العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مباحث الأمر عند الأصوليين

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
مباحث الأمر عند الأصوليين

د. نعمان جغيم​



الأمر في اللغة

كلمة "أَمْر" تَرِدُ في اللغة بمعاني متعددة: منها الطلب، مثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: 52). هذا المعنى هو الذي له صِلَة بموضوع الأمر في علم أصول الفقه. ومنها الفعل، مثل قوله تعالى: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (هود: 73). ومنها الشأن، مثل قوله تعالى: (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (هود: 97). ومنها القضاء، وغير ذلك من المعاني.[1]

اختلف الأصوليون هل كلمة "أَمْر" حقيقة في جميع تلك المعاني أم أنها حقيقة في الخطاب مَجَازٌ في المعاني الأخرى؟ ولم يذكر القائلون بالمجاز دليلا قويا على ذلك. وعلى كل حال، المسألة ليست مُهمة بالنسبة لنا، لأنَّ بحثنا في علم أصول الفقه، وهو يتعامل مع الخطاب الشرعي المتعلق بالتكاليف الشرعية ولا يخوض في المعاني الأخرى، فلا داعي للخوض فيها. والجزئية التي لها صِلَة بموضوعنا هي: هل الأمر الشرعي مختصٌّ بالقول (الخطاب الشرعي) أم يشمل الفعل أيضا؟[2]

اتفق الأصوليون على وقوع لفظ "أَمْر" على القول المخصوص الذي يُراد به طلب الفعل، واختلفوا في استعماله في الفعل: هل هو على سبيل الحقيقة أم على سبيل المجاز؟ نَسَبَ أبو الحسين البصري إلى أكثرهم أنه يَقَعُ على الفعل على سبيل المجاز، ونَسَبَ إلى بعض الشافعية أنه يَقَعُ على الفعل على سبيل الحقيقة،[3] واختاره الباجي من المالكية ونَسَبَه إلى أكثر أصحاب الشافعي.[4] وقد حاول القائلون بأنه يقع على الأفعال على سبيل الحقيقة ترتيب أَثَرٍ على ذلك الخلاف بأن قالوا: إن ذلك يترتب عليه حملُ أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم على الوجوب لقوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63)، فيشمل هذا أوامره اللفظية وأفعاله.[5] والاستدلال بهذه الآية فيه نظر؛ لأنه قد يكون المراد بالأمر الخطاب الصادر عن الرسول صلى الله عليه وسلم علة جهة الأمر. وحتى إذا كان الأمر -في الآية- يشمل الفعل مع القول، فإنه لا يُتَصَوَّرُ صدور فعلٍ مجرَّد من الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يَصْحَبَهُ من القرائن المقالية أو الحالية ما يُبيِّن المراد به، وتكون تلك القرائن هي الـمُحَدِّد لمدلول الفعل والحكم المترتِّب عليه، وليس مجرد الفعل.



الأمر في اصطلاح الأصوليين


جوهر الأمر -في الأحكام الشرعية- هو صدورُ خطابٍ من الشارع يُفْهَمُ منه إلزام المخاطَب -بالفتح- بفعل شيء.

اختلف الأصوليون: هل الأَمْر هو المعنى القائم بالنفس وصيغةُ الأَمْرِ هي تعبيرٌ عن ذلك المعنى، أم أن الأمْرَ هو الصيغة نفسها؟[6] وهي مسألة من علم الكلام ليس لها أَثَرٌ في بَحْثِ موضوع الأمْر في علم أصول الفقه؛ لأننا في حديثنا عن الأحكام الشرعية وكيفية استنباطها إنما نتحدث عن الخطاب الشرعي الذي وردت فيه صيغة الأمر، ومن المسلَّم به أن الخطاب الشرعي صَدَرَ عن وجود مَعْنًى قائمٍ بنفس الآمر وقَصْدٍ إلى توجيه الأمْر إلى المكلَّفين. ولما كانت الواسطة بيننا وبين الشارع الحكيم هي خطابُه الذي تلقيناه منه، فإن تعاملنا مقصورٌ على ما نفهمه من ذلك الخطاب.

كما اختلفوا في التعريف الاصطلاحي على مذهبين رأيسين: أحدهما: يميل أصحابه في تعريف الأمْر إلى المعنى اللغوي العام، وهو توجيه الخطاب بصيغة "افعل" دون اشتراط أن يكون ذلك مُشْعِرا بالإلزام. وبناء على ذلك لا يشترطون صفة العلو أو الاستعلاء. ويستدلون على ذلك بأن الأمر قد يَصْدُرُ على وَجْهِ المشورة والنُّصْح، مثل قول فرعون لقومه: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) (الشعراء: 35)، وقولنا: فلان أَمَرَ فلانا، على وَجْهِ الرِّفْق واللين.[7]

الفريق الثاني: وهو عامَّة الأصوليين، يُرَكِّزون في التعريف على المعنى الشرعي للأمر، وهو الطلب الـمُشْعِر بإلزام المأمور بفعل المأمور به. ومن هؤلاء من عبَّر عن ذلك الإشعار بتضمين التعريف صِفَةَ العلو أو الاستعلاء أو كلاهما. والمراد بالعلو أن تكون رُتْبَة الآمر أعلى من رُتْبَة المأمور، أما الاستعلاء فقد فسَّره ابن النجار الحنبلي بالطلب بغِلْظَة،[8] أي أن يكون الآمر صاحب سلطة وتصحب الطلب قرينة تدلُّ على قَصْد الإلزام. ومنهم مَنْ لم يذكر صفتي العلو والاستعلاء، ولكن ضَمَّنَ تعريفَهُ قرينةً تفيد قَصْدَ الإلزام.

من الذين قيَّدوا التعريف بصِفَة العلو أو الاستعلاء الشيرازي الذي عرَّف الأمر بأنه: "استدعاءُ الفعلِ بالقول مِمَّنْ هو دونه"،[9] أي أن يستدعي مَنْ هو أعلى بالقول مِمَّنْ هو أدنى منه فعلاً من الأفعال. واشتراط علو الآمر قرينة تضاف إلى مجرد الصيغة للدلالة على الوجوب. ومنهم الآمدي الذي عرَّفه بأنه: "طلب الفعل على جهة الاستعلاء."[10]

ومن الذين لم يذكروا صفة العلو أو الاستعلاء، ولكن ذكروا قرينة تفيد الإلزام الجصاص الحنفي (ت370هـ) الذي عرَّف الأمر بأنه: "قول القائل لمن دونه افعل إذا أراد به الإيجاب."[11] نلاحظ من التعريف أن الأمْرَ لا يقتصر على صيغة "افعل"، بل لا بد أن يكون صادرا ممن له سلطة -مادية أو معنوية- على غيره، وأن يُريد بذلك الخطاب الإيجاب. وهذه قرائن تُضاف إلى الصيغة المجردة لبيان أن المقصود بها الإلزام.

ومنهم الجويني (ت478هـ) الذي عرَّفه بأنه: "القول المقتضي بنفسه طاعة المأمور بفعل المأمور به."[12] يلاحظ من التعريف أنه لا بد أن ينضاف إلى صيغة الأمر قرينة تدلُّ على إرادة الإلزام، ولذلك قال الجويني في شرح تعريفه: "وذِكْرُنَا الطاعةَ يُميِّزُ الأمرَ عن الدعاء والرغبة من غير جزمٍ في طلب الطاعة."[13] وقال في معرض مناقشة المعتزلة: "الـمَسْلَك الحقُّ عندنا في ذلك أنه لا بد من قصدٍ إلى إيقاع اللفظ مُشعرًا بالأمر القائم بالنفس، ولكن ليس لذلك اللفظ منه صفة، وإنما يحصل الإشعار بقرائن الأحوال."[14] وقد تبنَّى تلميذُه الغزالي هذا التعريف، حيث عرَّفه بأنه: "القول المقتضي طاعةَ المأمور بفعل المأمور به."[15]

يتلخص من تعريفات عامة الأصوليين أن الطلب المجرَّد لا يقتضي بذاته وجوب المطلوب، ولكن لا بد أن ينضاف إلى الصيغة قرينة تفيد الوجوب، سواء كانت هذه القرينة هي الاستعلاء، أو العلو، أو غيرهما من القرائن.[16]

الملاحَظُ في مبحث الأمر عند الأصوليين الخلطُ بين الأمر الشرعي، وهو أن يطلب الشارع من المكلَّف طلبا جازما يقتضي الطاعة بفعل المأمور به، وبين الأمر بمعناه اللغوي العام، وهو ورود الخطاب بصيغة الأمر "افعل". فهم عند تعريفهم للأمر يقصدون الأمر الشرعي، أي الخطاب الشرعي الذي يقتضي الإيجاب، ولكنهم عندما يتحدثون عن بعض مسائل الأمر، مثل مسألة صيغة الأمر، وما يفيده الأمر المجرَّد، والأمر بعد الحظر، إنما يتحدثون في الحقيقة عن الأمر اللغوي (الخطاب الوارد بصيغة "افعل") لا عن الأمر الشرعي، ولكنهم يناقشون تلك المسائل من منطلق الأمر الشرعي وما يقتضيه من لوازم، وهو الأمر الذي يؤدي إلى اضطراب في بحثها،[17] ويجعل أدلتهم مدخولة، وسيتضح ذلك عند مناقشة أدلة القائلين بأن الأمر المطلق للإيجاب.

............... اقرأ المزيد في الملف المرفق



[1] انظر بحثا مفصلا في معاني الأمر في القرآن الكريم في: جميلة زيان، مفهوم الأمر في القرآن الكريم: دراسة مصطلحية وتفسير موضوعي، بيروت: دار ابن حزم، 1431هـ/ 2010م.
[2] السرخسي، أصول السرخسي، ج1، ص11-13.
[3] أبو الحسين البصري، المعتمد، ج1، ص45.
[4] الباجي، إحكام الفصول، ج1، ص232.
[5] أبو الحسين البصري، المعتمد، ج1، ص45-47.
[6] الجويني، البرهان، ج1، ص61-62؛ ابن النجار، شرح الكوكب المنير، ج3، ص13-14.
[7] الرازي، المحصول، ج2، ص31-32.
[8] ابن النجار، شرح الكوكب المنير، ج3، ص16.
[9] الشيرازي، التبصرة في أصول الفقه، ص17.
[10] الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج2، 172.
[11] الجصاص، أصول الجصاص، ج1، ص280.
[12] الجويني، البرهان، ج1، ص63.
[13] الجويني، البرهان، ج1، ص63.
[14] الجويني، البرهان، ج1، ص66.
[15] الغزالي، المستصفى، ج1، ص253.
[16] حتى الذين يقولون إن للأمر صيغةً تدلُّ على كونه أمرا بمجرَّدِها يضطرون إلى إثبات القرائن مع الصيغة من حيث لا يشعرون. انظر -مثلا- قول أبي يعلى الفراء الحنبلي: "للأمر صيغة مُبَيِّنَةٌ لَهُ في اللغة تدلُّ بمجرَّدِها على كونه أمرا إذا تَعَرَّتْ عن القرائن، وهي قول القائل لمن دونه: افعل كذا وكذا" (العدة في أصول الفقه، ص214) فهو يقول إنها "تدل بمجرَّدها على كونه أمرا إذا تعرَّت عن القرائن" ثم يناقض نفسه فيقول: "وهي قول القائل لمن دونه" وعبارة "لمن دونه" هي قرينة الرُّتْبَة، وهي من أقوى القرائن. ولو كانت صيغة افعل تدلُّ بمجرَّدِها على الأمر لأفادت ذلك سواء صدرت ممن هو أدنى لمن هو أعلى أم صدرت ممن هو أعلى لمن هو أدنى.
[17] من أمثلة ذلك الاضطراب ما نجده عند الغزالي في تعريف الأمر، فهو عرَّفه بأنه: "القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به"، حيث أكَّدَ على اشتراط الطاعة في الأمر. ولكنه بعد ذلك مباشرة اعترض على الذين ذكروا في تعريفهم احترازات لمنع دخول الطلب الذي يكون على وجه المسألة والرجاء وغيرها، حيث يقول: "ولا حاجة إلى هذا الاحتراز، بل يُتَصَوَّر من العبد والولد أَمْرُ السيد والوالد، وإن لم تجب عليهما الطاعة، فليس من ضرورة كُلِّ أَمْرٍ أن يكون واجب الطاعة، بل الطاعة لا تجب إلا لله تعالى. والعرب قد تقول فلانٌ أَمَرَ أباه، والعبد أَمَرَ سيده." انظر كيف بدأ بتعريف الأمر بالمعنى الشرعي الذي يقتضي الطاعة، ثم بعد ذلك مباشرة خلطه بالأمر "اللغوي" الوارد بصيغة "افعل" دون أن يكون القصد منه الإلزام. (المستصفى، ج1، ص253).
 

المرفقات

  • مباحث الأمر عند الأصوليين.pdf
    393.6 KB · المشاهدات: 16

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,136
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
أحسن الله إليكم د. نعمان جغيم على هذه الموضوع القيم ...
جزاكم الله خيراً، وأمد لكم في الصحة والعافية ...
ومتعنا الله بحياتكم ...
 
أعلى