أمين بن منصور الدعيس
:: متخصص ::
- انضم
- 24 ديسمبر 2007
- المشاركات
- 335
- الجنس
- أنثى
- التخصص
- فقه
- الدولة
- السعودية
- المدينة
- الدمام
- المذهب الفقهي
- الحنبلي
إثبات أن جدة ميقات
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فقد جرى نقاش في حج هذا العام بينني وبين مجموعة من طلبة العلم حول كون جدة ميقاتا من عدمه، وكان من مفاصل النقاش التي وقع الخلاف فيها تحقيق معنى المحاذاة إذ القول في المسألة فرع عنه، فعزمت على بحث المسألة على وجه الاختصار بما يناسب عرضها في هذا المتلقى المبارك ليدور النقاش حولها، فأقول أولا تحت هذه المسألة لا بد من تقرير مقدمات: الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت أربع مواقيت، ذا الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام، وقرن المنازل لأهل نجد، ويلملم لأهل اليمن، وهذه المقدمة مجمع عليها.
الثانية: أن ميقات ذات عرق وقته الخليفة الراشد عمر بن الخطاب على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو الذي عليه عامتهم.
ثالثا:قام الإجماع على أن هذه المواقيت هي مواقيت لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم.
رابعا: أجمع أهل العلم على أن من لم يكن على طريقة أحد هذه المواقيت يحرم مما يحذيها.
خامسا: هذه المواقيت عبارة عن نقاط يقصد منها إعلام من أراد النسك بأنه يلزمه بدء الإحرام، وإنما حددت دون غيرها لأنها هي التي كانت على طرق الناس يومئذ، ولذا جاز الإحرام مما يحاذيها، وليس لها أي معنى تعبدي لذاتها كما في غيرها من المواضع المقدسة كالحرمين ونحوهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة 2/339 "وإنما فائدة التوقيت وجوب الإحرام من هذه المواقيت "
سادسا: لا بد من في تصور المسألة من معرفة بعد المواقيت عن مكة، فذو الحليفة تبعد عن مكة قرابة (430) كيلا، والجحفة تبعد (186) كيلا، وأما يلملم فهي عبارة عن واد يمتد من الشرق إلى الغرب ومصبه يقع على البحر الأحمر، وامتداد هذا الوادي قرابة (150) كيلا، ويبعد وسط الوادي عن مكة قرابة (90) كيلا.
سابعا: هذه المواقيت واقعه حول الحرم فيحصل عنها محيط المواقيت الذي لا يتجاوز إلا بإحرام من أي الجهات أتى الإنسان لأنه إما أن يحرم من المواقيت أو ما يحاذيها.
ثامنا: تبين مما سبق أن المواقيت منها ما هو أصلي وهو ما وقته النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو فرعي أو إضافي وهو ما يحاذي المواقيت الأصلية فكل نقطة تحاذي المواقيت الأصلية فهي ميقات فرعي.
بعد هذا ندلف إلى ما أردنا بيانه من تحرير معنى المحاذة:
المحاذاة تطلق في اللغة على الموازاة والمجاورة، قال في اللسان:حاذَيْتَ موضعاً إِذا صرْتَ بحِذائه، وحاذَى الشيءَ وازاه.
أما من حيث الاستعمال الشرعي فيكون المكان محاذيا لمكان آخر إذا تحقق فيه أحد ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون الموضع واقعا بين مكانين وعلى خط واحد، وهذا هو مقتضى اللغة، ولا ينكره أحد.
الثانية: أن يكون المكان مجاورا للمكان قريبا منه أو ملاصقا له، فيكون الميقات عن يمين أو يسار المار به وقريبا منه حال كونه متجها لمكة، يدل على هذا المعنى ما أخرجه مالك في موطأه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه أنه قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، فلما جاء يرفا تأخرت فصففنا وراءه.
الثالثة: أن تكون المسافة بين المكان وبين مكة تساوي نفس المسافة بين أقرب المواقيت إليه وبين مكة، يدل على هذه الحالة ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق.
قال ابن حجر في الفتح 3/389: «قوله فانظروا حذوها، أي إعتبروا ما يقابل الميقات من الأرض التي تسلكونها من غير ميل فاجعلوه ميقاتا».
قال ابن الأثير في النهاية 1/358: « وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (ذات عرق حذو قرن) الحذو والحذاء الإزاء والمقابل، أي إنها محاذيتها، وذات عرق ميقات أهل العراق وقرن، ميقات أهل نجد ومسافتهما من الحرم سواء».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة 2/336: « فحد لهم ذات عرق فلم يأمرهم عمر والمسلمون بالمرور بقرن، بل جعلوا ما يحاذيها بمنزلتها، وذلك لأن الإحرام مما يحاذى الميقات بمنزلة الإحرام من نفس الميقات، فإنه إذا كان بعدهما عن البيت واحدا لم يكن في نفس الميقات مقصود، ولأن في الميل والتعريج إلى نفس المؤقت مشقة عظيمة، وإنما يحرم مما يقرب منه إذا حاذاه؛ لأنه لما كان أقرب المواقيت إليه وإلى طريقه إذا مر كان اعتباره في حقه أولى من اعتبار البعيد».
ولا بد أخي هنا من أن تنبته لشيء مهم أن عمر رضي الله عنه قال: (أنظروا حذوها) أي ذات عرق فعلق المحاذاة بميقات واحد وهو ذات عرق لكونه أقرب المواقيت إليهم، ثم إذا نظرت بعد ذلك لتوقيته ذات عرق وجدت أن المسافة بين قرن وبين مكة قرابة (80) كيلوا، وكذلك هي المسافة ما بين ذات عرق ومكة.
فإذا تقرر ما سبق فالمعنى الثاني لا إشكال فيه لأن من كانت تلك حالة فهو قريب من الميقات ولا إشكال في إحرمه من ذلك الموضع، ولا تعلق لبحثنا بهذا المعنى لبعد جدة عن المواقيت.
وأما على المعنى الأول تكون المحاذاة بأن يحرم من بين ميقاتين فإذا رسمنا خطا مستقيما بين ميقاتين فكل بقعة على هذا الخط فهي بقعة محاذية.
وعلى المعنى الثالثة فالمحاذاة أن تنظر إلى أقرب المواقيت إلى المكان الذي أنت فيه، ثم تنظر في المسافة بين هذا الميقات وبين مكة فتحرم من موضع تكون المسافة بينه وبين مكة نفس المسافة بين الميقات وبين مكة.
أما القول بأن المحاذاة هي مطلق الموازاة والمسامته بأن يكون الموضع على خط واحد مع أحد المواقيت بدون تقييد ذلك بمسافة أو تقييد ذلك بكون الموضع بين ميقاتين، فقول غريب عجيب لأن لا زم ذلك أن من خرج من أقصى الأمريكيتين، أو من أقصى روسيا يمكن أن يحاذي المواقيت إذا كان على خط مستقيم مع المواقيت، وكفاك من شر سماعه!!!
* إذا تقرر ما سبق فيمكن أن نقول إن جدة ميقات فرعي أو محاذي لأدلة منها:
أولا: إذا رسمنا خطا وصلنا به بين المواقيت بخط مستقيم فسنحصل على مضلع خماسي الشكل، وتكون كل نقطة على هذا المضلع نقطة محاذاة للمواقيت على ما قررنا في المعنى الأول من معاني المحاذاة، وعلى هذا ستجد إذا رسمت ذلك على الخريطة أن الجحفة وجدة ومصب يلملم كلها على تقع على خط واحد، فيتحقق أن جدة محاذية للمواقيت بهذا المعنى، وينبغي التنبه أن مرادنا هنا بجدة ساحلها وما قرب منه من الأحياء وإلا من المعلوم أن امتداد جدة العمراني الآن كبير.
ثانيا: إذا تأملنا المعنى الثالث من معاني المحاذاة فسنجد أن أقرب المواقيت لجدة هو يلملم يبعد عن مكة مرحلتين والمرحلتان تقارب (80-85) كيلا، وهذه المسافة هي نفس المسافة تقريبا بين جدة وبين مكة، فبهذا يثبت أن جدة ميقات فرعي محاذ على هذا المعنى أيضا.
الثالث: إذا فرضنا أن المخالف لم يسلم بكلا الدليلين السابقين، فيقال قد اتفقت المذاهب الأربعة على أن من أشكلت عليه المحاذاة أو لم يقدر على تطبيقها فإنه يحرم من مسافة مرحلتين عن مكة، فإذا فرضنا أن جدة محل إشكال في المحاذاة فهي ليست محل إشكال في كونها تبعد عن مكة مرحلتين فتقرر بذلك كونها ميقاتا فرعي أيضا.
الرابع: جدة لا تخلوا من ثلاث حالات لا رابع لها: إما أن تكون تكون جدة داخل المواقيت وهذا لا يتأتى لأن لا زم ذلك أن تكون المواقيت خلفها في البحر.
أو أن جدة خارج محيط المواقيت وهذا لا قائل به، فلم يبق إلا أن تكون جدة محاذية للمواقيت على محيطها.
* إذا انتهى القلم في البحث إلى هذا الموضع فالقول بأن جدة ميقات قول ظاهر القوة إلا أن يثبت خلاف ما ذكرنا، فإذا تقرر ذلك فلا إشكال أن من قدم لجدة من غربها فهي له ميقات لأنها أول نقطة تحصل له بها المحاذاة للمواقيت أما القول بأنه يحرم في البحر مما يحاذي المواقيت فقول غير صحيح بناء على ما قررنا من معاني المحاذاة إذ لا ينطبق منها شيء على القادم من غرب جدة بحرا أو جوا ويلزم منها أن يحرم الإنسان قبل حصول المحاذاة.
قال الشيخ عدنان عرعور في كتابه أدلة إثبات أن جدة ميقات ص39: «وقد قمت بتوجيه هذا السؤال إلى سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز مفتى الديار السعودية –حفظه الله وحفظها من كل فتنة ومكروه- فأجاب: يحرم القادم من غرب جدة من جدة».
فعلى هذا إذا ثبت أن جدة ميقات لمن قدم من غربها فهي ميقات أيضا لمن مر عليها من غيرهم، ولكن يبقى هنا أن من أتى جدة من الشمال أوا لجنوب أو الشرق سيخترق المواقيت بلا إحرام، وهذا فرع عن المسألة المعروفة بين أهل فيمن مر بميقاتين هل له أن يؤخر الإحرام إلى الثاني، والمسألة مشهورة والخلاف فيها معروف، وقد أخرج الشافعي عن عائشة رضي الله عنها أنها أحرمت للعمرة من الجحفة قال الشافعي أنبأنا ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب: أن عائشة اعتمرت في سنة مرتين , مرة من ذي الحليفة ومرة من الجحفة.
وعلى كل حال إذا انتهى القول في المسألة إلى أن جدة ميقات فمسألة تجاوز الميقات إلى ميقات آخر والإحرام منه شأنها أيسر والخلاف فيها مقارب، وليس هذا محل بسطه.
والحاصل مما سبق أن القول بأن جدة ميقات قول من القوة بمكان ومن أفضل من تكلم فيه الشيخ/ عدنان عرور في كتابه «أدلة إثبات أن جدة ميقات»، وقد نسب هذا القول إلى ابن حجر الهيتمي من الشافعية، وإلى الدسوقي من المالكية، وابن قاسم الحنبلي، وجعفر اللبني الحنفي، وعبد الرحمن بن زياد مفتي اليمن، وأحمد بالحاج مفتي مكة، ومحمد الحبشي مفتي مكة، ومحمد صالح الرئيس مفتي مكة كل واحد منهم في زمانه، والعلامة المباركفوري، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس محاكم قطر، والشيخ مصطفى الزرقا، والعلامة ابن باديس الجزائري، ومفتي الجزائر الشيخ أحمد الحماني وغيرهم، وعامة ما ذكرته هو مما استفدته من كتابه هذا، وإن كان الشيخ يقول أن لهذا الكتاب اصلا مطولا، ولكن لم أعثر عليه ولا أدري هل طبع أم لا، فمن كان عنده رقم الشيخ للتواصل فليفدنا به وله الأجر والمثوبه، وقد أحببت أن أقرب المسألة لإخواني رجاء الأجر، ولعلمي بأن العثور على الكتاب صعب لعدم توفره في الأسواق، مع العلم أن في الكتاب خرائط واضحة توضح لمن تأملها قوة هذا القول، هذا وأرجوا من الأخوة إثراء الموضوع بما يستطيعون من نقولات او مناقشات للتتم الفائدة، وأن يستصحبوا عند قرائتهم للموضوع الوصول للحق دون النظر لما يقال عن ضعف هذا القول، فالحري بطالب الحق أن يتجرد عند النظر في المسائل العلمية، وأن يكون قصده ومراده مرضاة الله سبحانه وتعالى، وفقني الله وإياكم لذلك، والله أعلم.