المقدِّمة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله الذي شرع لأُمَّة الإسلام القضاء، وأسَّس لها التَّحاكم إليه في الشِّدَّة والرَّخاء؛ ليعُمَّ بين النَّاس العدلَ ويسودَ الإخاء، وصلَّى الله وسلَّم على رسوله الذي باشر الحُكْمَ بالسَوِيَّة، وأقام العدل والميزان بالحقِّ بين الرَّعيَّة، وبيَّن لأُمَّته أصول القضاء الذي يمنع التَّظالم، ويتحقَّق بإنفاذه قطع التَّخاصم، أَمَّا بعد:
فإِنَّ القضاء في الإسلام له منزلةٌ عظيمةٌ، ومكانةٌ رفيعةٌ، يتحقَّق به الوازع السُّلطانيُّ؛ الذي يكمِّل الوازع الدِّينيَّ بين أفراد المجتمع المسلم؛ وبه تُحمى الدِّماء، وتُحفظ الأموال، وتُصان الأعراض؛ لذا كان الاهتمام به منذ عهد النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان يقوم به جنبًا إلى جنبٍ مع وظيفته النَّبويَّة في تبليغ الرِّسالة، ويربِّي عليه أصحابه، من خلال وصفهم بتلك الملَكَة؛ كقوله في حقِّ عليٍّ -رضي الله عنه-: «أَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ»([1])، أو طمأنتهم بدوران ما يقومون به بين الأجر والأجرين؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» ([2])، أو يطمئنُّ على ملَكَاتِهم في هذا الباب؛ كسؤاله معاذ بن جبل -رضي الله عنه- حينما بعثه إلى اليمن فقال: «كَيْفَ تَقْضِي؟»، فَقَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟»، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-»؟، قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، قَالَ: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ» ([3]).
وكان من أثر ذلك الاهتمام أن أصبح القضاء جزءاً مهمًّا في بناء الدَّولة الإسلاميَّة، ويختصُّ بوظائف لا يقوم بها غيره، وهي التَّسلُّط على الدِّماء، والأموال، والأعراض، والحكم فيها بالعصمة أو الإباحة.
وعند إمعان النَّظر في كتب الفقه الإسلاميِّ، والأحكام السُّلطانيَّة، والسِّياسة الشَّرعيَّة، من خلال الدِّراسة والتَّدريس، والبحث والتَّأليف، نمى إلى ذهني أَنَّ القضاء تتلخَّصُ وظائفه في: «منع التَّظالم، وقطع التَّخاصم»، ومع إشارة العلماء إلى هاتين الوظيفتين في عباراتهم المتفرِّقة إِلَّا أَنَّني لم أجد من جمعها في موضعٍ واحدٍ، أو ألَّف بينها في نسيجٍ متَّحدٍ؛ وهذا ما حدا بي إلى دراسة هاتين الوظيفتين؛ للتَّعرُّف على حقيقتهما، وحالاتهما، ثُمَّ النَّظر في الصُّور التَّطبيقيَّة لهما، في عصر النُّبوَّة، وعهد الخلافة الرَّاشدة، وما تَلَى ذلك من العصور، وخاصَّةً القرون المفضَّلة الأولى.
ولا يخفى أَنَّ جمع هاتين الوظيفتين في موضعٍ واحدٍ، يمثِّل منهاجًا ودستورًا للقضاة؛ يؤدُّون به وظائفهم من خلالها، وقد وَعَوْا: «أَنَّ القَضاءَ يدورُ بين منع التَّظالم، وقطع التَّخاصم»؛ وهي قاعدةٌ جليلةٌ، لم أَرَ أحداً قد سَبَكَهَا على هذا النَّحو، أو نَظَمَهَا بهذا اللَّفظ، ولم أقف على من أشار إليها مجموعة على هذا النَّحو؛ ولذا فهي تصلح لأَنْ تؤسِّس لقاعدةٍ مهمَّةٍ في باب القضاء؛ تُبنى عليها التَّصوُّرات، وتندرج تحتها قواعد الفصل في المخاصمات، وقطع المنازعات.
وقد سمَّيت بحثي هذا: «القضاء بين منع التَّظالم وقطع التَّخاصم، دراسة استقرائيَّة تأصيليَّة تطبيقيَّة»، سائلاً الله -جلَّ وعلا- التَّوفيق لما يحبُّ ويرضى، والقبول في الأولى والأخرى.
([1]) أخرجه ابن ماجه في سننه (1/55)، في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصَّحابة والعلم، فضائل زيد بن ثابت، برقم: (154)، وصحَّحه الألبانيُّ في سلسلة الأحاديث الصَّحيحة (3/421).
([2]) أخرجه البخاري في صحيحه (9/108)، في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم: (7352)، ومسلم في صحيحه (3/1342)، في كتاب: الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب، أو أخطأ، برقم: (1716).
([3]) أخرجه الترمذي في جامعه (3/608)، في أبواب الأحكام، في باب ما جاء في القاضي كيف يقضي، برقم: (1327)، وإسناده ضعيف، يُنظر: نصب الراية (4/63)، خلاصة البدر المنير (2/424).