العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

النسخ في القرآن الكريم: مراجعة وتحرير (10) هل في آية الوصية نسخ أم تخصيص؟

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي

النسخ في آية الوصية

قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 180)

اختلف العلماء في معنى الآية على أقوال:
القول الأول
: روي عن الضحاك وطاوس والحسن البصري أن الآية وإن كانت بلفظ العموم، فهي في أصلها خاصة بمن لا يرث من الوالدين -غير المسلمين- والقرابة. وبناء على ذلك فلا نسخ فيها؛ لأنها لا تشمل أصلا الورثة حتى يقال إنها نُسِخت بالنصوص المتعلقة بالميراث.[1]

هذا القول إنما يصح إذا ثبت أن آية الوصية نزلت بعد آيات المواريث، فتكون آيات المواريث قرينة تدل على خصوصها. أما إذا ثبت أنها نزلت قبل آيات المواريث فإن حملها على الخصوص يكون تعسُّفا؛ لأن لفظها عام، وسياقها يدل على العموم، ولا توجد قرينة تدل على أنه أريد بها الخصوص. وفي هذه الحال لا يمكن أن تكون آيات المواريث قرينة على الخصوص؛ لأن قرينة إرادة الخصوص لا بد أن تكون موجودة وقت مجيء النص العام. ولا يمكن أن تتأخر عنه؛ لأن تفسير النص يكون عند مجيئه وليس بأثر رجعي.


القول الثاني
: ذهب جمهور العلماء -وهو منسوب إلى ابن عباس وقتادة وجابر بن زيد وغيرهم- إلى أن الآية عامة، حيث كانت الوصية واجبة قبل فرض المواريث، ثم نُسِخ منها الوارثون، وبقيت الوصية ثابتة للأقربين الذين لا يرثون.[2] جاء في صحيح البخاري عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "كَانَ المالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ."[3]

وهذا الذي ذهب إليه جمهور العلماء -في الحقيقة- يُخرج الآية من النسخ إلى التخصيص، فتكون الآية مخصَّصَة بآيات المواريث؛ لأن الأمر بالوصية ما زال قائما، ولكن أُخرج منه الورثة فقط.


القول الثالث
: ذهب قوم إلى أن الوصية كانت واجبة، ثم نُسِخَ الوجوب وبقيت الوصية مندوبة فقط.[4] وقد نسبه الرازي إلى أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء.[5] وعلى هذا الرأي تكون الوصية في الآية المذكورة قد دخلها النسخ، حيث نُسِخ الوجوب بالندب. واختلفوا بعد ذلك في الناسخ: هل هو آيات المواريث أم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فلا وصية لوارث."؟[6] والواقع أنه عند النظر في صيغة الحديث كاملا نجد أنه يشير صراحة إلى أن النسخ (أو التخصيص) قد وقع بآيات الميراث؛ لأنه يقول: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ."[7] وفي رواية أخرى: "إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ لِكُلِّ وَارِثٍ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَلَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ."[8] فقوله: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ" يشير إلى آيات المواريث.

الخلاصة أن الراجح في آية الوصية التخصيص لا النسخ؛ لأن آيات الميراث جاءت بتخصيصها بغير الورثة. والتخصيص بمنفصل وإن كان يُسمى نسخا في اصطلاح علماء الصدر الأول، ويُعتبر نسخا جزئيا عند الحنفية، إلا أنه لا يُسمى نسخا في اصطلاح جمهور الأصوليين.


وقد تخبط أحد الكتاب في معرض سعيه لنفي النسخ في القرآن الكريم عموما، وفي هذه الآية خصوصا، حيث زعم أن صاحب المال له الحق أن يوصي للورثة من الأبناء أو غيرهم. وذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أجاز الوصية بأكثر من الثلث للوارث، واستدل على ذلك بأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك مشورة خاصة لسعد بن أبي وقاص؛ لأنه لم يرد بصيغة العموم للأوصياء![9] وهذا -في الحقيقة- غفلة عن أسلوب التشريع في الإسلام.


واستدل على جواز الوصية للورثة بعدم التعارض بين الميراث والوصية، حيث يمكن الجمع بينهما، فلا تكون آيات الميراث ناسخة لآية الوصية.[10] وهذا تعسُّف في التعامل مع النصوص الشرعية. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على أن آيات المواريث قد أعطت كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية بعد ذلك لوارث. ومسألة التعارض التي يتحدث عنها إنما تكون في النسخ الافتراضي لا في وقوع النسخ حقيقة، ولا حجر على الشارع فيما ينسخ، وليس لأحد أن يُلْزِمَه بأن لا يأتي إلا بناسخ يكون مناقضا للمنسوخ من كل الوجوه. وقد حاول أن يطعن في حديث "لا وصية لوارث" بقول الرازي إنه لم يبلغ مرتبة التواتر، وبأن البخاري ترجم به بابا في كتابه دون أن يخرج نص الحديث لعدم توفر شروطه فيه.[11] ومن المعلوم أن الحديث ليس متواترا، وسنده ليس في أعلى مراتب القوة، ولكن هذا كله ليس له أهمية كبيرة، فمسألة التواتر التي ذكرها الرازي كانت في معرض مناقشة النص الناسخ لآية الوصية هل هو الحديث أم الآية، وإذا قيل إن الناسخ هو الحديث، فالحديث من الآحاد وهم يقولون إن حديث الآحاد لا ينسخ القرآن. والواقع أن آية الوصية مُخَصَّصَة (أو منسوخة على قول من يرى النسخ) بآيات المواريث وليس بالحديث، وإنما جاء الحديث مبيِّنا لوقوع ذلك النسخ، وبهذا تسقط مسألة نسخ المتواتر بالآحاد. أما صحة الحديث فقد اعتبره أهل العلم مما تواتر به العمل؛ لأن الأمة تلقته بالقبول وعملت به من عهد الصحابة رضي الله عنهم، فهو وإن لم يكن متواترا ولا في أعلى مراتب الصحة من حيث سنده، إلا أن العمل به متواتر. وكون البخاري قد ترجم به يعني صحة معنى الحديث عنده لكون الأمة عملت به خلفا عن سلف، ولكنه لم يورد نصه في كتابه لأنه لم تتوفر في سنده شروطه.



[1]القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج3، ص99.
[2]القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج3، ص99- 100.
[3]صحيح البخاري، كتاب: الوصايا، باب: لا وصية لوارث، ج4، ص4، حديث رقم (2747).
[4]القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج3، ص101.
[5]الرازي، التفسير الكبير، ج5، ص67.
[6]القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج3، ص99- 100.
[7]سنن الترمذي، أبواب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، ج4، ص433، حديث رقم (2120).
[8]سنن ابن ماجه، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، ج2، ص905، حديث رقم (2712).
[9]السقا، لا نسخ في القرآن، ص54.
[10]السقا، لا نسخ في القرآن، ص54.
[11]السقا، لا نسخ في القرآن، ص55.
 
أعلى