العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

لماذا لا نرى الله؟!

إنضم
5 مارس 2023
المشاركات
58
الإقامة
قطر الدوحة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عمار الرشيدي
التخصص
فقه وأصول
الدولة
قطر
المدينة
الدوحة
المذهب الفقهي
الحنبلي
• لماذا لا نرى الله تعالى؟
سؤال ربما سأله كل منا لنفسه وربما عجز عن الاجابة وربما فضل الصمت وربما أدرك الحكمة، ويحق للإنسان أن يبحث عن سبب الغيب والحكمة منه؛ فهذا مما يباح ويتاح ومناسب لفهمه وفكره ويتسع له ادراكه وعقله، لا أن يسأل عن سبب الغيب معترضا عليه ومؤخرا للإيمان حتى يظهر له، كقول بني اسرائيل لموسى عليه السلام (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) البقرة 55.
إذن يحق للمؤمن أن يسأل لماذا لا نرى الله باحثا عن السبب والحكمة، ولا يحق له أن يطلب رؤية الله شرطًا وحكمًا؛ فالله تعالى أعز وأجل من أن يشترط عليه الخلق؛ كيف وهو الخالق؟
وسؤال لماذا لا نرى الله وهو موجود او واجد الوجود؛ سأله رجل لعالم من علماء السلف تعددت الروايات باسمه فقيل الشافعي وقيل الغزالي وقيل آخرون؛ فأجابه العالم اجابة عملية فريدة من نوعها إذ قذفه بحجر في رأسه؛ فقال له: لقد آلمتني. فقال: وهل رأيت الألم؟! قال لا. قال فلماذا لا نرى الألم وهو موجود؟!!
على تصريف يسير مني في القصة مع اختصارها.
وهذا يذكرني بسؤال أحدهم لي: أيهما تراه أفضل الايمان ثم العقل أم العقل ثم الايمان؟ وفكرت مليا واجتهدت فوجدت ان المسألة نسبية من إنسان لآخر فهناك من يرفض الايمان بقلبه حتى يستجيب العقل لهذا الايمان اولا، ولكن هذا ينطوي على مخاطرة كبيرة فما هي؟ نحتاج الى تركيز شديد في السطور القادمة لأنها مسألة تتعلق بمصير العقول والقلوب في هذه الشأن وفي غيره.
العقل يمنطق الاشياء ويضعها في سياق المعقول، وكذلك يضعها في سياق اللامعقول، ويضعها في سياق البراهين المنظمة والمرتبة من مقدمات ونتائج، ولكن قد يكون البناء المنطقي سليما في تكوينه لكنه خاطئ في جوهره كيف ذلك؟!
أن تجعل المقدمات حقائق مفترضة وتأتي بنتيجة حقيقية بينما إحدى المقدمات أو المقدمتين معا تخالفان الحقيقة والصواب والسلامة المعرفية، وخذ مثالا توضيحيا على ذلك:
كل ما لا نراه لا نؤمن به مقدمة 1
لا نرى الهواء مقدمة 2
................
لا نؤمن بوجود الهواء نتيجة
فهذا بناء منطقي سليم التكوين لكنه خطأ في الجوهر والمضمون المعرفي من حيث أن المقدمة الأولى خطأ معرفي؛ لأننا في الواقع نؤمن بأشياء لا نراها ومنها الهواء الذي نتنفسه والعقل الذي نفكر به والضمير الذي نشعر بوخزه وإيلامه لنفوسنا عند الذنب أو التقصير، والبكتيريا والجراثيم والفيروسات التي لا نراها ونسلم بها. اذن المقدمة الاولى خالفت المعتقدات العملية لدى عامة الناس وليس خاصتهم؛ فكيف نأتي بها ونجعلها مقدمة منطقية ونصور للناس أنها حقيقة لنولد منها نتيجة منطقية ونصور للناس أنها الحق الطبيعي الصحيح والسليم؟!!
هنا تكمن المشكلة؛ أن العقلانيين يقدمون لك بناءات منطقية ظاهرها السلامة لكن باطنها فيه العطب والزور والتدليس والسفسطة والتلاعب بالعقول البسيطة التي تتلقى ذلك بارتياح عقلي؛ لأن النتيجة جاءت بولادة طبيعية غير قيصرية للمقدمات ولم تتدخل فيها المشارط الجراحية؛ هكذا يبدو للعامة والبسطاء، والسم كل السم من ذاك العسل.
ويدخل في هذا التلاعب المعرفي والمنطقي بالعقول والقلوب ما يسمى بالسؤال الحتمي الذي يستلزم جوابا حتميا بعينه بحيث يضيق عليك الخناق في الاختيارات فلا تجد امامك الا جوابا واحدا هو قد رتبه مسبقا وبنى عليه دواع معرفية جديدة، فيها مزيد من السفسطة والتدليس. انه سؤال يقيدك ويحيزك وهنا يكون المذنب مَن كوَّن سؤالا مستلزما لإجابة سقيمة معرفيا؛ لأن السؤال ساق الإجابة مسبقا.
ومثال ذلك: هذا السؤال: أتشهد على شيء لا تراه؟
فإن قلت لا قال لك: فكيف تشهد بوجود الله؟
وإن قلت نعم قال: شهادتك باطلة.
وهذا هو التلاعب الاستفهامي بالأسئلة ولا ينتبه له الكثير، ويجيده العقلانيون المتبعون للأهواء الذين ضلوا ويريدون إضلال الناس عن قصد وعمد. والحق أن السؤال هو الخطأ ولا ينبغي على من سئل مثل هذه الأسئلة المقيدة والمحيزة والمستفزة أن يجيب أصلا؛ بل الصواب أن يرفض الجواب ويقول بملء فمه: السؤال خطأ، وطالما أنه خطأ فسوف تتولد عنه إجابة خاطئة في الحالتين: حالة الجواب بالنفي أو حالة الجواب بالإثبات.
وهكذا يظهر لنا صور من التلاعب المنطقي والاستفهامي الاول يقوم على سلامة التكوين، وخطأ المضمون، والثاني يقوم على سلامة التكوين وخطأ الطرح من الأساس.
القارئ العزيز! أردنا أن نقول أن تقديم العقل على الايمان قد ينطوي على مخاطرة البناء المنطقي المفرز لنتائج معرفية خاطئة أو على أطروحات استفهامية تستلزم إجابات خاطئة، وفي الحالتين يحدث التلبيس والتعمية والوقوع في شرك الجهل والإنكار والكفر أو التكذيب أو حتى الإيمان أو التصديق بما هو غير حقيقي، فالضحية لكل ذلك هي الحقيقة والحق والخير والجمال والاطمئنان والاستقرار.
ويبقى السؤال: لماذا لا نرى الله تعالى؟
ما السر ما السبب الحكمة الغاية؟
ولله المثل الأعلى
أذكر أنني قرأت عن التعذيب بقوة الضوء في بعض السجون وذلك بتسليط أضواء قوية مفاجئة لا تتحملها حاسة الإبصار البشرية وهذا ضوء من صنع الانسان لا يتحمله الانسان، كذلك قوة الضوء في البرق لا يتحملها الانسان بقدراته البصرية المحدودة، وكذلك قوة الضوء من الشمس البعيدة عنا ملايين السنين الضوئية، والشمس والبرق مخلوقان من مخلوقات الله تعالى فكيف بنور السموات والأرض بالنور الأول الذي يضيء للعالمين يوم القيامة (وأشرقت الأرض بنور ربها) كيف للإنسان أن يطالع نور الله تعالى والتاريخ يشهد بأن موسى عليه السلام صعق لما تجلى ربه للجبل (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا) وكذلك صعقة بني إسرائيل (فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون)
وعليه فرؤية الله تعالى فوق إدراك الحواس البشرية (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) لكن هذا التعليل قد يجر البعض إلى تساؤل: أليس الله تعالى قادر أن يهبنا من القدرة البصرية ما يجعلنا نراه؟
وهذا السؤال ليس من الأسئلة المستفزة بقدر ما هو من الأسئلة الساذجة، لماذا؟
الإنسان يحيا في طمع مع كل شيء في الحياة؛ مع نفسه؛ مع حياته مع من حوله؛ بل مع الله تعالى، يستزيده دوما ولو ملك واديا او واديين من ذهب لطمع في الثالث والعاشر، وإذا كان الطمع صفة بدرجة السمة في الطبع البشري، وربما يكون الانسان هو الكائن الوحيد الذي يشبع ويقول هل من مزيد، بخلاف الكائنات الأخرى حتى المفترس؛ منها لا تهب للافتراس الا اذا أحست بالجوع، وإذا كان ذلك كذلك فربما طمع الانسان اذا تجلى العظيم له أن يُحدَّث الله ويكلمه ويتقرب منه مكانا وزمانا؛ بل ان هذا كان مطلوب قوم دون أن يروا الله عز وجل (وقالوا لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) وكان هذا قول أقوام آخرين من قبل (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم).
ولو افترضنا جدلا تجلي الله للعباد فإن ذلك يقودنا لقضية جديدة وهي قضية التكليف وحمل الأمانة والإرادة والايمان والكفر والطاعة والمعصية والجزاء والحساب، كيف تتوافق قضية الإرادة الحرة في الايمان والكفر والطاعة والمعصية مع رؤية الخالق العظيم؟! من يجرؤ على الكفر أو المعصية أو المخالفة؟! سيصبح الناس كلهم مؤمنين مخبتين مطيعين خائفين راهبين راغبين، وسيتبع ذلك فساد قضية الحساب من ثواب وعقاب، ويسقط التكليف وحمل امانة الاختيار، ومن ثم فلا جنة ولا نار.
فالله تعالى اختبر ايماننا وخوفنا وخشيتنا له بالغيب لا بالتجلي (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم) (من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب)
وهكذا بمقدور الانسان ان يعلم الحكمة من كون الله تعالى غيب عن إدراك الخليقة لأن هذا هو الاختبار الحقيقي والمقياس الأساس للإيمان؛ فمن يسلم بوجود الله مع غيبه عن إدراكه فهذا مؤمن صحيح، ومن يجعل الغيب سببا للإنكار فهذا كافر صريح؛ لأن الحجة قامت عليه بإيمانه بالغيب الأرضي الأدنى فكيف يكفر بالغيب الفوقي الأعلى؟! والمؤمن له الثواب والجنة والنعيم، والكافر له العقاب والنار والجحيم، وليس بمقدوره أن يقيم الحجة على الله يوم القيامة بقضية الغيب؛ بل يقيم الله تعالى الحجة عليه بإرسال الرسل والآيات الكونية والآثار الربانية في الخلق (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون) (سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) ﴿قُل مَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ أَمَّن يَملِكُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَمَن يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمرَ﴾ [يونس: ٣١]
﴿ أَمَّن هذَا الَّذي هُوَ جُندٌ لَكُم يَنصُرُكُم مِن دونِ الرَّحمنِ إِنِ الكافِرونَ إِلّا في غُرورٍ﴾ [الملك: ٢٠]
فالمؤمن يؤمن ويتعقل ايمانه، ويستدل بالخلق على الخالق، وبالصَنعة على الصانع، والكافر يعطل الايمان حتى يتعقل وقد تتوقف لديه آلات التعقل، ويوكل القضية الايمانية للإدراكات الحسية المتعلقة بالمادة وبالمحسوس؛ فلا يؤمن الا بما يراه ويسمعه ويشمه ويتذوقه ويلمسه، ويظل على ذلك ربما حتى يُختم على قلبه فلا يجد عن الكفر، والعناد فكاكا، أو يحول الله بينه وبين قلبه فيصبح من الخاسرين.
نسأل الله حسن الخاتمة.
 
أعلى