الخاتمة:
وتشمل: أهمَّ النَّتائج، وأهمَّ التَّوصيات:
بعد هذا التَّطواف في مناهج العلماء الأقدمين، ومناهل المتأخِّرين والمعاصرين، والعيش مع ما سطَّروه وقرَّروه، وما ضبطوه وما حرَّروه، واستخلاص عصارة ما ذكروه عن «فِقْه النَّفْس» والمصطلحات المشابهة له، يحسُن أن أُسطِّر أهمَّ النَّتائج التي توصَّلت إليها من خلال هذه الدِّراسة، وأهمَّ التَّوصيات التي أتمنَّى القيام بها، أو تحقيقها على يد غيرى.
أولًا: أهم النَّتائج:
1. أوضحت الدِّراسة أَنَّ معنى الفقه المتعلِّق بمصطلح «فِقْه النَّفْس» إِنَّما هو فَقُه -بضمِّ القاف-، أَيْ: صار الفِقْه له سجيَّةً وَمَلَكَةً؛ ومنه يأتي اسم الفاعل: «فَقِيْه»، وليس من: فَقَه، أَيْ: سبق غيره إلى الفهم، ولا من: فَقِه، بمعنى: فَهِم.
2. كَشَفَت الدِّراسة أَنَّ الأصوليِّين قد تكلَّموا عن معنى الفقه في اللُّغة كلامًا بديعًا لا يوجد في كتب اللُّغة؛ حيث ذكروا أَنَّ الفقه في اللُّغة على ثلاثة مذاهب: الفهم مطلقًا، أو فهم غرض المتكلِّم من كلامه، أو فهم المعاني الخفيَّة الغامضة.
3. أبرزت الدِّراسة أَنَّ الرَّاجح في معنى الفقه لغةً: أَنَّه الفهم مطلقًا؛ سواءٌ كان فهمًا لغرض المتكلِّم أم لا، وسواءٌ كان المفهوم دقيقًا أم جليًّا؛ وذلك لما فيه من العموم، الذي تؤيِّده قواعد الأصول، وتعضِّده إطلاقات اللُّغة.
4. كشفت الدِّراسة أَنَّ العرب في الجاهليَّة قبل الإسلام كانوا يطلقون على الشُّعراء: فقهاء!، وكانوا يراعون في ذلك دلالة المعنى اللُّغويِّ؛ ولم يكونوا يطلقون هذه الصِّفة إِلَّا على من كان شعره وَهْبِيًّا طَبْعِيًّا، لا على من قَصُرَتْ به الصَّنْعَة.
5. أثبتت الدِّراسة أَنَّ المتقدِّمين من أهل العلم، والصَّدْر الأَوَّل من السَّلف الصَّالح كانوا يُطلقون «الفِقْه» على ما يشمل الشَّريعة كلَّها، وذلك بتعريفه: «معرفة النَّفس ما لها وما عليها»، أَمَّا المتأخِّرون فقد قصروه على الأحكام الفُروعيَّة، حتَّى أصبح عَلَمًا عليها، لا يدخُل فيه سواها.
6. أظهرت الدِّراسة أَنَّ مصطلح النَّفْس يأتي بمعنى الرُّوح، ولمَّا كانت الرُّوح من علم الله تعالى كانت النَّفْس مثلَها؛ وعليه: فإِنَّ محاولة الخوض في ماهيَّتها لا طائل من ورائه، ولا أَمَل في معرفة كُنْهِهِ؛ لأَنَّ ذلك ممَّا اختصَّ الله بعلمه.
7. بيَّنت الدِّراسة أَنَّه جرت عادة علماء الأصول على التَّعبير عن المجتهد بالفقيه، وجَعْلِهما كلمتين مترادفتين اصطلاحًا، وهو إطلاقٌ صحيحٌ؛ لأَنَّ الفقيه لا يصير كذلك إِلَّا إذا بلغ رتبة الاجتهاد؛ وصار الفقه له سجيَّةً ومَلَكَة.
8. خَلُصَت الدِّراسة إلى أَنَّ ثمَّة فرقًا بين «فِقْه النَّفْس» و«فِقْه الدَّرْس» (فِقْه النَّقْل)؛ إِذْ إِنَّ «فِقْه الدَّرْس»: قد يحصل بحفظ الكتب (بالاكتساب)، أَمَّا «فِقْه النَّفْس»: فالغالب فيه أَنَّه غريزةٌ فطريَّةٌ، وذكاءٌ وقَّادٌ، وفِطْنَةٌ حاضرةٌ، يهبها الله لمن يشاء من عباده، ولا تحصل بالاكتساب، إِلَّا إذا وصل مُحصِّل العلم إلى المَلَكَة التي هي هيئةٌ راسخةٌ في النَّفْس تؤهِّله تلك المَلَكَة باللُّحوق بمرتبة «فِقْه النَّفْس»؛ لأَنَّها حصيلةُ ذكاءٍ كمَّله اجتهادٌ؛ ارتقى بصاحبه من مجرَّد الحفظ إلى اكتساب المَلَكَة؛ فكأَنَّ صاحب «فِقْه النَّفْس» إِمَّا أن يكون عنده من القدر الوهبيِّ ما لا يحتاج معه إلى تحصيل وتتميم، وإِمَّا أن يكون معه الاستعداد الفطريِّ الذي يُكسبه كثرة مزاولة العلوم والقواعد مَلَكَةً تلتحق به إلى مرتبة «فِقْه النَّفْس».
9. توصَّلت الدِّراسة إلى أَنَّ التَّعريف المختار لمصطلح «فِقْه النَّفْس»، هو: «قوَّةُ الفَهْمِ بالفِطْرةِ لمقاصدِ الكلامِ، والتَّدرُّبُ على مآخذِ الظُّنونِ في مجالِ الأحكامِ».
10. كشفت الدِّراسة أَنَّ الغالب على «فِقْه النَّفْس»: قوَّةٌ غريزيَّةٌ فطريَّةٌ، وهو الأعمُّ الأغلب في الصِّفة لا في عدد الموصوفين، وهو الذي اهتمَّ به هذا البحث.
11. أظهرت الدِّراسة أَنَّ مجالات قوَّة الفهم: لا تدلُّ بالضَّرورة على «فِقْه النَّفْس»، أو على «المَلَكة»، وإنَّما يقتصر «فِقْه النَّفْس» على القوَّة الغريزيَّة الفطريَّة، بينما تشتمل «المَلَكَة الفقهيَّة» على نوعيها: الأَوَّل: الاستعداد الفطريُّ الذي يكمِّله الاكتساب؛ ليلتحق بمرتبة «فِقْه النَّفْس». والنَّوع الثَّاني: المَلَكَة الحاصلة بالاكتساب والكدِّ والتَّعب، وكثرة مزاولة المسائل، وهذا لا يدخل في «فِقْه النَّفْس».
12. أبانت الدِّراسة عن أَنَّ «فِقْه النَّفْس» أشبه بالشِّعر، فكما أَنَّ الشِّعر منه ما هو فطريٌّ، ومنه ما هو بالتَّعلُّم والكسب -وفيه تفاوتٌ يمتدُّ ليشمل من يقولونه بديهةً ورويَّةً-، فكذلك شأن «فِقْه النَّفْس» منه ما هو وهبيٌّ، وهو الغالب، ومنه ما هو كسبيٌّ من خلال المَلَكَة التي تحصل بالاستعداد الفطريِّ، للانتقال من حفظ الكتب واستيعاب مسائلها إلى المَلَكَة الممكِّنة من توليد الأفكار، وابتكار المعاني، وإذا صحَّ للشُّعراء أن يقولوا عن شعر الشَّاعر بالموهبة: شعرٌ مطبوعٌ، وعن شعر الشَّاعر بالتَّعلُّم: شعرٌ مصنوع؛ فكذلك الشَّأن في «فِقْه النَّفْس»؛ إِذْ يمكن أن يقال: فِقْه النَّفْس المطبوع: وهو ما كان بدافع الفطرة، وفِقْه النَّفْس المصنوع: وهو ما تحصَّل باكتساب المَلَكَة.
13. ميَّزت الدِّراسة بين المصطلحات المشابهة لمصطلح فِقْه النَّفْس؛ إذ إِنَّ منها ما يدخل فيه، ومنها ما ليس منه، فالمصطلحات المشابهة في اللَّفظ لمصطلح «فِقْه النَّفْس» المختلفة عنه في المعنى، تشمل مصطلح: «سياسة النَّفْس»، و«رياضة النَّفْس». والمصطلحات القريبة من «فِقْه النَّفْس» أو الدَّاخلة فيه، تشمل مصطلح: «فِقْه الطَّبْع»، و«فِقْه البَدَن»، و«فِقْه الصَّدْر»، و«فِقْه السَّطْر»، و«فِقْه الفِقْه»، و«المَلَكَة الفِقْهِيَّة».
14. أبانت الدِّراسة الفرق بين مصطلحي: «سياسة النَّفْس»، و «رياضة النَّفْس» ومصطلح «فِقْه النَّفْس»، بأَنَّ مصطلح «فِقْه النَّفْس» يتعلَّق بالأحكام الفروعيَّة، وأَنَّ مصطلحي: «سياسة النَّفْس» و«رياضة النَّفْس» يتعلَّقان بتزكية النَّفْس، وتهذيب الرُّوح، بالإضافة إلى أَنَّ مصطلح «فِقْه النَّفْس» يرتبط بالفقه وأصوله، أَمَّا مصطلحا: «سياسة النَّفْس»، و «رياضة النَّفْس» فمن المصطلحات التي شاع استعمالها عند أهل التَّصوُّف، سواءٌ كانت باعتدال يمكن أن يشاركهم فيهما غيرهم، أم بغلوٍّ سبَّب نفرةً عنهما.
15. جلَّت الدِّراسة أَنَّ مصطلح «فِقْه الطَّبْع» مرحلةٌ من مراحل «فِقْه النَّفْس» حين يبلغ الفقيه فيها غايته، ويخرج من مرحلة التَّكلُّف إلى مرتبة التَّطبُّع، حتَّى يصير الفقه له سجيَّةً راسخةً، ومَلَكَةً حاضرةً، وذلك إِنَّما يحصل بكثرة المزاولة للعلوم. واستعمال هذا المصطلح نادرٌ جدًّا، وقد يُعبَّر عن صاحبه بـ «فقِيْه الطَّبْع»؛ مرادفًا بذلك لـ «فَقِيْه النَّفْس».
16. أبرزت الدِّراسة أَنَّه شاع عند المحدِّثين مصطلح «فِقْه البَدَن»، حيث وصفوا به من جمع بين الفقه والحديث، وهو مرادفٌ لمصطلح «فَقِيْه النَّفْس» عند الأصوليِّين. ويرجِّح المحدِّثون رواية من وصف بـ «فَقِيْه البَدَن» على رواية غيره، وقد ذُكر هذا الوصف في تراجم بعض أهل العلم؛ من التَّابعين وتابعيهم، ومن فقهاء أهل الصَّدر الأَوَّل من القرون المفضَّلة.
17. أظهرت الدِّراسة أَنَّ مصطلح «فِقْه البَدَن» قد انحسر استعماله عند المحدِّثين بعد اكتمال كتب الجرح والتَّعديل، واستقرار الرِّواية، ولم يَعُد هذا الإطلاق مستعملاً في قاموس أهل العلم عند وصفهم لغيرهم من العلماء إِلَّا ما ندر.
18. أكَّدت الدِّراسة أَنَّ المحدِّثين يَعْنون بمصطلح: «فَقِيْه البَدَن»: ما استقرَّ لديهم من أَنَّه حامل الفِقْه بطبعه؛ لتكون فتواه بحضور البَدِيْهة، لا يتكلَّف النَّظر إلى الكتب؛ فهو فَقِيْهُ صَدْرٍ لا فَقِيْهُ سَطْر، وَفِقْهه فِقْهٌ مطبوعٌ غير مصنوع؛ يتناوله بمحض السَّجيَّة، ولا يحتاج معه إلى الكُلْفة والرَّويَّة، بخلاف من شأنه الارتياض وتحصيل المَلَكَة.
19. أبرزت الدِّراسة أَنَّ وصْف بعض العلماء بفِقْه البَدَن -وإن كان هو الغالب في اصطلاح المحدِّثين، إِلَّا أَنَّه- قد تناوله جملة من الفقهاء والمؤرِّخين، بل جرى على ألسنة بعض الأدباء.
20. أوضحت الدِّراسة أَنَّ مصطلح «فِقْه الصَّدْر» صفةٌ عزيزةٌ، وُصِفَ بها القليل من أهل العلم من المتقدِّمين الذين كانوا في الرُّتبة العالية من الحفظ، ودقَّة الفهم، وسعة العلم، مع قوَّة الإدراك، وجودة الذِّهن، وسرعة البداهة، وغلبة الفِطْنة، ويقابله «فِقْه السَّطْر»: الذي يوصف به من له فهمٌ لما يحفظ وما يقرأ في الكتب، إِلَّا أَنَّ محفوظاته ليست كثيرة، ومعظم فهمه يكون في المنظور لا في المحفوظ.
21. أوضحت الدِّراسة أَنَّ مصطلح «فِقْه الفِقْه» لم يكثر دورانه على ألسنة العلماء، بدليل أَنَّني لم أقف -بعد البحث والتَّحرِّي- إِلَّا على نصٍّ واحدٍ للإمام الزَّركشي (ت:794هـ) -رحمه الله- من العلماء المتقدِّمين، ومن العلماء المعاصرين الشَّيخ محمَّد المختار بن محمَّد الشَّنقيطي، والشَّيخ يوسف بن محمَّد الغفيص، وما جرى على لساني في مقالٍ عن «فِقْه الفِقْه» عام (1432هـ) إِنَّما كان على سبيل التَّفقُّه، ولم أره نقلاً مسطورًا.
22. تبيَّن من الدِّراسة أَنَّ لمصطلح «المَلَكَة» حضورٌ عمليٌّ في مناهج علماء الإسلام المتقدِّمين، فقد كانت مناهجهم، وطرائق تصنيفهم، وأساليب تدريسهم تقوم على تكوينها، وتؤسَّس على تحصيلها في نفوس المتفقِّهة والمتعلِّمين، وفي العصر الحاضر نالت حضورًا نظريًّا في دراسات الباحثين، لكنها افتقرت إلى الأساليب اللاَّزمة، والوسائل المعينة بتحصيلها في النُّفوس، الممكِّنة لها في الأذهان، والمرسِّخة لحقيقتها في الوجدان.
23. كشفت الدِّراسة أَنَّ مصطلح: «المَلَكَة الفِقْهِيَّة» لم يكن له وجودٌ في كتب المتقدِّمين، ولم يذكروا «المَلَكَة الفِقْهِيَّة» مركَّبًا وصفيًا، وإِنَّما اكتفوا بذكر «المَلَكَة»، وجعلوها أحد إطلاقات العلوم، وأطلقوها على كثرة مزاولة القواعد واستحضارها، وورد استعمالها عند الكلام عن الاجتهاد.
24. توصَّلت الدِّراسة إلى أَنَّ التَّعريف المختار لمصطلح «المَلَكَة الفِقْهِيَّة» هو: «هيئةٌ راسخةٌ في النَّفْس، حاصلةٌ باستجماع المآخذ والأسباب والشُّروط، يقتدر بها المجتهد على معرفة الأحكام الشَّرعيَّة، للمسائل الحادثة، والنَّوازل الواقعة، عند الحاجة إلى ذلك، بأدنى تأمُّلٍ أو نظر».
25. أثبتت الدِّراسة أَنَّ العلاقة بين «فِقْه النَّفْس» و «المَلَكَة الفِقْهِيَّة» عند عامَّة أهل العلم المتقدِّمين هي المباينة؛ حيث فرَّقوا بين «فِقْه النَّفْس» و «المَلَكَة الفِقْهِيَّة»، وعند بعضهم العموم والخصوص الوجهي؛ حيث نصُّوا على أَنَّ «فِقْه النَّفْس» فطريٌّ غريزيٌّ حاصلٌ بالطَّبع، وأَنَّ «المَلَكَة الفِقْهِيَّة» منها ما هو استعدادٌ فطريٌّ ينمو بالاكتساب، ويجعلونه ملتحقًا بـ «فِقْه النَّفْس»، ومنها ما هو اكتسابٌ محضٌ، ولا دخل له بـ «فِقْه النَّفْس»، وأَمَّا صنيع من اطَّلعت على بحوثهم من المعاصرين فالعلاقة عندهم المساواة؛ حيث يذكرونهما في سياقٍ واحدٍ دون التَّفريق بينهما.