د. نعمان مبارك جغيم
:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
- إنضم
- 4 سبتمبر 2010
- المشاركات
- 197
- الجنس
- ذكر
- التخصص
- أصول الفقه
- الدولة
- الجزائر
- المدينة
- -
- المذهب الفقهي
- من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
هل في آيات الصيام نسخ؟
قال السيوطي: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 184) قِيلَ: مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة: 185). وَقِيلَ: مَحْكَمَةٌ وَ"لَا" مُقَدَّرَةٌ قبل (يُطِيقُونَهُ)، فيصير المعنى: وعلى الذين لا يطيقونه.
قال الدهلوي: قلت: عندي وجه آخر، وهو: أن المعنى: وعلى الذين يطيقون الطعام (أي الإطعام) فديةٌ هي طعامُ مسكين، فأضمر قبل الذكر؛ لأنه متقدم رتبة، وذكر الضمير؛ لأن المراد من الفدية هو الطعام. والمراد منه صدقة الفطر. عقَّب الله -تعالى- الأمر بالصيام في هذه الآية بصدقة الفطر، مثل ما عقَّب الآية الثانية بتكبيرات العيد.[1]
قلت: ذكر الفراء أن الضمير في قوله تعالى: (يُطِيقُونَهُ) قد يعود على الصيام، أي: وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا، ويجوز أن يعود على الفداء، أي: وعلى الذين يطيقون الفداء فديةٌ.[2] والظاهر أن الإطعام مربوط بالفدية، وإرجاعه إلى صدقة الفطر لا يبدو له وجه ظاهر.
الواقع أن سياق الآيات يأبى دعوى النسخ؛ لأن الآية الأولى أوجبت الصيام وبيَّنت المقصد منه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183). ثم جاء قوله تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 184)، حيث افتُتِحَت الآية ببيان أن المدة التي فُرِض صومها هي أيام معدودات، ثم جاء بعدها بيان الرخصة لأصحاب الأعذار المؤقتة: المريض والمسافر، ثم جاء قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)، وحَمْلُ هذا الجزء من الآية على أن الصوم لم يكن مفروضا يناقض صدر الآية نفسها، وهو قوله تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ): لو كان الصوم غير مفروض فما فائدة ذكر الرخصة للمريض والمسافر؟
أما معنى قوله تعالى: (الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)، فإن من اشتقاقات مادة (ط و ق): التكليف، النُّشوز والنُّتوء، القدرة والوسع، بلوغ الغاية في القدرة على فعل الشيء.
جاء في لسان العرب: "طوَّقْتُك الشيء، أي كَلَّفْتُكَهُ. وطوَّقني الله أداءَ حقِّك، أي قوَّاني." "الطائق: حَجَر أو نَشَزٌ يَنْشز في الجبل... وفي البئر مثل ذلك ما نَشَز من حال البئر من صخرة ناتئة."[3]
وجاء فيه: "الطوق والإطاقة: القدرة على الشيء... وقد طاقَهُ طَوْقًا وأطاقه إطاقة وأطاق عليه... وهو في طوقي، أي في وسعي." "والطوق الطاقة، أي أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكن أن يفعله بمشقة منه."[4]
بناء على المعاني السابقة يتبين لنا ما يأتي:
- ما يُطَوَّقُ به الإنسان قد يكون مريحا له وعلامةَ جمالٍ له، وقد يكون ضيِّقا عليه يجعله في غاية الحرج.
- كما أن ما يُكَلَّفُ به الإنسانُ قد يكون في وسعه وطاقته، وقد يكون فوق طاقته ويُسبِّب له حرجا شديدا.
- الطاقة تكون بمعنى الوسع والقدرة، وقد تكون بمعنى بلوغ الغاية في بذل الجهد بحيث يصل الإنسان إلى درجة الحرج الشديد من ذلك الفعل؛ فهو وإن كان له نوع قدرة على مواصلة فعل ذلك الشيء، ولكن لما كان ذلك قد بلغ منه غاية الجهد، فإنه يُصبح في عَنَت وحرج شديد منه. هذا الأخير -والله أعلم- هو المراد من قوله تعالى: (الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)، أي الذين بلغت طاقتهم في الصوم أقصى الغاية، فأصبح الصوم يُسَبِّب لهم عَنَتًا وحرجا شديدا، وهم الشيخ الفاني والمريض الزَّمِن.
وبهذا يتبين أن الآية قد بدأت بالحديث عن فرضية الصوم على المسلمين، ثم بَيَّنَت حُكم أصحاب الأعذار المؤقَّتة -المرض العارض والسفر- وهو القضاء، ثم بَيَّنَت حُكم أصحاب الأعذار الدائمة -من بلغت طاقته على الصوم غايتها فأصبح الصوم يُسبب له حرجا شديدا، وهم الشيخ الفاني والمريض الزَّمِن- وهو الإفطار مع كفارة إطعام مسكين عن كل يوم، فمن تطوع وزاد في الإنفاق على الحد الأدنى (إطعام مسكين) فهو خيرٌ له. وقوله تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لا يشير إلى التخيير بين الصوم والإفطار مع تفضيل الصوم، إنما هو جملة مستأنفة تشير إلى فضل الصوم وعظيم فوائده الدينية والصحية.
ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185) لبيان تفضيل شهر رمضان باختياره لإنزال القرآن الكريم، وتوكيد صيامه لمن كانت له القدرة على ذلك، والترخيص لأصحاب الأعذار، وبيان رحمة الله تعالى بعباده وتيسيره عليهم.
الخلاصة أن عبارة (الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) تحتمل في اللغة أن يكون معناها: الذين بَلَغَت طاقَتُهم على الصوم غايتها، وأصبح الصوم طوقا وتكليفا يُسبب لهم العَنَت والمشقة الخارجة عن المعتاد، وهذا المعنى يؤيده ويؤكده سياق الآيات. وبهذا المعنى ينتظم سياق الآيات، وتنتفي الحاجة إلى افتراض النسخ، خاصة وأن افتراضه يُدخل على سياق الآيات الاضطراب والتناقض. والله أعلم.
[1] الدهلوي، الفوز الكبير، ص59.
[2] الفراء، أبو زكريا يحيى بن زياد، معاني القرآن، تحقيق محمد يوسف نجاتي ومحمد علي النجار (القاهرة: دار الكتب المصرية للتأليف والترجمة) ج1، ص112.
[3] ابن منظور، لسان العرب، مادة (ط و ق)، ص2724.
[4] ابن منظور، لسان العرب، مادة (ط و ق)، ص2725.