العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

النسخ في القرآن الكريم: مراجعة وتحرير (13) الصمود في وجه الكفار

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي

الصمود في وجه الكفار

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 66)

1- ذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى القول بعدم النسخ في الآيتين. ويقوم رأيه -حسب ما عرضه الرازي- على أن الآية الأولى جاءت بصيغة الخبر لا بصيغة الطلب، وحتى إذا حملنا قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) على الأمر، فإنه يكون مشروطا بكون العشرين قادرين على الصبر في مواجهة المائتين. وقوله تعالى: (الآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء، "فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص، وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم. وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ البتة."[1]

ولما كان هذا التفسير يُعكِّر عليه قوله تعالى: (الآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ)، والتخفيف إنما يكون بعد توجُّه التكليف الأول، ثم استبداله بتكليف جديد أخفّ منه، فقد حاول الرازي دفع هذا بالقول إن لفظ التخفيف لا يدل على حصول التثقيل قبله، وإنما هو عبارة تستخدمها العرب للرخصة. ويدل على ذلك قوله تعالى في نكاح الأمَة: (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم)، وليس هناك نسخ، وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر.[2]

وهذا الذي ذكره الرازي فيه نظر؛ لأن قوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم) عبارة ترد في التشريع الابتدائي الذي يكون القصد منه التيسير على الناس، أما قوله تعالى: (الآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) فهو عبارة تكون مرتبطة بتشريع جديد حلَّ محلَّ تشريع سابق، والقصد من التشريع الجديد التيسير، ومثل هذا يكون عادة في النسخ.

كما حاول الرازي دفع دعوى النسخ بكون الآية الثانية مقارنة للآية الأولى، حيث يقول: "لما كان كون الناسخ مقارنا للمنسوخ غير جائز في الوجود، وجب أن لا يكون جائزا في الذِّكْر، اللهم إلا لدليل قاهر، وأنتم ما ذكرتم ذلك."[3]

وقد لخص الرازي موقفه من المسألة بقوله: "إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليه. فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول: قول أبي مسلم صحيح حسن."[4]

والظاهر أن الرازي تبنَّى رأي أبي مسلم الأصفهاني، حيث ختم تفسيره للآيتين بإرجاع قوله تعالى: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) التي جاءت في نهاية الآية الثانية إلى ما ورد في الآية الأولى، حيث يقول في تفسيرها: "والمراد ما ذكره في الآية الأولى من قوله: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ). فبيَّن في آخر هذه الآية أن الله مع الصابرين. والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا فإن نصرتي معهم، وتوفيقي مقارن لهم. وذلك يدل على صحة مذهب أبي مسلم، وهو أن ذلك الحكم ما صار منسوخا، بل ثابت كما كان."[5]

2- اعتبر القرطبي أن ما ورد في الآية الثانية من باب التخفيف لا من باب النسخ، حيث أورد حديث ابن عباس أنه قال: "لَمَّا نَزَلَتْ (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) شَقَّ ذَلِكَ عَلَى المسْلِمِينَ، حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، فَجَاءَ التَّخْفِيفُ. فَقَالَ: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) قَالَ: "فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ العِدَّةِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خُفِّفَ عَنْهُمْ."[6] ثم عقب على ذلك بقوله: "وحديث ابن عباس يدل على أن ذلك فُرِض، ثم لما شقَّ ذلك عليهم حُطَّ الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين، فخفَّف عنهم، وكتب عليهم ألا يفرّ مئة من مئتين، فهو على هذا القول تخفيف لا نسخ، وهذا حسن."[7]

3- يرى الجصاص أن ما حصل من التخفيف هو من باب النسخ، حيث يقول: "كان الفرض في أول الإسلام على الواحد قتال العشرة من الكفار لصحة بصائر المؤمنين في ذلك الوقت وصدق يقينهم، ثم لما أسلم قوم آخرون خالطهم من لم يكن لهم بصائرهم ونياتهم، خفف عن الجميع وأجراهم مجرى واحدا، ففرض على الواحد مقاومة الاثنين."[8] ويقول: "والتخفيف لا يكون إلا بزوال بعض الفرض أو النفل عنه إلى ما هو أخف منه، فثبت بذلك أن الآية الثانية ناسخة للفرض الأول."[9]

وقد أورد الجصاص رأي بعض المنكرين للنسخ في هاتين الآيتين محتجين بأنه ليس في الآية أمر، وإنما فيها وَعْدٌ بشرط، فمتى وفَّى بالشرط أنجز الوعد، وإنما كُلِّف كلُّ قوم من الصبر على قدر استطاعتهم، فكان على الأولين ما ذكر من مقاومة العشرين للمائتين، والآخرون لم يكن لهم من نفاذ البصيرة مثل ما للأولين فكُلِّفُوا مقاومة الواحد للإثنين. والحاصل أن مقاومة العشرين للمائتين غير مفروضة، وكذلك مقاومة المائة للمائتين، وإنما الصبر مفروض على قدر الإمكان، والناس مختلفون في ذلك على قدر استطاعتهم.[10] وردَّ على هذا الرأي بأنه لو لم يكن الخبر في الآية الأولى بمعنى الأمر، لما كان لقوله تعالى: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) معنى؛ لأن التخفيف إنما يكون في المأمور به لا في الـمُخْبَر عنه. ومعلوم أن القوم الذين كانوا مأمورين بأن يقاوم الواحد منهم عشرة داخلون -لا محالة- في قوله تعالى: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ)، وبذلك يكون قد وقع النسخ عنهم فيما كانوا تُعُبِّدوا به من ذلك، وهذا هو معنى النسخ.[11]

وممن ذهب إلى وقوع النسخ في الآية ابن العربي في كتابه أحكام القرآن.[12]

الخلاصة أن وقوع تغييرٍ في الحكم أمر ظاهر، ولا يهم بعد ذلك أن نسميه نسخا أو تخفيفا.


[1] الرازي، التفسير الكبير، ج15، ص201.
[2] الرازي، التفسير الكبير، ج15، ص201.
[3] الرازي، التفسير الكبير، ج15، ص202.
[4] الرازي، التفسير الكبير، ج15، ص202.
[5] الرازي، التفسير الكبير، ج15، ص203.
[6] صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب (الآن خفف الله عنكم)، ج6، ص63، حديث رقم (4653).
[7] القرطبي، أحكام القرآن، ج10، ص70.
[8] الجصاص، أحكام القرآن، ج4، ص256.
[9] الجصاص، أحكام القرآن، ج4، ص256.
[10] الجصاص، أحكام القرآن، ج4، ص256- 257.
[11] الجصاص، أحكام القرآن، ج4، ص257.
[12] ابن العربي، أحكام القرآن، ج2، ص429.
 
أعلى