و إتماماً للفائدة، هذه نبذة اخترتها من كتاب: الاختلاف الفقهي في المذهب المالكي ، لعبد العزيز بن صالح الخليفي، بين فيها سبب هذا التقسيم، وكذا سبب اختيار ابن أبي زيد القيرواني لينسب لأولى طبقات المتأخرين، حيث يقول: ص:85-86
ولعل القائلين بتقسيم الفقهاء إلى متقدمين و متأخرين لم يقصدوا- فيما أعتقد- تحديد الفاصل الزمني بجميع القرن الرابع، و إنما أرادوا تحديد ه بمطلع ذلك القرن، والدليل على ذلك ما ورد في كلام أحد أئمة التأليف في مجال التراجم و الأعلام، وهو العلامة الذهبي حيث يقول في ميزانه(ميزان الاعتدال:1/4):" فالحد الفاصل بين المتقدم و المتأخر هو رأس سنة ثلاثمائة" وهو ما يعني أول القرن الرابع.
ومع ذلك يظل السؤال قائماً عن سبب اختيار تلك السنة لتكون حاجزاً بين المتقدم و المتأخر، وبعد قليل من التأمل ينجلي للناظر حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي يقول فيه : ( خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم...) رواه البخاري في صحيحه:5/2-3، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.
فقد أثبت الحديث لهذه القرون الثلاثة الأولى الخيرية و الأفضلية على ما بعدها، أما الذين جاءوا من بعد فإنهم متأخرون، لم يحرزوا تلك الأفضلية التي نالها المتقدمون بنص الحديث.
وبهذا يتضح لنا جلياً معنى مصطلح الفقهاء المتقدمين، إذ يراد بهم الفقهاء الذين عاشوا قبل سنة :300 للهجرة، و أما المتأخرون فهم الذين عاشوا بعدها.
وأما اختيار ابن أبي زيد لتنسب إليه أولى طبقات المتأخرين فلأنه ألمع شخصية ظهرت بين علماء وقته.
بارك الله فيك.
في هذا الكلام مواضع تحتاج إلى مزيد تأمل
1- كلام الذهبي في علم الحديث، لا في العلوم الشرعية كلها. وكتابه المذكور خاص بالجرح والتعديل، والمستدلون بكلامه من المعاصرين يخصون ذلك بعلم الحديث. (مع أنهم لا يجعلونه حدا زمنيا جامدا، بل فيه مرونة كبيرة).
أما أن يطرد هذا في الفقه، بل في خصوص الفقه المالكي، فهذا محل نظر.
2- القول بأن القرن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مائة سنة - وإن قال به من قال - محل نظر، وترد عليه إشكالات، أهمها ظهور البدع الكبرى قبل تمام الثلاثمائة. والذي رجحه ابن حجر وآخرون أن القرن بمعنى الطبقة أو الجيل، فيكون آخرها طبقة أتباع التابعين.
وليراجع كلامه فهو نفيس. (أظنه في الفتح).
3- يظهر لي أن تقسيم المؤلفين في علم ما إلى متقدمين ومتأخرين يرجع إلى تاريخ التأليف في ذلك العلم، والمعالم المنهجية البارزة للتأليف فيه.
وأذكر مثالين:
في البلاغة يصح جعل مرحلة القزويني حدا فاصلا، لأن الناس بعده عكفوا على كتابه التلخيص، ولم يزيدوا زيادات معتبرة في المضمون المعرفي. بخلاف من قبله كالجرجاني والسكاكي.
وفي النحو يمكن جعل مدرسة ابن مالك برزخا بين المرحلتين، لأن النحو قبله كان بصريا أو كوفيا أو بغداديا، وكان التأليف بمنهجية معينة، ثم جاء ابن مالك فصهر المذاهب السابقة واختار منها ورجح بينها، وتتابع الناس على النهل من معينه.
ومن المعلوم أن عصور هؤلاء الثلاثة (أعني القزويني وابن مالك وابن أبي زيد) متباينة جدا. فلا اعتبار - على جهة الإطلاق - للتحديد الزمني.
وكذلك
قد يقال إن ابن أبي زيد مرحلة فاصلة، لأن المالكية من قبله - في الغالب - أهل جمع وتتبع للروايات عن مالك وكبار أصحابه، أما ابن أبي زيد فرجح وعلل واختار ونقح، معتمدا على الثروة الفقهية التي وجدها مروية قبله.
وهذا موضع تدبر وبحث.
والله أعلم.