العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

نظرية التخيير في العبادة،

إنضم
5 مارس 2023
المشاركات
58
الإقامة
قطر الدوحة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عمار الرشيدي
التخصص
فقه وأصول
الدولة
قطر
المدينة
الدوحة
المذهب الفقهي
الحنبلي
• نظرية التخيير بين:
العبادة بالجبر والعبادة بالاختيار
في مرحلة مبكرة من عمري وتماما في سن الثامنة عشر في مقتبل الشباب كنت أرى معظم ما قيل في الحرية والارادة والاختيار والتكليف والتسيير والتيسير مخالفا للصواب وللحق الا ما كان من عقيدة اهل السنة في ذلك، وسطرت بقلمي في هذه السن نقدا لآراء المعتزلة والجهمية والاشعرية وابن رشد، ورفعته لأحد مشايخي الذي سُرَّ به كثيرا وعرضه على مشايخ اخرين وصارحني برغبته في مناقشته معي مع جمع من الحضور من طلبة العلم، ولا اخفيكم سرا انني شعرت بسعادة غامرة ان شيئا كتبته ذاك الوقت يستحق ذلك التقدير، وخلصت من نقدي لهذه المذاهب الى ان الانسان ليس مجبرا مطلقا كما يقول الجهمية، وليس حرا مطلقا كما يقول المعتزلة، وليس الامر كذلك كما هو عند الاشاعرة وابن رشد، ولكن الانسان مجبر على الاختيار، وتعجب البعض من جمعي بين الجبر والاختيار في نظرية واحدة وبهذه التسمية الصريحة التي لم يصطلح عليها علماء المسلمين ومفكريهم.
والحق انني قصدت من هذه النظرية أن الانسان - كل انسان - مجبر على عملية الاختيار ذاتها بين البدائل المتاحة له من قبل خالقه وهي الايمان او الكفر والطاعة او المعصية والفضيلة او الرذيلة والخير أو الشر والحق او الباطل...الخ لكنه في نفس الوقت مخير في اعتماد بديل بذاته فإن اختار الايمان فبحريته لا بقهر ولا جبر، وان اختار الكفر فبحريته لا بقهر ولا جبر، ولله المثل الاعلى؛ كمثل طالب الثانوية العامة بقسمها العلمي والادبي فهو مجبر على الاختيار بين العلمي والادبي لكنه مخير في اعتماد او اختيار بديل بعينه؛ فإن اختار العلمي فبحريته دون قهر او جبر، وان اختار الادبي فبحريته دون جبر او قهر.
ولم يكن في جعبتي العلمية ولا الفكرية أكثر من هذا القول وشرعت في شرحه والتمثيل له حتى اخذ مني ما يقرب من عشرين صفحة متوسطة.
لكنني في مرحلة متأخرة من عمري اكتشفت أن هذه النظرية ليست إلا مرحلة ثانية من مراحل قصة التكليف وأن هناك مرحلة اولى اسميها بالأصل بينما المرحلة الثانية أسميها بالتابع او اللاحق، فما هي المرحلة الاولى أو الاصل في قصة التكليف، والتي إن جمعناها مع التابع كان الأجدر بنا أن ننتقل من تسمية النظرية بالجبر على الاختيار الى التخيير في الاختيار بين الجبر والاختيار.
الحقيقة انني لم اكتشف المرحلة الاولى من قصة التكليف من خيال محض او جهد فكري ذاتي او تأمل فردي او حدس عبقري، لا مطلقا؛ بل اكتشفت ذلك وأنا أقرأ القران الكريم وأتلو قوله تعالى: ﴿إِنّا عَرَضنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَها وَأَشفَقنَ مِنها وَحَمَلَهَا الإِنسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلومًا جَهولًا﴾ [الأحزاب: ٧٢]
والامانة هنا هي التكليف، تكليف المكلف بأن يكون حرا لا مجبرا، يعطيه الله تعالى الحرية في عبادته وامتثال امره والانتهاء عن نهيه دون جبر ولا قهر، وأن يترتب على ذلك مالا يترتب للمخلوقات المقهورة المسيره، كالملائكة وغيرهم؛ فتكون له الجنة والنعيم والخلود والمتاع الأخروي إن هو آمن وأطاع وامتثل، وتكون له النار والعذاب والجحيم ان هو كفر وعصى وطغى؛ فقبل الانسان ان يكون حرا في عبوديته لله تعالى مقابل هذا العرض الجنة او النار، وكأنه اعتقد ان عبادة الله عن حرية سيكون شيئا سهلا ميسورا وسيحوز الجنان والنعيم فيتميز بذلك عن المخلوقات المقهورة التي ستبقى على حالها دون تغيير وليس لها مثل هذا الحظ من النعيم، أو يكون مصيرها الفناء، وقبل الانسان بالعرض وقبل التكليف وما يترتب عليه؛ فكان ذلك منه ظلما لنفسه وغبنا لها في حقيقة الامر، وسمى الله تعالى فعله هذا ظلما وجهلا (إنه كان ظلوما جهولا) لأن اجتماع البشرية على عبادة الله تعالى بالقهر، مع ما في هذا القهر من نعيم رضا الله تعالى والتلذذ بعبادته ومناجاته وطاعته، بلا شقاء ولا عداوة ولا حروب ولا فساد ولا افساد ولا قتل ولا خراب ولا امراض ولا ابتلاء وبلاء ووباء كان خيرا للبشرية من أن تأتي يوم القيامة منقسمة فريق في الجنة وفريق في السعير، ومن في السعير منقسم بين الخلود والخروج؛ فأي ظلم وأي جهل أشد من أن يكون الانسان مخلدا في النار بفعل نفسه واختيارها وحريتها وترفها ومتاعها؟!!
ثم انني عجبت لاختلاف النظريات والفلسفات في مسألة الارادة والحرية والقدر عند الفرق الاسلامية وتساءلت: أنى لهم أن يختلفوا وقد حسم القرآن مسألة التكليف وهي أصل مسألة الارادة والفعل والحرية؛ فالله تعالى لم يجبرنا على حمل التكليف بل خيرنا كما خير المخلوقات الاخرى بين حمل التكليف من عدمه، ولم يعدو الامر ان يكون عرضا فقط من الله تعالى على الانسان ولعل الانسان لو أبى ان يحمل التكليف كما ابت السموات والارض والجبال لأنقذ نفسه، وربما نقل الحق سبحانه وتعالى قضية العرض هذه الى مخلوق اخر من مخلوقاته، لكن الانسان قبل العرض ووافق عليه دون قهر ولا جبر، وهذه هي المرحلة الاصل في التكليف ان الله خيرنا في حمل التكليف، والتكليف هو حرية الاختيار في العبادة، وبعد ان وافق الانسان على ذلك صار مجبرا ان يختار بحريته بين بدائل التكليف وتفاصيله: الايمان او الكفر ...الخ، وعليه فالله خيرنا في الاختيار بين الجبر والاختيار، بين أن نعبده عن قهر كالملائكة او نعبده عن حرية في الارادة، وهذه هي النظرية التي أردت أن أستكملها اليوم، وليست بدعًا من القول إلا في العنوان ولا مشاحة في العناوين ولا في الاصطلاحات، والعبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، وهي مستمدة ومؤصلة كليًا من القرآن الكريم، وتقول إن الانسان كان مخيرا في حمل التكليف من عدمه فلما اختار ان يتحمله صار مجبرا على أداءه وهو الذي الزم نفسه بذلك مع الله وكان عهد الله مسؤولا.
لكن السؤال الهام هنا هل ارادتنا الحرة في اداء التكليف تنفي ارادة الله تعالى؟
هذا السؤال مبناه على قول الحق تعالى: ﴿وَما تَشاءونَ إِلّا أَن يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمينَ﴾ [التكوير: ٢٩] اي ان ما من مشيئة للعبد الا وسبقتها مشيئة للرب فهل هذا يتعارض مع ما سبق توضيحه وتفصيله؟
الجواب على هذا السؤال بسؤال مقابل: من الذي عرض الامانة على الانسان وقبلها؟ ومن الذي عرض عليه تفاصيل التكليف بإرادته الحرة وقبلها؟ انه الله تعالى، شاء ان يعرض الامانة ثم شاء ان يعرض تفاصيلها ثم شاء أن يجعل في الارض كفرا وايمانا وخيرا وشرا، ثم شاء ان يختبر بذلك العباد، ويبلوهم ايهم احسن عملا، وهم منعمون بحرية الارادة، فالعبد له مشيئة في الفعل، والله تعالى له مشيئة في ترك مشيئة العبد تكون فعلا يحاسبه عليه، او يمنع مشيئة العبد فلا تصل لدرجة الفعل لطفا به او بغيره، فلو شاء العبد ان يقتل او يسرق او ينتحر؛ فليست هذه الارادة رغما عن ارادة الله سبحانه لأن الله تعالى قادر أن يمنعه لحكمة ورحمة، وقادر ان يتركه يفعل ويحاسبه ويعاقبه، ولله المثل الاعلى اذا علم المدير ان موظفا سيتقاضى رشوة في وقت ما وزمان ما؛ فقد يراقبه ويتركه يفعل ليحاسبه متهما ويعاقبه بالسجن او بإنهاء خدماته ولم يظلمه ولم يجبره ان يفعل، وكان قادرا ان يمنعه بالتدخل قبل الفعل لطفا به، لكن علم المدير المسبق لم يكن له دخل في فعل العبد، ولن يقبل عاقل ان يقول الموظف: إن المدير هو من اجبرني على اخذ الرشوة لأنه كان يعلم وسكت.
فالله تعالى لا تعجزه ارادة الانسان ﴿لا تَحسَبَنَّ الَّذينَ كَفَروا مُعجِزينَ فِي الأَرضِ وَمَأواهُمُ النّارُ وَلَبِئسَ المَصيرُ﴾ [النور: ٥٧] فكل مشيئة للعبد لا تقع رغما عن مشيئة الرب؛ فإما أن يشاء الله لمشيئة العبد ان تكون فعلا واقعا ملموسا يحاسب عليه بالثواب او العقاب وإما أن يشاء الله أن يمنع مشيئة العبد أن تكون فعلا وواقعا وتبقى في دائرة الهم او العزم فيحاسبه او يعفو عنه ويلطف به، وقد يثبط الله تعالى همة العبد عن المعصية لطفا به وقد يثبط همته عن العبادة اعراضا عنه، لكن العبد اذا تركه الله يفعل فإنما يفعل الفعل ذاته بحريته وارادته، وتتجلى ارادة الله في الترك او المنع.
ونخلص من هذا السرد الذي لا يخلو من تكرار بغرض التأكيد الى القول:
عندما تنفذ ارادتك ايها العبد بحريتك فقد أراد الله تعالى لإرادتك ان تكون.
وعندما تفشل ارادتك فقد اراد الله لإرادتك انت أيها العبد ان تفشل.
وما من ارادة تُعجز ارادة الله؛ فمن ذكر الله واطاعه واتخذ اليه سبيلا بإرادة حرة فلأن الله تعالى شاء التوفيق لإرادة عبده في ذلك.
ومن كفر بالله وعصاه بإرادته الحرة فلأن الله تعالى شاء ألا يمنع عبده من ذلك وحرمه نعمة التوفيق
والتوفيق فضل من الله تعالى يؤتيه من يشاء ويمنعه عمن يشاء.
والاحتجاج بأن الله تعالى خلق في الانسان الطبيعة التي تستميله الى الشر كالنفس الامارة بالسوء والهوى وحب الدنيا وخلق له عدوا كالشيطان يزين له المعاصي والشهوات هو احتجاج منقوض بأن الله تعالى خلق ايضا قوى الخير الآمرة بالمعروف والطاعة والزهد مثل الرسالات والرسل والهدايات والعقل والروح والملائكة والترغيب في الجنة والترهيب من النار والوعد بالمغفرة وجعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له؛ بل وتفضل على التائبين بتبديل سيئاتهم حسنات، ووعد بعدم العذاب على الاستغفار، ووعد بزيادة النعم والهداية على الشكر ووعد برضاه على من خشيه بالغيب ووعد بالنعيم والمقام الكريم لمن اتقاه، وخلق المصلحين والدعاة الى الحق والناشرين للهدايات، لكن الانسان يريد ان يُرجح سلطان الطبيعة الشريرة على الطبيعة الخيرة لأنها توافق امتاعا له بالباطل وإيناسًا له بالشهوات، وتسلية له بالمعاصي، وليس هذا الكذب على النفس بشافع له في الدنيا ولا في الاخرة لأن العقل حجة عليه والرسالات حجة عليه، فالعقل اما ان يرتقي فيسمو به فيكون افضل من الملائكة، واما ان يسقط فينزل به الى مرتبة الحيوانات، واما ان يفقد العقل والشهوة فيكون كالجمادات فيعبد الجمادات من اصنام واموال وديار ومراكب، واثر المعبود يظهر على عابده، ومن يعبد الله يظهر عليه اثر النور والإشراق والبهاء والجمال لأن الله تعالى نور على نور وجميل يحب الجمال.
ومن عبد الشهوات ظهر ذلك عليه بانطفاء الوجه وذهاب القوة وسقوط الهمة.
ومن عبد الجمادات ظهر عليه جمود الوجه وقسوة القلب وتحجر المشاعر.
وكذلك الاحتجاج بقوله تعالى (والله خلقكم وما تعملون) على ان الله تعالى خلقنا وخلق اعمالنا هو احتجاج منقوض لأن الإرادة هي الرابط الذي يربط بين الفاعل والفعل والعامل والعمل، فالله تعالى خلق العبد وخلق العمل من ايمان وكفر وطاعة ومعصية وخير وشر، وجعل بين العبد وبين العمل رابطة هي رابطة الارادة، وجعل هذه الارادة حرة، وهي حرة باختيار العبد لما اختار ان يحمل امانة التكليف؛ فكيف يحتج المحتجون بهذه الآية على ان الاعمال من خلق الله فتكون خارجة عن ارادة العباد؟!
وهذه الارادة التي هي مسافة بين العمل والعامل او الفعل والفاعل ليست قالبا واحدا عند كل البشر بل تخضع لقوى الطبيعة البشرية الاخرى من روح وعقل ونفس وضمير، وبعد استشارة هذه القوى او بعضها يتخذ الانسان قراره بالفعل من عدمه.
أما ما كان خارجا عن حرية العباد فهو القدر المقدر عليهم من الله تعالى، ولا يحاسبون عليه يوم القيامة لأنه خارج عن ارادتهم؛ فلا يحاسب المجنون ولا النائم، ولا الناسي ولا المقهور، لأنه لا ارادة حرة لديهم، ولا يحاسبون على الاقدار الكونية التي تقع بهم خارجة عن ارادتهم كالزلازل والفيضانات والأعاصير والسيول والبراكين...الخ
ونُجمل كلامنا حول قضية الارادة الحرة والجبر والاختيار؛ تلك القضية التي شغلت حيزا كبيرا من اهتمام العلماء والمفكرين والفلاسفة المسلمين، سواء عند اهل السنة او المعتزلة والجهمية والأشعرية والماتريدية وابن رشد وغيرهم بالقول:
الانسان مخير ابتداء في حمل التكليف.
الانسان قبل باختياره حمل التكليف.
الانسان صار مجبرا على اداء التكليف.
الانسان مجبر على الاختيار بين الايمان والكفر أو الطاعة والمعصية ولا يملك التوقف عن ذلك وليس له أن يقول: لست بمؤمن ولا كافر.
الانسان مخير في اختيار بديل بعينه فإن اختار الايمان فبحريته وان اختار الكفر فبحريته
الانسان محاسب على البدائل التي يختارها بحريته.
الانسان يثاب بالجنة إذا اختار بدائل الخير والحق والجمال.
الانسان يعاقب بالنار إذا اختار بدائل الشر والكفر والطغيان.
ارادة العبد لا تقع رغما عن ارادة الله ولا اعجازا لمشيئته سبحانه.
الله تعالى قد يشاء أن يترك مشيئة العبد تتحقق ويحاسبه عليها.
الله تعالى قد يشاء ان يمنع مشيئة العبد من التحقق لحكمة منه سبحانه
بين العبد والعمل مسافة اسمها الارادة الحرة هي ايضا مخلوقة من الله تعالى لكنها تحت تصرف العب ليُسأل عنها، وبها تقع افعال العباد.
ما كان خارجا عن الارادة الحرة للعباد فلا يحاسبون عليه، كالمجنون والنائم والمقهور ونحو ذلك، عدلا وفضلا من الله تعالى؛ فلا يحاسب مثلا النائم الذي يقع على آلة فيموت، ولا يقع طلاق المكره لأنه مقهور ومكره على ذلك، بل لا يقع طلاق المغلق الذي خرج به الغضب عن وعيه وقصده ونيته فلا طلاق في اغلاق. وفي الأمر تفصيل أكثر من هذا لا يتسع المقام لذكره.
والله تعالى اعلى واعلم.
 
أعلى