العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

النسخ في القرآن الكريم: مراجعة وتحرير (12) نسخ عقوبة الحبس والأذى في الزنا

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي

نسخ عقوبة الحبس والأذى في الزنا


يقول الله عز وجل: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا (*) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (النساء: 15-16).
مفهوم الآيتين:

في تحديد المراد من هذه الآيات شيء من الإشكال مردُّه إلى أن الآية الأولى تحدثت عن عقوبة النساء اللاتي يأتين الفاحشة بقوله تعالى: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ)، وجعلت عقوبتهن -في حال ثبوت التهمة بشهادة أربعة شهود- الحبس حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا. أما الآية الثانية فجاءت بصيغة (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) والضمير في (يَأْتِيَانِهَا) عائد على الفاحشة، وهذا يثير إشكالا في تحديد المراد من الآية. لو كان المراد من الآية الثانية هو ذكر عقوبة الرجال الذين يأتون الفاحشة مقابل عقوبة النساء الواردة في الآية الأولى لجاءت بعبارة الجمع "والذين" حتى تكون مقابل ما جاء في الآية الأولى من ذكر عقوبة النساء، بحكم أن الزنا فعل مشترك بين النساء والرجال. أما مجيئها بصيغة المثنى (وَاللَّذَانِ) فإن ظاهره يوحي بأنها تشير إلى طرفي الفاحشة، وهما الرجل والمرأة، ولكن هذا المعنى يثير التساؤل: لماذا أُفْرِدَت النساء في الآية الأولى بعقوبة الحبس، ثم جُمِعَت مع الرجال في الآية الثانية في عقوبة الأذى؟

وقد أدى هذا الإشكال إلى اختلاف العلماء في بيان المراد من هاتين الآيتين:
1- ذهب قوم -منهم أبو مسلم الأصفهاني- إلى أن المراد بالفاحشة في الآية الأولى هو السحاق بين النساء وليس الزنا، وأن قوله تعالى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) المراد به اللذان يأتيان اللواطة.

ولكن يُعكِّر على هذا الفهم أمور: منها اشتراط شهادة أربعة شهود، والمعروف أن هذا الشرط إنما هو في عقوبة الزنا لا في السحاق. ومنها أن المفترض في الضمير في قوله تعالى (يَأْتِيَانِهَا) يعود على نفس الفاحشة المذكورة في الآية السابقة، ولكن تفسير الآيات بهذا المعنى يجعل الضمير يعود على شيء مختلف؛ لأن اللواط، وإن كان يشترك مع السحاق في جنس الفاحشة، إلا أنه شيء مختلف عن الزنا.

2- نُسِب إلى الحسن البصري وعطاء وقتادة أن المراد بقوله تعالى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) الرجل والمرأة.[1] وقد صحح الجصاص هذا القول.[2] وعلى هذا المعنى تكون عقوبة المرأة الحبس والأذى، وعقوبة الرجل الأذى فقط. يقول الجصاص: "فَاقْتَضَتْ الآيَتَانِ بِمَجْمُوعِهِمَا أَنَّ حَدَّ الْمَرْأَةِ كَانَ الْأَذَى وَالْحَبْسَ جَمِيعًا إلَى أَنْ تَمُوتَ وَحَدَّ الرَّجُلِ التَّعْيِيرُ وَالضَّرْبُ بِالنِّعَالِ، إذْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَخْصُوصَةً فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى بِالْحَبْسِ، وَمَذْكُورَةً مَعَ الرَّجُلِ في الآية الثانية بالأذى، فاجتمع لها الأمران جَمِيعًا، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلرِّجَالِ إلَّا الأَذَى فَحَسْبُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَتَانِ نَزَلَتَا مَعًا فَأُفْرِدَتْ الْمَرْأَةُ بِالْحَبْسِ وَجُمِعَا جَمِيعًا فِي الْأَذَى، وَتَكُونُ فَائِدَةُ إفْرَادِ الْمَرْأَةِ بِالذِّكْرِ إفْرَادَهَا بِالْحَبْسِ إلَى أَنْ تَمُوتَ، وَذَلِكَ حُكْمٌ لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ الرَّجُلُ، وَجُمِعَتْ مَعَ الرَّجُلِ فِي الْأَذَى لَاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ الْحَبْسِ لِلْمَرْأَةِ مُتَقَدِّمًا لِلْأَذَى ثُمَّ زِيدَ فِي حَدِّهَا، وَأَوْجَبَ عَلَى الرَّجُل الْأَذَى، فَاجْتَمَعَ لِلْمَرْأَةِ الْأَمْرَانِ وَانْفَرَدَ الرَّجُلُ بِالْأَذَى دُونَهَا."[3]

3- نُسِب إلى السدي وقتادة -ورجَّحه الطبري- أن المراد بالآية الأولى الثيبات من النساء ويدخل معهن الـمُحْصنون من الرجال بالمعنى، فتكون عقوبة الحبس للمحصنين من النساء والرجال. والمراد بالآية الثانية (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) البكرين من الرجال والنساء.[4] وقد علق الجصاص على هذا التأويل بأنه محتمل،[5] ولكن ضعَّفه بكونه "يُوجِبُ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ مَعَ إمْكَانِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظَيْنِ على حقيقة مقتضاهما."[6] وقد ردّ النحاس هذا التفسير لكونه قائما على تغليب المؤنث على المذكر، وهو بعيد في اللغة العربية، ولا ضرورة إليه في هذا السياق.[7]

4- ذهب قوم -وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد- إلى أن الآية الأولى في النساء عامة، محصنات وغير محصنات. والآية الثانية في الرجال خاصة، وتكون كلمة "اللذان" مشيرة إلى الثيِّب والبكر من الرجال. فتكون عقوبة النساء الحبس وعقوبة الرجال الأذى. واعترض الجصاص على هذا التأويل بقوله: "وَهَذَا التَّأْوِيلُ الْأَخِيرُ يُقَالُ إنَّهُ لَا يصح؛ لأنه لا معنى للتثنية هاهنا إذْ كَانَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ إنَّمَا يَجِيئَانِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَوْ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْجِنْسِ الشَّامِلِ لَجَمِيعِهِمْ."[8] ولكن أنصار هذا الرأي ردوا على ذلك بأن الآية عبَّرت عن الرجال بالتثنية إشارة إلى صنفي الرجال: من أُحصن ومن لم يُحصن. ووصفوا هذا التفسير بأنه يقتضيه اللفظ، ويستوفي أصناف الزناة. ويؤيده أنه قال في الآية الأولى (من نسائكم) وفي الآية الثانية (مِنْكُمْ)، أي من رجالكم.[9]

5- نُسِب إلى الحسن البصري أن قوله تعالى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (النساء: 16) نزلت قبل قوله تعالى: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ) (النساء: 15)، فتكون العقوبة -في البداية- الأذى للرجل والمرأة، ثم زيدت المرأة الحبس. وقد استبعد الجصاص هذا بقوله: "وَذَلِكَ يَبْعُدُ مِنْ وَجْهٍ؛ لأن قوله تعالى: (وَالَّلذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) الهاء التي في قوله تعالى: (يَأْتِيانِها) كِنَايَةٌ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُظْهِرٍ مُتَقَدِّمٍ مَذْكُورٍ فِي الْخِطَابِ أَوْ مَعْهُودٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ المخاطب، وليس في قوله تعالى: (وَالَّلذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) دَلَالَةٌ مِنْ الْحَالِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْفَاحِشَةُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ كِنَايَةً رَاجِعَةً إلَى الْفَاحِشَةِ التي تقدم ذكرها في أول الآية."[10]

هل في الآيتين نسخ؟

على قول من يرى أن الآية الأولى تتعلق بفاحشة السحاق بين النساء، والآية الثانية تتعلق بفاحشة اللواط بين الرجال، لا يكون في الآيتين نسخ؛ لأن حديث عبادة بن الصامت وآية سورة النور في الزنا خاصة.

أما على قول من يرى أن الحبس والأذى متعلقان بالزنا، فقد اتفق القائلون بذلك على وجود نوع من النسخ، ولكن اختلفوا في ما تعلق به النسخ وفي الناسخ. يقول الجصاص بعد ذكر احتمالات متعددة لمفهوم الآيتين: "وعلى أي وجه تصرفت وُجُوهُ الاحْتِمَال في حُكْمِ الْآيَتَيْنِ وَتَرْتِيبِهِمَا فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي نَسْخِ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ عَنْ الزَّانِيَيْنِ."[11]

ويقول إلكيا الهراسي: "ولا شك أن موجَبَ الفاحشة وهو الحبس في البيت، منسوخ كيفما قُدِّرَ الأمر، فأما الفاحشة الثانية فموجَبُها الإيذاء، وذلك ثابت الحكم غير منسوخ على قول بعض العلماء."[12] ويقول القرطبي: "وقد قال بعض العلماء: إن الأذى والتعيير باق مع الجلد؛ لأنهما لا يتعارضان، بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس فمنسوخ بإجماع."[13] والقول بالجمع بين الجلد والأذى ضعيف؛ لأنه قائم على الخلط بين النسخ وبين التعارض والترجيح، وذلك الخلط هو الذي أدى بهم إلى اشتراط التعارض بين الناسخ والمنسوخ. وقد بيَّنا من قبل أن النسخ يثبت بوجود الدليل على وقوعه، وليس بمجرد الافتراض، كما أنه ليس من شرط وقوع النسخ التعارض بين الحكم الناسخ والحكم المنسوخ. وقد كان الأذى عقوبة مستقلة قبل وجود عقوبتي الجلد والرجم، ثم شرع الشارع بعد ذلك الرجم والجلد فقط. ولا حاجة للنظر في مسألة التعارض؛ لأنها ليست من شرط النسخ أصلا.

زعم البعض أن الحكم الأول كان هو الإيذاء، ثم نُسِخ بالإمساك، ثم نُسخ الإمساك بعد ذلك.[14] وهذا القول قائم على افتراض نزول قوله تعالى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (النساء: 16) قبل قوله تعالى: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ) (النساء: 15). وهذا القول لا يستقيم؛ لأنه يناقض سياق الآيات، فالضمير في قوله تعالى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا) يعود على الفاحشة في قوله تعالى: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ). وهذا ينفي تقدُّم آية الحبس على آية الأذى، كما أن ارتباطهما بالضمير ينفي انفصالهما في النزول، ويؤكد أن نزولهما كان في وقت واحد.

ذهب جمهور العلماء إلى أن عقوبتي الحبس والأذى كانتا ثابتتين ثم نُسِختا، ولكن اختلفوا في الناسخ لهما. فذهب البعض إلى أنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبادة بن الصامت: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ."[15] وهذا الذي صححه الجصاص، حيث يقول: "وَهَذَا هو الصحيح؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا" يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلسَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى وَاسِطَةُ حُكْمٍ، وَأَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ حِينَئِذٍ؛ لَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَزَلَتْ كَانَ السَّبِيلُ مُتَقَدِّمًا لِقَوْلِهِ: "خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا"، ولَمَا صَحَّ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ."[16]

وكذلك فعل إلكيا الهراسي، حيث يقول: "والصحيح أنه نُسِخ بقوله عليه السلام: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا» الحديث. ويجب أن يكون قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) نازلا بعد قوله عليه السلام: «قد جعل الله لهن سبيلا» ، فإنه لو نزل قبل هذا الخبر، ما كان لقوله عليه السلام: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا» معنى، وذلك يدل على نسخ الكتاب بالسنة."[17]

وذهب البعض إلى أن قوله تعالى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا) هو عقوبة البكرين فقط فنُسِخ بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ). وبقي حكم الثيب في قوله تعالى: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) فَنُسِخَ بالرَّجْم.[18] ولكن هذا القول يثير إشكالا ذكره إلكيا الهراسي، حيث يقول: "واعلم أن الآية إن كانت ناسخة فليس فيها فرق بين الثيب والبكر، وذلك يدل على أنه كان حكما عاما في البكر والثيب."[19] ولا مخرج من هذا الإشكال إلا أن يُقال إن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت جاء بعد آية سورة النور، ويكون مخصصا لها بعقوبة البكر دون الثيب. ولكن هذا لا يستقيم؛ لأن حديث عبادة بن الصامت يتحدث عن السبيل الوارد في آية سورة النساء، وسياقه يدل على أن آية سورة النور لم تكن قد نزلت بَعْدُ في ذلك الوقت.

ويظهر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يرى أن آية سورة النور في جلد الزانية والزاني عامة في البكر والثيب، وأن السنة النبوية أضافت عقوبة الرجم للثيب. فقد روي أنه جلد شُرَاحَة الهمدانية -التي كانت ثيِّبا وأقرَّت بالزنا- ثم رجمها. فقيل له: جلَدْتَها، ثُمَّ رجَمْتَها؟ قَالَ: "جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ."[20] وبهذا الرأي قال الحسن البصري، والحسن بن صالح بن حي، وإسحاق بن راهويه.[21] واحتج أنصار هذا الرأي بأن فعل علي بن أبي طالب ذلك، وعدم إنكار الصحابة عليه بكونه عمل بالمنسوخ وترك الناسخ، يدل على مشروعية الجمع بين الرجم والجلد.[22] وهذا استدلال ضعيف؛ لأنه قد وقع فعلا الاعتراض على فعل علي بن أبي طلب، حيث قيل له: "جلَدْتَها، ثُمَّ رجَمْتَها؟" فبيّن لهم وجهة نظره في الجمع بين العقوبتين. ولو كان الجمع بين الجلد والرجم معلوما مشهورا لما اعترضوا على فعله بقولهم: " جلَدْتَها، ثُمَّ رجَمْتَها؟"

وذهب جمهور العلماء -منهم أئمة المذاهب الأربعة- وهو مروي عن عمر بن الخطاب، إلى أن على الثيب الرجم فقط، متمسكين بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية، ولم يجلدهما، وبقوله صلى الله عليه وسلم لأنيس: "اغد على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها."[23] ولم يذكر الجلد. ولو كانت عقوبة الثيب الجمع بين الجلد والرجم لحصل ذلك في هذه الحالات الثلاث. وقد رد أنصار الرأي السابق على هذه الحجة بأن سكوت الرسول صلى الله عليه عن الأمر بالجلد أو سكوت الرواة عن ذكره إنما كان بسبب ثبوت الجلد في كتاب الله وشهرته.[24] وهذا ردٌّ ضعيف؛ لأنه لو وقع مع ماعز والغامدية لنُقِل، ولأن أنيسا كان مأمورا بتنفيذ العقوبة، ولو كانت العقوبة الجمع بين الجلد والرجم لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والأمر بتنفيذ العقوبة ليس له علاقة بشهرتها وعدم شهرتها، بل على الحاكم أن ينص على العقوبة كاملة، وعلى المنفذ أن ينفذها كما نص عليه الحاكم، دون زيادة أو نقصان.

وقد جاء عبد المتعال الصعيدي بتفسير غريب للآيتين، حيث يرى أن آية الحبس تبين الإجراء المتبع مع الزانية البكر سواء قبل جلدها أو بعد جلدها، حيث يتم حبسها في بيتها لإبعادها عن المجتمع ومنعها من المزيد من الفجور. وأن معنى قوله تعالى: (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) هو معاقبتها بالجلد أو الرجم عندما تحاكم وتثبت جريمتها أمام القضاء، وقد يكون السبيل شيئا آخر غير الجلد، وهو درء الحد بشبهة من الشبهات. وأن الحبس قد يكون احتياطيا وقد يكون مؤبدا. ومعنى قوله تعالى: (واللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُم فَآذُوهُمَا) يُبيِّن حكم الزانيين وهو الإيذاء بصفة عامة، ثم جاءت آية النور فحددت طريق الإيذاء للبكر، وهي الجلد. ثم حاول أن يدفع دعوى النسخ بإيراد قول للشيخ الخضري بأن آية سورة النساء في بيان حكم المشتبه في سلوكهن وخلقهن ممن يغشين أماكن الريبة. وأيد هذا القول بأنه يكون من باب حماية الآداب. ثم حاول بعد ذلك أن يدفع دعوى النسخ بما نقل عن مجاهد أن الآية في عقوبة السحاق بين النساء وفعل قوم لوط بين الرجال.[25] ولا يخفى ما في هذا الرأي من تعسُّف وتكلُّف.

الخلاصة أنه لاشك في نسخ عقوبتي الحبس والأذى، ولكن الخلاف هل نُسختا بسنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم كما رواها عبادة بن الصامت أم بما جاء في سوة النور؟

[1] الجصاص، أحمد بن علي أبو بكر الرازي، أحكام القرآن، تحقيق محمد صادق القمحاوي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1405هـ) ج1، ص42؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص144.
[2] الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص42.
[3] الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص42.
[4] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص143؛ الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص42.
[5] الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص42.
[6] الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص43.
[7] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص143.
[8] الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص42.
[9] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص143.
[10] الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص43.
[11] الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص43.
[12] إلكيا الهراسي، علي بن محمد بن علي الطبري، أحكام القرآن، تحقيق موسى محمد علي وعزة عبد عطية، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 1405هـ) ج2، ص375.
[13] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص140.
[14] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص139.
[15] صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب حد الزنى، ج3، ص1316، حديث رقم (1690).
[16] الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص44.
[17] إلكيا الهراسي، أحكام القرآن، ج2، ص377.
[18] الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص44.
[19] إلكيا الهراسي، أحكام القرآن، ج2، ص374.
[20] مسند أحمد، ط الرسالة، ج2، ص376، حديث رقم (1190).
[21] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص144.
[22] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص145.
[23] أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْضِ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِكِتَابِ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ بِمِائَةٍ مِنَ الغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَزَعَمُوا أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الغَنَمُ وَالوَلِيدَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ، فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا» فَغَدَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا." صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب من أمر غير الإمام بإقامة الحد غائبا عنه، ج8، ص171، حديث رقم (6835).
[24] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص145.
[25] عبد المتعال الصعيدي، لا نسخ في القرآن، ص127-128.
 
أعلى