رابعاً: مراتب الإيمان بالقَدَر:
للقدر أربع مراتب؛ دلّت عليها نصوص الكتاب والسُّنَّة، وهي: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخَلْق.
فَعِلْمُ الله سابقٌ محيطٌ بكل شيء، وقد كتب الأقدار، وشاءها -سبحانه وتعالى-، وخلقها.
وجُمِعَتْ في قوله:
عِلْمٌ كِتَابَةُ مَولانا مشيئتُهُ *** وخَلْقُهُ ذاكَ إيجادٌ وتكوينُ
وسأورد هذه المراتب الأربعة للقَدَر مفصَّلةً بإيجاز على النَّحو الآتي:
المرتبة الأولى: مرتبة العلم.
الإيمان بعلم الله الذي هو صفته الأزلية؛ فالله -سبحانه وتعالى- عالم بكل شيء، وهو بكل شيء محيط، فلا يعزب عنه مثقال ذرَّة في السماوات ولا في الأرض، فيعلم جميع خلقه قبل خلقهم، ويعلم ما ستكون عليه أحوالهم، كلها سرُّها وعلانيتها. والأدلَّة على ذلك متكاثرة من الكتاب والسُّنَّة؛ ومنها:
- قول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:١٢].
- وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [سبأ:٣].
- وقوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) [الحشر:٢٢].
- وقوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:٥٩].
- عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنه-، قال: قيل: يا رسول الله: أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْ أَهْلِ النَّارِ؟، قال: فقال: «نَعَمْ»، قال قيل: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قال: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»([1]). وفي هذا الحديث إخبارٌ من النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بأَنَّ الله قد عَلِمَ أهل الجنَّة من أهل النَّار؛ وهذا دليلٌ على علم الله المحيط بكلِّ شيء.
ونصوص الوحيين شاهدة على علم الله -سبحانه وتعالى- الشَّامل لكلِّ شيء.
المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة.
الإيمان بأَنَّ الله -سبحانه وتعالى- قد كتب مقادير الخلائق في اللَّوح المحفوظ، ولم يفرِّط في ذلك من شيء، وعلى هذا تظافرت أدلَّة الكتاب والسُّنَّة، ومنها:
- قول الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد:٢٢].
- وقوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحج:٧٠].
- وقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام:٣٨].
- ما أخرجه الإمام أحمد بسنده عن عبادة بن الوليد بن عبادة، قال: حدثني أبي قال: دخلت على عبادة، وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي. فقال: أجلسوني. فلما أجلسوه قال: يا بُني إِنَّك لن تطعم طعم الإيمان، ولن تبلغ حق حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقَدَر خيره وشرِّه، قال: قلت: يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القَدَر من شرِّه؟ قال: تعلم أَنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بُني إني سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، يا بُنَيَّ إن مِتَّ ولستَ على ذلك دخلت النار([2]).
- عن علي -رضي الله عنه- قال: كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في جنازة، فأخذ شيئاً فَجَعَلَ يَنْكُتُ به الأرض، فقال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ»، قالوا: يا رسول الله، أَفَلاَ نَتَّكِلُ على كتابنا، وَنَدَعُ العمل؟ قال: «اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ: فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ: فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ»، ثُمَّ قَرَأَ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل:٥-١٠]([3]).
وهذه الأدلة وغيرها فيها التَّصريح بأَنَّ الله -تبارك وتعالى- كتب كلَّ شيء قبل أن يخلق الخلق، ولم يفرِّط في الكتاب من شيء؛ وهذا مقام: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) [الرعد:٩].
المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة.
مرتبة الإيمان بمشيئة الله -تعالى- النَّافذة، وقدرته الشَّاملة؛ فما شاءه الله -تعالى- أن يكون فهو كائن بقدرته ولابُدَّ، وما لم يشأ الله كونه لم يكن؛ لعدم المشيئة لا لعدم قدرته -عزَّ وجلَّ-؛ لأَنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يعـجـزه شيء كما قال -سبحانه وتعالى-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) [فاطر:٤٤].
والأدلة على المشيئة الشَّاملة لله -عزَّ وجلَّ- كثيرة جداً، نورد منها:
- قول الله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:٢٩].
- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأنعام:٣٩].
- قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل:٩٣].
- قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس:٨٢].
- وفي الحديث عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، قال: سمعت النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»([4]).
ودلالة هذه الأدلة على عموم مشيئة الله تعالى ظاهرة؛ إذ كل ما يحصل في هذا الكون فهو مرادٌ له -سبحانه وتعالى- بالإرادة الكونيَّة؛ فهو الخالق وحده، المالك المدبِّر؛ فلا يجري في ملكه إِلَّا ما يريد، لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه، ولا يعجزه شيء.
المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق.
الإيمان بأَنَّ الله -سبحانه وتعالى- خالق كل شيء، فلا خالق غيره، ولا ربَّ سواه؛ والأدلَّة ظاهرة على هذا، ومنها:
- قول الله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة:٢].
- قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الزمر:٦٢].
- قوله تعالى: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان:٢].
- قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:٩٦].
- قوله تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة:١١٧]، (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام:١٠١].
- عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ»([5]).
وفي الأدلَّة السَّابقة النَّصُّ الصَّريح على أَنَّ -عزَّ وجلَّ- هو الذي قدَّر كل شيء وخلقه، وهو الذى أحاط الأشياء بعنايته ورعايته، وقدَّر أقدار الكائنات، وأوجدها لا على مثال سابق، ووهب بعض خلقه القدرة والفعل، والله -سبحانه وتعالى- هو الخالق للفاعل وفعله، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [الحجر:٨٦].
([1]) أخرجه مسلم (4/2041)، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، برقم: (2649).
([2]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (37/378)، برقم: (22705)، حديثٌ صحيح.
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه (6/171)، كتاب: تفسير القرآن، بَابُ: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) [الليل:7]، برقم: (4949).
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه (1/25)، كتاب: العلم، باب: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، برقم: (71).
([5]) أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/85)، برقم (86)، وقال:
«هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»، وقال الذهبي التَّلخيص:
«على شرط مسلم».