العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

من ذبيح الله؟

د. ياسر محمد جابر

:: مطـًـلع ::
إنضم
5 مارس 2023
المشاركات
119
الإقامة
قطر الدوحة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عمار الرشيدي
التخصص
فقه وأصول
الدولة
قطر
المدينة
الدوحة
المذهب الفقهي
الحنبلي
١٣٩. ذُكر إسحاق عليه السلام في القرآن أكثر من مرة باسمه صريحا كبشرى لإبراهيم عليه السلام ولم يذكر إسماعيل بذلك صراحة فهل يدل ذلك على أن إسحاق كان الأكبر أو كان هو الذبيح؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد؛
فمما يدل على أن إسماعيل هو الأكبر؛ ترتيبه قبل إسحاق عند الاقتران في جميع آيات القرآن: قال تعالى:

[قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ] (البقرة: 133)
[وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط] (البقرة: 136).

[أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى] (البقرة: 140).

[قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ]
(آل عمران: 84).

[ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى ] النساء 163.
[الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ] (إبراهيم: 39).

فالترتيب على التوالي:
إسماعيل ومن بعده أسحاق ثم ولده يعقوب ثم أولاد يعقوب وهم الأسباط، فالبداية بإسماعيل دلالة قوية على كونه الأكبر، حتى عند الكلام على لسان أولاد يعقوب، بدأوا بجدهم الأكبر إبراهيم ثم إسماعيل ثم إسحاق عليهم السلام.

ومما يدل على كون إسماعيل هو الأكبر أنه وَلدُ هاجر عليها السلام، وأن هاجر ولدت قبل سارة لأن سارة كانت عقيما ولم تلد إسحاق إلا على كبر بعد أن صارت عجوزا قد يأست من الولد وقيل بعد إسماعيل ب 13 أو 14 سنة، وهذا قولها في القرآن:
(قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) هود(72)
ومن الأدلة مذلم: أن إبراهيم هاجر إلى مكة بولده إسماعيل وأمه هاجر بسبب غيرة سارة من هاجر وأنها ولدت وهي لم تلد ولم تكن ولدت إسحاق بعد، وأوكل الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل عمارة المسجد الحرام.

أما ما يدل على كون إسماعيل عليه السلام هو الذبيح:
أن إبراهيم لما دعا الله تعالى (رب هب لي من الصالحين) الصافات 100.
استجاب الله تعالى له، وجعل استجابته على الترتيب، فبشره بشارتين مرتبتين:
بشره بغلام حليم ثم ابتلاه بذبحه ثم فداه بذبح عظيم.
وبعد ذلك بشره بإسحاق عليه السلام في آيات مرتبة في سورة الصافات، ووصف إسحاق في سورة أخرى بأنه غلام عليم.
فدل السياق على أن البشرى الأولى كانت إسماعيل وهو الأكبر بالأدلة.
والبشرى الثانية كانت إسحاق الذي جاء بعد شيب وكبر.
ومما يدل على كون إسحاق ليس هو الذبيح أن الملائكة لما بشرت به؛ بشرت أيضا بولده يعقوب فلا يجتمع أن يبشر الله إبراهيم بحفيد له من إسحاق ثم يقول له اذبح إسحاق، فمن أين يأتي يعقوب؟!
وعندما هم إبراهيم بذبح إسماعيل لم يكن إسحاق قد ولد بعد لأنه كان ابتلاء من الله تعالى في ولده البكر الوحيد الذي رزقه الله به استجابة لدعوته (رب هب لي من الصالحين) وكان يحبه حبا جما.
والآيات دالة بسياقها على ذلك:
قال تعالى: (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‏ رَبِّي سَيَهْدينِ (99) رَبِّ هَبْ لي‏ مِنَ الصَّالِحينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَليمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى‏ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُني‏ إِنْ شاءَ اللّه مِنَ الصَّابِرينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرينَ (108) سَلامٌ عَلى‏ إِبْراهيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى‏ إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبينٌ (113)
فإسحاق هو البشرى الثانية في صريح الآيات، وإسماعيل هو البشرى الأولى بدلالة سياق الآيات وهو الأول فهو الأكبر.

أدلة موهومة:

وهناك من يستدل بأدلة موهومة يثبتون بها أن إسحاق هو الذبيح وإن كان هو الأصغر، بدليل ذكر ذلك في التوراة،
والرد: أن التوراة محرفة ولا تصلح دليلا يُستدل به، وعند التنازع بين دليل القرآن ودليل التوراة يقدم دليل القرآن، لأن الله تعالى نص صراحة على حفظه للقرآن، ونص صراحة على تحريف اليهود للتوراة.
ومنهم من يقول أن إسحاق ذكر في القرآن صراحة مع البُشرى ولم يُذكر إسماعيل صراحة معها،
والرد: الترتيب في البُشرى وعطف واحدة منها على الأخرى يفيد التغاير والاختلاف وأن المبشر به أولا غير المبشر به ثانيا، وطالما أن إسحاق هو البشرى الثانية فإسماعيل هو البشرى الأولى، ولم يكن لإبراهيم أولاد غير إسماعيل وإسحاق.
وعدم التصريح لا يعني الإهمال بل قد يعني عدم الحاجة للبداهة والتسليم، والاستغناء عن الذكر أو التعريف، وهو من بلاغة القرآن الكريم.
ومنهم من يقول إن إسحاق ذُكر أكثر من إسماعيل.
والرد: ليس لذلك دلالة معينة فموسى عليه السلام ذكر في القرآن أكثر من جميع الأنبياء عليهم السلام وحتى أكثر من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولا يفيد ذلك الأفضلية.
ومنهم من يقول أن الله ذكر أنه وهب إسحاق لإبراهيم ولم يذكر أنه وهب إسماعيل.
والرد: أن هاجر كانت تلد ولم تكن عقيما بينما كانت سارة عقيما، فإسماعيل جاء من الله تعالى مع وجود سبب وهو الخصوبة والإنجاب من هاجر وإبراهيم، بينما إسحاق جاء من الله بلاسبب بل بعد شيب وكبر وعجز ويأس من الولد.
مثل كون آدم وحواء وعيسى معجزات إلهية لانقطاع السبب ولكون ذلك خارقا لنواميس الكون، بينما بقية البشر جاؤوا بأسباب، رغم أن خلق أي إنسان هو معجزة في ذاته، لكن خالطتها أسباب أرضية، مثل الزواج والإنجاب، لكن أعظم منه المعجزة التي لم تخالطها أسباب، أو الخارقة للأسباب كخلق سيدنا عيسى عليه السلام.
فكلنا هبات من الله خالطتها أسباب، وكذلك إسماعيل عليه السلام، أما إسحاق فهو هبة من الله خارقة للأسباب، هبة خالصة من رب العالمين.
وتأت الهبة بمعاني كثيرة أخرى ليس هذا مجال تفصيلها.
ومنهم من يقول فضل الله إسحاق بكثرة الأنبياء من ولده وليس من إسماعيل إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم،
والرد: أن بني إسرائيل كانوا في ضلال وكانوا في حاجة لتعاقب الأنبياء عليهم لإصلاحهم، ولا شك أن ادخار اسماعيل عليه السلام لتكون منه النبوة الخاتمة والرسول الخاتم لهو فضل عظيم.
وفي كل الأحوال فإن هذه الأقوال ليس فيها دلالة على كون إسحاق عليه السلام هو الأكبر أو هو الذبيح أو أن نسله أفضل من نسل إسماعيل في شيء، لكن اليهود يحاولون إثبات أنهم شعب الله المختار تاريخيا وإلى يوم القيامة أو أنهم أبناء النور وغيرهم أبناء الظلام أو أبناء الله وأحباؤه، وكل ذلك لا يغني عنهم من الله شيئا، قال تعالى:
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) المائدة(18).
ثم مسألة الذبيح لا ينبني عليها أحكاما شرعية ولا هي مسألة من مسائل الأصول، واختلف حولها البعض، وتجاذبوا فيها الأدلة بناء على اختلاف التأويل والفهم وهو من طبيعة البشر، وحسبنا ما في كتاب ربنا سبحانه وتعالى.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والله أعلم.
 
أعلى