العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

شبهات حول مناسك الحج

د. ياسر محمد جابر

:: مطـًـلع ::
إنضم
5 مارس 2023
المشاركات
119
الإقامة
قطر الدوحة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عمار الرشيدي
التخصص
فقه وأصول
الدولة
قطر
المدينة
الدوحة
المذهب الفقهي
الحنبلي
س١٤٤. تتردد شبهات كلَّ عام مع قرب موسم الحج وادعاءات بشأنه، منها القول بأنَّ الحج هو بقايا عبادة وثنية، ويقولون إذا كان الإسلام حارب الأوثان والأصنام فلماذا ينقل عن الوثنيين مناسكهم ويأمر المسلمين بعبادة الكعبة والتوجه لها في صلاتهم وتقبيل الحجر الأسود والتعبد برمي الجمرات؟ وكيف نرد على من يقول أن الإسلام أخذ من العرب الوثنيين شعائرهم وقلدها ؟ وما الحكمة من الطواف والسعي، ورمي الجمرات وغير ذلك؟ ومن هؤلاء مسلمون سافروا للغرب ورجعوا يرددون هذه الأقاويل فكيف نرد عليهم؟

والجواب:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
فالإسلام دين يحترم العقل والتفكر والنقد في الإطار الوسطي دون إفراط أو تفريط، ودون إهمال أو تقديس، والمسلمون يتمتعون بخاصية تميزهم عن غيرهم في التعامل العقلي مع الدين ونصوصه ومقدساته وشعائره، لخصها لنا عمر لن الخطاب رضي الله عنه في الموقف الآتي:
فعن عمر - رضي الله عنه - (أنَّه جَاء إِلى الحَجَر الأَسوَدِ، فَقَبَّلَه، وقال: إِنِّي لَأَعلَم أَنَّك حَجَرٌ، لا تَضُرُّ ولا تَنفَعُ، ولَولاَ أَنِّي رَأَيتُ النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يُقَبِّلُك مَا قَبَّلتُك).
ومن هذا الحديث يأخذ المسلم منهجه في التعامل مع الأمور الدينية التي قد تبدو في ظاهرها مخالفة للعقل، وهذه المنهجية كالتالي:
إذا ثبت الخبر بالرؤية أو السند الصحيح أنه من الله أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن المؤمن يسلم لله تعالى متعبدا بالأمر وإن كان يخالف العقل.
والفرق بيننا وبين اليهود والنصارى أنهم حرفوا النصوص وزعموا أنها أوامر من عند الله، ولم يأتوا لها بأسانيد صحيحة تثبت أن موسى أو عيسى عليهما السلام قالوا ذلك، ومعظم أخبارهم تخالف العقل.
فنحن المسلمون نشترط ثبوت الشيء بسند صحيح لنتعبد به لله وإن خالف عقولنا.
واليهود والنصارى والشيعة وغلاة الصوفية يتعبدون لله بأشياء تخالف العقل وليس لها سند صحيح، ولا خبر ثابت.
وعباد الأصنام عبدوها بدون أمر من الله تعالى لا بسند ولا بغير سند.
والملحدون ينكرون وجود الله بلا خبر ثابت أو غير ثابت.
أما المسلم فالمقياس عنده في الأمور الدينية هو ثبوت الخبر بها، فإن ثبت مسح الخفين أعلى الجورب أو أن بول الإبل فيه علاج من بعض الأمراض، أو ثبت له الإسراء والمعراج، أو انشقاق القمر، أو كلام الشجر...الخ، فهو يسلم ويقول: سمعنا وأطعنا.
وعليه يرفض الأخبار التي لم تثبت، وإن كانت موافقة للعقل تماما لكن لا يعدها دينا من الله، فيرفض البدع والموضوع والشاذ والمنكر...الخ؛ فنحن أمة السند، وقد أفنى علماء السند أعمارهم في التحقق من الأخبار ووضعوا لها شروطا مشددة.
وقد ثبت الطواف وتقبيل الحجر ورمي الجمرات بالأدلة الصحيحة الثابتة المتواترة، لذلك فنحن نسلم ونتعبد بها لله تعالى ابتداءً، ثم نتلمس المعاني والحكم من تشريعها والتعبد بها لله، دون اعتراض ولا مصادمة بين العقل والنقل.
وأذكر أنني كنت في الحج وذاهب إلى رمي الجمرات، فهجم علي وسواس يقول لي: هل أنت مجنون؟! ذاهب لتضرب حجر بحجر؟! أين عقلك؟!
فأجبته: أنت إبليس، توسوس لي برفض التكليف من الله الثابت بالخبر الصحيح من رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، بحجة أن ذلك مخالف للعقل، أليس كذلك؟!
ستقول نعم.
أقول لك:
والله تعالى أمر بالسجود لآدم، فرفضت أنت بحجة أن ذلك مخالف للعقل، الذي يقضي بأنك الأفضل لأنك مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين، والنار بعقلك خير من الطين؟! أليس كذلك؟
ستقول نعم.
فكان مصيرك اللعن والطرد من رحمة الله والخلود في النار؟!
وإذا أطعتك أنا اليوم وفعلت مثلك ورفضت تكليف الله تعالى لي سيطردني من رحمته، وتحق علي لعنته، وأكون خالد في النار مثلك؟
فهل من العقل أن أطيعك؟! وأهلك مثل هلاكك؟!
أنا أطيع ربي فيما أمرني به وثبت به الخبر، ثم أتعقل ما يأمرني به، فإن عقلت حكمته فبها ونعمت، وإن لم أعقل سلمت له فيما أمر تعبدا وانقيادا، وآمنت بأنه أحكم الحاكمين، وأنه تعالى أعلم بما يأمر به، سبحانه، سبحانه.
هيا انصرف عني....
ثم بعد أن انتهيت من رمي الجمرات، وقفلت عائدا، التقيت بأخ معنا في الحج، سبق أن تعارفنا أول السفر، فسلمت عليه، ثم سألته:
هل دار بينك وبين نفسك حديث وأنت ذاهب للجمرات؟!
فنظر إليَّ متعجبا، وقال: كيف عرفت؟!
قلت له: لأنه هذا حدث معي.
قال: نعم، وجدت عقلي يفكر بحدة وإلحاح ويقول: هل أنت مجنون؟! ذاهب لترمي حجر بحجر؟ أين عقلك؟!
قلت له: وبماذا رددت؟!
قال: ما استطعت أن أرد، سكت، ومضيت لحالي.
قلت له: هذا شيطان، جاءك يشكك، ويغريك، بالاعتراض، ويغويك بالرفض.
قال: وماذا فعلت أنت؟!
فقصصت عليه الحوار الذي دار بيني وبين الشيطان، وأن الله تعالى وفقني وألجمته الحجة والبرهان، ودفعته عن نفسي مخذولا مدحورا.
قلت: هذا حدث معنا، من هجوم الشيطان علينا عند ذهابنا لرمي الجمرات، ونحن على درجة من العلم والثقافة، فكيف بهجومه على من حرم العلم؟! وكأنه لا يترك أحدا في ذلك اليوم من وساوسه وتلبيسه ونزغه؛ ليصد الناس عن طاعة مولاهم الحق.
فلله الحمد والمنة والثناء الحسن على النجاة.

من معاني المناسك وحكمها

اعلم ،حفظني الله وإياك، أن شرع الله من حيث معرفة وجه الحكمة، وعدم معرفتها على قسمين:
الأول: ما ظهرت حكمته، وبانت للعقول مصلحته، وذلك كحد الردة حفظاً للدين، وحد القصاص حفظًا للحياة، وحد الزنا حفظًا للأنساب، وحد الخمر حفظًا للعقول.
الثاني: ما خفي على العقول وجه المصلحة منه، كتعيين رمضان بالصيام، وكتحديد خمس صلوات في اليوم والليلة، وتعيين عرفة بالوقوف، فحكمة هذه الأمور أخفاها الله عنا ابتلاءً ليتحقق من العبد الاستسلام لله بالطاعة، وأن حال العبد أمام أمر الله وشرعه قائم على قدم الخضوع والاستسلام، سواء علم الحكمة من أمره، أم لم يعلمها مع التيقن أن لها حِكمًا لم نعلمها، ولم ندركها بعقولنا.

وإليكم بعض المعاني والحكم لمناسك الحج:

1. الطواف:

فأما الطواف فمن حكمه إقامة ذكر الله؛ كما في الحديث: إنما جعل الطواف بالكعبة وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل . رواه أحمد وابن خزيمة والأثرم وابن المنذر. وقال الأعظمي: إسناده صحيح، ورجح الألباني ضعفه.
قال المناوي: يعني إنما شرع ذلك لإقامة شعار النسك.
وقال ﷺ: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام".
قال ابن باز رحمه الله: جاء هذا مرفوعًا وموقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما، والموقوف أصح إسنادًا، ولكنه لا يقال من جهة الرأي فهو في حكم المرفوع؛ لأن الصحابي إذا قال ما لا يمكن قوله من جهة الرأي فهو في حكم المرفوع إلى النبي ﷺ إذا كان ممن لا ينقل عن بني إسرائيل، وهذا القول لا تعلق له بأخبار بني إسرائيل ولا دخل للرأي فيه، فهو في حكم المرفوع إلى النبي ﷺ.

2. تقبيل الحجر الأسود

الحجر الأسود هو حجر موضع إجلال مكون من عدة أجزاء، بيضاوي الشكل، أسود اللون مائل إلى الحمرة، وقطره 30 سم، يوجد في الركن الجنوبي الشرقي للكعبة من الخارج، وفقا للعقيدة الإسلامية فهو نقطة بداية الطواف ومنتهاه، ويرتفع عن الأرض مترًا ونصفًا، وهو محاط بإطار من الفضة الخالصة صونًا له، ويظهر مكان الحجر بيضاويًّا.
ووجود الحجر في البيت وتقبيله ولمسه ليس فيه ما يستغرب، فنحن لا نعبده ولا نعتقد فيه النفع ولا الضر، وإنما نلتمس امتثال أمر الله وحصول الثواب المرتب على لمسه وتقبيله، فقد روى البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه قال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
وجاء في فضل استلامه قول النبي صلى الله عليه وسلم: والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق. رواه الترمذي عن ابن عباس، وصححه الألباني .
وفي الحديث: إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطا. رواه أحمد وصححه الألباني.
عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: نَزَلَ الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الجَنَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ.
وَفِي البَابِ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبِي هُرَيْرَة.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وقيل إن عطاء اختلط، لكن رواه النَّسائي من طريق حماد بن سلمة، عن عطاءٍ مُختصرًا، ولفظه: الحجر الأسود من الجنة، وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط.
وقيل إن عالما أعجميا اقتطع منه قطعة وحللها وشهد أن الحجر - علميا - ليس من أحجار الأرض.

3. السعي

السعي بين الصفا والمروة واجبٌ على جميع الحجاج والمعتمرين؛ إذ هو ركنٌ من أركان الحج والعمرة، يؤديه الحاج والمعتمر بعد الطواف بالكعبة المشرفة، علمًا بأن الحاج يؤديه سواء أكان متمتعًا، وقارنًا، ومفردًا، لكن في حق المتمتع يلزمه سعي ثانٍ للحج، إذ إن سعيه الأول يكون للعمرة، أما القارن والمفرد فليس عليه إلا سعي واحد، إن سعاه قبل يوم عرفة مع طواف القدوم؛ أجزأه، وإلا سعاه مع طواف الإفاضة، بعد يوم عرفة.
ولمشروعية السعي أصل واقتداء، حيث إن له تاريخًا مع النبي إبراهيم وزوجته هاجر وابنه إسماعيل عليهم السلام.
يعود أول ذكر للسعي بين الصفا والمروة إلى النبي إبراهيم وابنه إسماعيل وزوجته هاجر عليهم الصلاة والسلام، والقصة التي يعرفها الجميع حول ترك النبي إبراهيم زوجته هاجر وابنها إسماعيل، وعندما أخبرها أنه أمر من الله ردّت عليه بأن الله لن يضيعهما، وعندما نفد منها الماء ظلت تسعى بين الصفا والمروة سبع مرات، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما".
ولما قدم الأنصار مع النبي عليه الصلاة والسلام في الحج، كرهوا الطواف بين الصفا والمروة؛ لأنهما كانا من مشاعر قريش في الجاهلية، وأرادوا تركه في الإسلام، ومما ورد أن بعض الصحابة قالوا: يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شرك كنا نصنعه في الجاهلية". (إذ كان أهل الجاهلية إذا طافوا بين الصفا والمروة مسحوا الوثَنَين، فلما جاء الإسلام وكُسرت الأصنام، كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين) فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}. البقرة.

صفة نسك السعي بين الصفا والمروة

إذا أراد الحاج أو المعتمر السعي يتوجب عليهما البدء من الصفا ويستحب أن يقرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}، ثم يرقى على الصفا، ويسن أن يستقبل الكعبة ويرفع يديه ويحمدَ الله ويدعو بما شاء أن يدعو، وكان النبي يدعو في هذا الموضع: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده"، وكان يكررها ثلاث مرات ويدعو بعدها. ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشيًا حتى يصل إلى العمود الأخضر ( الإنارة الخضراء ) ، فإذا وصله أسرع إسراعًا شديدًا بقدر ما يستطيع إن تيسر له بلا أذية أحد، حتى يصل العمود الأخضر الثاني، ثم يمشي على عادته حتى يصل المروة، فيرقى عليها ويستقبل القبلة، ويرفع يديه ويقول ما قاله على الصفا، ثم ينزل من المروة إلى الصفا يمشي في موضع مشيه، ويسرع في موضع العلمين، فيصعد على الصفا ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول مثل ما قال أول مرة، يكرر هذا سبعة أشواط يبدأ من الصفا وينتهي في المروة، والصعود على جبلي الصفا والمروة، والركض الشديد بين العلمين الأخضرين كلها سنة وليست بواجبة.

4. الوقوف بعرفة

يوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة، اليوم الذي يسبق يوم النّحر، ويشير لفظ وقفة عرفة إلى وقوف حجّاج بيت الله الحرام على جبل عرفة في هذا اليوم، حيث يذكرون الله -تعالى- ويتضرّعون إليه بأن يغفر ذنوبهم ويعتقهم من النار، ويُطلَق على هؤلاء الحجيج أهل الموقف.
وفضل يوم عرفة عظيم وله أهمية كبيرة؛ فهو يوم إتمام النعمة وإكمال الدين على المسلمين من الله -عز وجل-؛ قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)،[٣] وقد أخبر سيدنا عمر -رضي الله عنه- أنّ هذه الآية الكريمة نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- يومَ الجمعة وهو قائمٌ بعرفة.
وأقسم الله سبحانه وتعالى بهذا اليوم: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) البروج. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اليومُ الموعودُ يومُ القيامةِ، واليومُ المشهودُ يومُ عرفةَ، والشَّاهدُ يومُ الجمعةِ).والله العظيم لا يقسم إلا بعظيم.
كذلك أخذ فيه الله تعالى الميثاق من ذرية آدم -عليه السلام-؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللهَ أخذ الميثاقَ من ظهرِ آدم بـِ (نعمانَ) يومَ عرفةَ، وأخرج من صلبِه كلَّ ذريةٍ ذرأَها فنثرَهُم بين يديه كالذَّرِّ، ثم كلَّمَهُم قِبَلًا قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)).
وقد تكون الحكمة من الوقوف بعرفات تذكر يوم الحشر الأكبر، من خلال ملاحظة ذلك الجمع الغفير والأمواج المتلاطمة من البشر في بحر الحج العميق، مع ملاحظة ارتداء ثوب الإحرام المجرد من الخياطة بالنسبة إلى الرجال، وذلك يذكرنا بالكفن ويرسم لنا صورة المستقبل المذهل في ذلك اليوم الذي تحدّث الله عنه بقوله تعالى: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارىُ وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ).
وتأتي وقفة عرفات لتؤكد أواصر الوحدة المعنوية للأمة الإسلامية بمظاهر وحدوية تذوب معها فوارق اللون واللغة والعرق والمذهب واللباس فالكل متجردون من ملابس الحياة الدنيا وزينتها ليبرزوا بمظهر واحد ويلتقوا على صعيد واحد ويهتفوا بشعار واحد، وهو شعار التلبية التي يدوي صداها في مسامع تلك الجماهير الغفيرة، فتبعث في قلوبها القوة والثقة بقدرة الأمة وتمكنها إذا اعتصمت بحبل الله سبحانه.
ولا يخفى على المسلم الواعي أن استلهام درس الوحدة الإسلامية من مدرسة عرفات وتعميقها في النفوس يتوقف على التنبيه والتنبه لكونها- أي الوحدة الإسلامية- إحدى أبرز الغايات المستهدفة من تشريع هذا الشعار المبارك لذلك يُطلب ممن يؤدي مناسك الحج أن يلتفت إلى هذه الغاية السامية المنشودة من وراء تشريع وجوب هذه الفريضة بصورة عامة كما يُطلب الالتفات إلى الحكمة المستهدفة من كل منسك من مناسكها.

5. رمي الجمرات

الجمرات: جمع جمرة، وهي: اسم لمُجْتَمَع الحَصى التي يُرمى بها، وسُمِّيت بذلك: لاجتماع الناس بها.
وقيل: الجمرات هي الأحجار الصِّغار، سميت بذلك: للحَصى التي يُرمَى بها، يقال: جمر الرجل يجمر تجميراً إذا رمى جمار مكة.
وتقع الجَمَراتُ الثلاثُ في الجهة الغربية من مِنى، فالصغرى: هي التي تلي مسجد الخَيْف، والكبرى: هي التي على حدود منًى من جهة مكة، والمسافة بين الكبرى والوسطى: (240 م)، وبين الوسطى والصغرى: (148 م).
وأصل مشروعية رمي الجَمَرات يعود إلى أبينا إبراهيم الخليل - عليه السلام: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - رَفَعَهُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ عَرْضَ لَهُ فِي الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما: الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ، وَمِلةَ أَبِيكُمْ تَتَّبِعُونَ).
ففيها تذكير لما وقع مع الخليل إبراهيم -عليه السلام- عندما اعترضه إبليس على تنفيذ أمر ربه في ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، فرماه بسبع حصيّات فانطلق، ثم اعترضه فرماه بسبع حصيات فانطلق، ثم اعترضه فرماه بسبع حصيات أخر، وأضجع ابنه على جبينه ليذبحه إلّا أن السكين لم تنحره، وفداه الله بكبش عظيم.
كذلك في رمي الجمرات إغاظة للشيطان، فإنّه يغتاظ عند رؤية النّاس يرجمون المكان الذي اعترض فيه للنبي إبراهيم عليه السلام.
وأصبحت من شعائر الحج الظاهرة، والله تعالى أمر بتعظيم شعائره، فالحاج يرمي جمرة العقبة يوم العيد ضحى، ثم يرمي الجمرات الثَّلاث كلَّ يومٍ من أيام التشريق بعد الزوال، بدءاً من الجمرة الصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى.
والحمد لله رب العالمين
 
أعلى