حُجَّتَه عنهم طَرْفَة عيْن، ولا يكون ذلك إلاّ على رأس شِرَار الخَلْق".([22])

وترى أنّ هذه الرواية جمعت متناقضات ثلاث: فهي تجعل وَقْت غيّاب الإمام هو أفضل وقت للنّاس إذْ يكون الناس قريبين من الله تعالى في ذلك الوقت ويكون الله سبحانه وتعالى راضيا عنهم تمام الرّضا، وهي من جهة ثانية تجعل وقت غياب الإمام هو أسوأ وقت لأنه لا يحدث إلاّ مع شَرَارِ الخَلْقِ! ومن جهة ثالثة تصف ذلك الوقت بأنه أسوأ وقت لأن غَضَبَ الله تعالى على الأعداء الذين لا يؤمنون بنظريّة الإمامة الإثني عشريّة يكون في قمته في هذا الوقت. فهل أصبح الشيعة منذ وفاة الإمام الحادي عشر إلى يومنا هذا من شرار الخلق هم أيضاً؟ لأن قوله: "ولا يكون ذلك إلا على شرار الخلق" شامل لهم أيضا! وكيف يصبحون من شِرَار الخَلْقِ وهُم الذين يَصِفُهُم هذا القول بأنّهم أولياء الله تعالى الذين لا يرتابون في وجود الإمام الذي لم يثبت له وجود؟


الغيبة الكبرى

في البداية وعَدَ الذين نصبوا أنفسهم وكلاء للإمام الغائب القواعد الشيعية بعودة الإمام بعد سبعين سنة، ثم بعد فترة زادوا المدة إلى الضِّعف فجعلوها مائة وأربعين سنة، وبعد مدة أخرى قالوا إن مدة غيبته مفتوحة ولا يدري أحد نهايتها. روى الكليني بسنده في باب "كراهية التوقيت" عن أبي حمزة الثمالي قال: "سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: يا ثابت إنّ الله تبارك وتعالى قد كان وَقَّتَ هذا الأمر ]غيبة الإمام الثاني عشر[ في السبعين، فلما أنْ قُتِلَ الحسين صلوات الله عليه اشتَدَّ غضب الله تعالى على أهْلِ الأرض، فَأَخَّرَه إلى أربعين ومائة، فحدَّثناكم فَأَذَعْتُم الحديث، فكشفْتُم قنِاع السّتْر، ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمُّ الكتاب".([23])

يبدو أن عدم تحقُّق الوعُود التي وَعَدَ بها وكلاءُ الإمام الغائب بظهور المهدي قد أثار شكّا واضطراباً في أوساط الشيعة؛ فقد طال الانتظار ولم تَصْدُق التّنبؤات التي أُخْبِرُوا بها، وكان لابد من تبرير لذلك، فنسبوا إلى أبي جعفر محمد الباقر عليه رحمة الله النهي عن السؤال عن وقت رجوع الإمام الغائب، ووجوب الالتزام بالتصديق بكلّ ما يُرْوى لهم عن الأئمة، والتّسليم بذلك سواء تحقَّق أو لم يتحقّق. روى الكليني عن عبد الرحمن بن كثير قال: "كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه مِهْرَم، فقال له: جُعِلْتُ فداك أخبرني عن هذا الأمر الذي ننتظره متى هو؟ فقال: يا مهرم! كذب الوقَّاتون، وهَلَك المسْتَعْجِلُون، ونَجَا المسَلِّمُون".([24]) وروى الكليني بسنده عن الفضل بن يسار، عن أبي جعفر قال: "قلت: لهذا الأمر وقت؟ فقال: كذب الوقَّاتُون، كذب الوقَّاتُون، كذب الوقَّاتُون، إنّ موسى عليه السلام لما خرج وافداً إلى ربِّه واعدهم ثلاثين يوما، فلمّا زاده الله تعالى على الثلاثين عشْرا قال قومه: قد أخْلَفَنا موسى فصنعوا ما صنعوا. فإذا حدَّثناكم الحديث فجاء على ما حدَّثْناكم [به] فقولوا: صدق الله، وإذا حدَّثْناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدَّثْناكم به فقولوا: صدق الله، تؤجروا مرتين".([25]) هكذا يجب أن يكون موقف أتباع المذهب الشيعي: التَّصديق بكلّ ما يُروَى لهم عن أئمتهم سواء وقَع ما أُخْبِرُوا به صحيحاً أو خطأً، بل إنّ الأجرَ يكون أعظم عندما يُصدِّقوا بما نُسِب إلى الأئمة على الرغم من ظهور خطئه وكذبه.


ويبدو أنّ الذي وضع هذا الخبر ونسبه إلى أبي جعفر لم ينتبه إلى وجود شخص آخر قد وضع خبرا آخر ونسبه إلى إبي جعفر نفسه يحدد فيه وقت العودة بسبعين سنة ثم بمائة وأربعين سنة! فهل أصبح أبو جعفر يصف نفسه بالكذب عندما وقَّت لهم ظهور المهدي بعد سبعين سنة؟


وبهذا نرى أنه بعد أن مُهِّدَت النفوس لقبول فكرة الغيبة، انتقل منظرو الفرقة إلى القول بالغيبة الكبرى ونفي التوقيت، وإلزام الناس بالتّصديق بذلك والتّسليم به وعدم الاستعجال.
وهكذا بدأت مرحلة الغيبة الكبرى، وتَمّ الاستغْناء عن فكرة النّواب والوكلاء المعيَّنين، وتُرِكَ أمْر قيادة التيار الشيعي -الذي اكتمل بِناءُ نظرياته الأساسية في المجال السياسي والفكري والفقهي- لعلماء المذهب ومنظِّريه. يقول رجل الدين الشيعي محمد باقر الصدر: "وقد عبَّر التحوُّل من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى عن تحقيق الغيبة الصغرى لأهدافها وانتهاءِ مهمَّتها لأنها حصَّنَت الشيعة بهذه العمليّة التدريجيّة عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام، واستطاعت أن تُكيِّف وضع الشيعة على أساس الغيبة وتُعِدَّهم بالتّدريج لتقبّل فكرة النيابة العامة عن الإمام، وبهذا تحوَّلت النيّابة من أفراد منصوصين إلى خطّ عام وهو خطّ المجتهد العادل البصير بأمور الدنيا والدين تبعاً لتحوُّل الغيبة الصغرى إلى غيبة كبرى".([26])

دفاع مستميت!

لقد بذل مُنَظِّرُو المذهب الشيعي جهداً عظيماً لإثبات عقيدتهم في الإمامة، وإثبات أنّ الأئمّة الذين اختاروهم هم حُجَّةُ اللهِ تعالى على خَلْقِهِ، وهم الطريقُ الوحيدُ إلى الله سبحانه وتعالى، وأنّ سلسلتهم لا يمكن أن تنقطع على الأقلِّ نظريّاً؛ فلما انقطعت سلسلة الإمامة واقعيّاً بعد موت الإمام الحادي عشر (260هـ)، افترضوا وجود الإمام الثاني عشر ومدّدوا حياته إلى أجل غير مسمى، وهو حيّ موجود إما داخل سرداب في مدينة سامراء -على قول بعضهم- أو هو موجود ويعيش بين الناس منذ سنة 256هـ إلى يومنا، يمشي في أسواقهم ويبيع ويشتري منهم، ولكن لا أحد يعرفه -على قول بعضهم الآخر. وتظهر ضخامة الجهد الذي بذلوه عندما تَطَّلِعُ على مصدرهم الأساسي الذي جمع جزءا كبيرا من تلك الجهود التَّنْظِيريَّة، وهو أصول الكافي، حيث بلغ الجزء المخصَّص لإثبات إمامة الأئمة وحُجِّيَّتهم ووجود الإمام الثاني عشر، وهو بعنوان: "كتاب الحُجَّة" 664 صفحة، هذا فضلاً عن أنّ الأجزاء الأخرى تدور في مجملها حول الموضوع نفسه.

وعلى الرغم من ضخامة هذا الجهد، وكثرة الاستدلالات، والاستماتة في محاولات إثبات وجود الإمام الثاني عشر، إلاّ أنّ ذلك البناء كان هَشّاً ضعيفَ الأركان، ولم يكن كافيّاً لإقناع حتى طوائف الشيعة الذين أقروا بعدم وجود الإمام الثاني عشر. وقد بعث ذلك الفشل الغضب في نفوس منظري فكرة الإمام الغائب، وأثار في نفوسهم الحقد على أولئك الناس، فَصَبُّوا عليهم شتائمهم ولعناتهم، فوصفوهم بأنهم "أشباه الخنازير"، وأنهم "أمّة ملعونة"! وقد سَجَّلَ الكليني نماذج من ذلك: منها ما رواه بسنده عن سدير الصيرفي فيما ينسبه إلى جعفر الصادق: "إنّ في صاحب هذا الأمر
]المهدي المنتظر[ شَبَهاً من يوسف عليه السلام، قال: قلت له: كأنّك تَذْكُرُ حياته أو غيبته؟ قال: فقال لي: وما يُنْكِرُ من ذلك هذه الأمَّةُ أَشْبَاهُ الخنازير، إنّ إخوة يوسف عليه السلام كانوا أسباطاً أولاد الأنبياء تاجروا يوسفَ وبايعوه وخاطبوه وهم إخوته وهو أخوهم، فلم يعرفوه حتى قال: أنا يوسف وهذا أخي، فما تُنْكِرُ هذه الأمَّةُ الملعونة أن يفعل الله عزّ وجلّ بِحُجَّتِهِ في وقت من الأوقات كما فعل بيوسف. إنّ يوسف عليه السلام كان إليه مُلْكُ مصر وكان بينه وبين والده مسيرة ثمانية عشر يوماً، فلو أراد أنْ يُعْلِمَهُ لَقَدَرَ على ذلك، لقد سار يعقوب وولده عند البِشَارَةِ تسعة أيام من بَدْوِهِمْ إلى مصر. فما تُنْكِرُ هذه الأمّة أن يفعل الله عزّ وجلّ بِحُجَّتِهِ كما فعل بيوسف، أنْ يمشي في أسواقهم ويَطَأَ بُسُطَهُم حتى يأذن الله في ذلك له، كما أذن ليوسف، قالوا: أئنك لأنت يوسف؟ قال: أنا يوسف."([27])

لقد كان مُنَظِّرُو المذهب الشيعي يَسْبَحُون ضِدَّ التيار؛ فهم يسعون إلى رفع مجموعة من الأشخاص -اختاروهم ليكونوا رموزاً لهم- إلى مرتبة الرُّسل والأنبيّاء، وجعلوهم ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم والأوصيّاء على الإسلام والمسلمين، ويريدون من الناس الاقتناع بذلك والتّسليم به في الوقت الذي يقرأ فيه المسلمون في القرآن الكريم أنّ الرسالة قد خُتِمَتْ بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد بَلَّغَ الرسالة كاملةً إلى المسلمين قَبْلَ موته، وأنّ الله تعالى لم يجعل الوصاية لأحدٍ على هذا الدين، وأنّ مسؤولية الالتزام بالدين وتبليغه والدفاع عنه هي مسؤولية جميع أفراد الأمة الإسلامية، ولا يرون لأولئك الرجال الذين نصبهم الشيعة أوصيّاء على الإسلام والمسلمين أيَّة مِيزَةٍ على غيرهم من المسلمين سوى رغبة بعض الشيعة في تفضيلهم على غيرهم ومحاولة إقناع الناس باتباع رغبتهم تلك.


الأدلّة على وجود المهدي

ذكر رجل الدين الشيعي محمد باقر الصدر أنه قد أُحْصِي من السّنَّة أربعمائة حديث واردة في المهدي، كما أُحْصِي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة وأهل السنّة معاً فكان أكثر من ستة آلاف رواية، ويقول: "وهذا رقم إحصائيّ كبير لا يتوفّر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهيّة التي لا يشكّ فيها مُسلم عادة".([28])

نعم! إن قضايا الإسلام البديهية والمسائل الشرعية الثابتة يكفي في إثباتها نص أو بضعة نصوص صحيحة، وهي ليست في حاجة إلى كثرة الاستدلال والتأليف، وإنما تكون كثرة الاستدلال والتّأليف في المسائل المشكوك في ثبوتها وصحتها، وهي التي تكون محلّ اختلاف بين الناس وإنكار من بعضهم. وكلّما كَثُرَ الاستدلال على مسألة كان ذلك دليلاً على عظمة الشكّ فيها وضعف أدلتها.


إن تلك الأرقام التي يذكرها قائمة على المبالغة والتدليس، حيث إن الروايات يعود أصلها إلى عدد قليل، ولكن شيوع تناقلها وتكرُّره في كُتُب متعددة عند المتأخرين يجعل عددها ضخما. هذا فضلا عن أن جميع المرويات المتعلقة بالمهدي المنتظر إما موضوعة أو ضعيفة لا يثبت بها دليل، والكثرة التي يتحدث عنها باقر الصدر هي كثرة الموضوعات والروايات الهشّة، وتلك الكثرة لا تزيدها قوة، بل تدل على الاستماتة في محاولة إثبات ما ليس له ثبوت. إن تلك الكَثْرة تدلّ على الشّكّ الكبير الذي يحيط بهذه القضيّة، وهي تُذكِّرُنا بما رُوِي من أنّ الفخر الرازي مَرَّ ذات يوم في موكب من تلاميذه بعجوز، فرأت العجوز الموكبَ مهيباً فسألت: من هذا الرجل؟ فقيل لها: هذا الإمام الفخر الرازي الذي يملك ألف دليل ودليل على وجود الله وصفاته، فقالت: لو لم يكن عنده ألفُ شكّ وشكّ لما احتاج إلى ألفِ دليل ودليل!


الخلاصة أنّ تلك الجهود المستميتة في جمع الأدلة للدفاع عن فكرة المهدي المنتظر دليل على هشاشة الفكرة وضعفها الشديد الذي يصل إلى درجة الوهم، وهو دليل على شكِّ أصحاب الفكرة أنفسهم في ثبوتها وصحَّتِها، لذلك يبالغون في جمع الأدلة والإكثار منها، والاستماتة في الدفاع عنها لإقناع أنفسهم بصحّتها، ثم محاولة إقناع غيرهم بذلك.


أما إيراد محمد باقر الصدر لأهل السنة في هذا المقام فهو من باب خلط الأوراق لإيهام القراء بأن أهل السنة أيضا يؤمنون بمهدي الشيعة، وهو غير صحيح. فالمهدي الذي تذكره بعض مصادر أهل السنّة يختلف تماما عن مهدي الشيعة، فهو ليس شخصا مات أو اختفى ثم يظهر في المستقبل كما هو الشائع عند الفرق الشيعية، وإنما هو شخص يولد في المستقبل، وعندما يحكم يحقق العدل. والطريف أن بعض الشيعة يعتقدون أن هذا المهدي الذي تذكره بعض مصادر أهل السنة هو الذي يسمونه "السفياني"، وهو -عندهم- رجل شرير من الأمويين من نسل أبي سفيان يخرج من الشام قبل ظهور مهديهم المنتظر يعيث في الأرض فسادا ويقتل خلقا كثيرا.


وزيادة على الاختلاف بين أهل السنّة والشيعة في فكرة المهدي، فإن ثبوت المهدي المنتظر الذي تذكره بعض مصادر أهل السنة مختلفٌ فيه بينهم، فبعضهم يثبته، وهناك من ينفي وجوده بسبب ضعف الروايات الواردة في ذلك، ومنهم
الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الذي يقول إنه جمع الروايات الواردة في المهدي، ودرس أسانيدها فوجد رجال تلك الأسانيد على قسمين:

القسم الأول
: أسانيد اختلف أئمة نقد الرجال في تعديل وتجريح رجالها اختلافا متكافئا. وأسانيد أولئك الرواة هي أفضل أسانيد تلك الآثار، وهي التي رواها الترمذي وأبو داود وابن ماجة، ومجموعها ثمانية طرق. وبعد أن عرض تلك الطرق الثمانية وبيّن الرجال الـمُتَكَلَّم فيهم في سندها، خلص إلى أنها لا ترقى إلى مرتبة الحسن، بل هي من قسم الحديث الضعيف؛ "لأن أسانيدها لم تسلم من الاشتمال على راو ضعيف، وبعض رواة أسانيدها مطعون فيهم. ومن تكُلِّم فيه منهم وإن كانوا قد قَبِلَهم بعض أهل النقد، فقد ردهم بعضهم، فتعارض فيهم الجرح والتعديل والرد والقبول، وقد استقر عند علماء الحديث، وأصول الفقه أن الجرح إذا صدر من أهل المعرفة مقدَّم على التعديل الصادر منهم"، وإن كان الترمذي قد وَسَمَ أحدَ تلك الروايات بالحسن والصحة، فإن تلك الرواية ليس فيها ذكرٌ للمهدي، وإنما ذكرٌ لرجل من آل البيت يلي أمر المسلمين.

وأما القسم الثاني من الأسانيد، فإن جمهور أهل النقد يأبون قبولهم، وهم الذين انفردت بإخراج رواياتهم المصنفات المعروفة بالخلط بين الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، وعُرف أصحابها بالتساهل في قبول الرواة، مثل معاجم الطبراني، ودلائل النبوة للبيهقي، وتاريخ ابن عساكر، وتاريخ الخطيب البغدادي، ومستدرك الحاكم، وحلية الأولياء لأبي نعيم.


ويرى ابن عاشور أن أخبار المهدي مما تسرب من الشيعة إلى بعض دوائر أهل السنة حين اختلط العلم
. ويدعم ما ذهب إليه بأن رواة تلك الأخبار نسبوها إلى ثمانية عشر من الصحابة، وهذا الحرص من الرواة على تزيين تلك الأسانيد ونسبتها إلى عدد كبير من الصحابة مع عدم خلو سند من تلك الأسانيد من مقال أو طعن، يجعلها مثارا للشك، فقد يكون ذلك مؤشرا على حرص مشيعي ذلك الخبر على رواجه بين الناس، فيكتسب بتلك الطرق المختلفة شهرة وقوة حتى يطمئن له عامة المسلمين. ولو كان ذلك الخبر حقا بلغ شهرة صحيحة مثل تلك التي روّج له بها مشيعوه، وكانت تلك النسبة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- حقا وأسانيدها مقبولة لما فات جميعها الإمامين البخاري ومسلم اللذين لم يغفلا في كتابيهما قضايا في غاية البساطة مثل كيفية الاضطجاع، فكيف يهملان هذه القضية المهمة لو كان لها سند صحيح؟!([29])

مُنْتَظَر ومُنْتَظِر!

من الطرائف المتعلقة بعقيدة المهدي الْمُنتَظَر أن الشيعة كلّما يذكرونه يدعون له بقولهم: "عجّل اللهُ فَرَجَهُ وسهّل مخرجه"، والدعاء بالفَرَج إنّما يكون لمن هو في مِحْنَة ومُصِيبة! فهم يُقِرُّون أنّ الإمام المهدي (الذي يفترضون وجوده) في مِحْنَة وأنّه يحتاج إلى الدعاء المستمرّ من قِبَل أتباعه لتفرّج عنه تلك المحنة! فهل يمكن أن يكون المكْرُوبُ الذي يدعو له أتباعه دوماً بالفَرَج والخلاص العاجل هو الـمُنْقِذ الـمُنْتَظَر الذي يخلِّصُهم من الظلم والكُرُبَات؟ ومَنْ مِنْ الطَّرفين يحتاجُ إلى الآخر ليخلِّصه مما هو فيه: الغائبُ المنْكُوب الذي يدعو له أتباعه بالفرج والخلاص، أم الأتباع الذين ينتظرون خلاص المحبوس المكروب ليملأ لهم الأرض عدلا؟!


([1]) النوبختي. فرق الشيعة. ص79.
([2]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص135.
([3]) المرجع نفسه. ج2. ص118.
([4]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص118.
([5]) المرجع نفسه. ج2. ص120-122.
([6]) الكليني. أصول الكافي. ج2، ص118-119.
([7]) الكليني. أصول الكافي. ج2، ص117؛ ج2، ص126.
([8]) المرجع نفسه. ج2. ص126.
([9]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص126-127.
([10]) المرجع نفسه. ج2. ص120-125.
([11]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص119-120.
([12]) المرجع نفسه. ج2. ص122.
([13]) الصدر، محمد باقر. (1417هـ). بحث حول المهدي عجل الله فرجه. تحقيق: وتعليق عبد الجبار شرارة. قم: مركز الغدير للدراسات الإسلامية. ص108.
([14]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص123.
([15]) المرجع نفسه. ج2. ص122.
([16]) المرجع نفسه. ج2. ص123.
([17]) المرجع نفسه. ج2. ص123.
([18]) الصدر، محمد باقر. بحث حول المهدي عجل الله فرجه. ص109.
([19]) المقصود به هو الإمام السابع: أبو الحسن موسى بن جعفر الصادق (ت 183هـ).
* مراده بكلمة "الإسلام" هنا هو المذهب الشيعي.
([20]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص192-193.
([21]) المرجع نفسه. ج3. ص315.
([22]) المرجع نفسه. ج2. ص127-128.
([23]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص190.
([24]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص191.
([25]) المرجع نفسه. ج2. ص191-192.
([26]) الصدر، محمد باقر. بحث حول الإمام المهدي عجل الله فرجه. ص110.
([27]) الكليني. أصول الكافي. ج2. ص134.
([28]) الصدر، محمد باقر. بحث حول المهدي عجل الله فرجه. ص104.
([29]) ابن عاشور، محمد الطَّاهر بن محمد. "المهدي المنتظر". ضمن كتاب: تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة. ص51 وما بعدها.
 

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
أعلى