العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مصافحة المرأة الأجنبية

د. ياسر محمد جابر

:: مطـًـلع ::
إنضم
5 مارس 2023
المشاركات
119
الإقامة
قطر الدوحة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عمار الرشيدي
التخصص
فقه وأصول
الدولة
قطر
المدينة
الدوحة
المذهب الفقهي
الحنبلي
١٣١. ما حكم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية، فقد سمعنا من يُفتي بالحرمة ومن يُفتي بالجواز، ومن يُقيد ذلك بالحاجة والضرورة؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
فبداية أوضح سبب الاختلاف في الفتوى بشكل عام، وذلك غالباً يعود لوجود أدلة متقابلة في الظاهر، فيأخذ كل طرف بدليل، وقد يكون في المسألة دليل واحد لكن تتعدد فيه الأفهام، وتتفاوت فيه العقول، فتتعدد الأطراف بسبب الفهم، ويحصل التنازع.
وإذا طبقنا ذلك على سؤال السائل فإن الاختلاف هنا ناشئ من تعدد الأدلة وتقابلها في الظاهر، وكذلك من تعدد الأفهام في الدليل الواحد، فكلاهما موجود هنا، حيث استدل المحرمون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء.
في مبايعة النساء له، وحملوه على التشريع المفيد للتحريم.
وكذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: لئن يُضرب أحدكم بخيط في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له. فاهمين من لفظ المس أنه اللمس وليس الجماع.
كذلك استدلوا بقياس الأولى ومفاده: إذا كان الله تعالى حرم النظرة، وأمر بغض البصر تجنباً للشهوة فمن باب أولى اللمس والمصافحة لأنها أشد من مجرد النظرة، بل ستجتمع النظرة واللمس في المصافحة لأنه غالباً الذي يصافح ينظر لمن يُصافحه.
وقاسوا كذلك على ترك النبي المعصوم الذي يملك إربه، بأن من دونه أولى بعدم المصافحة وهو غير نبي ولا معصوم ولا يملك إربه.
واستدل المجيزون بما ورد أن الجارية من جواري المدينة كانت تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي لها حاجتها.
وكذلك استدلوا بنفس الدليل أعلاه مفسرين المس بأنه الجماع.
إذن عندنا دليلان متقابلان
ودليل تعددت فيه الأفهام في كلمة المس.
ومثل ذلك يحتاج منا إلى تحرير محل النزاع بين الفريقين ثم على ضوء ذلك نجمع بينهما او نرجح.
تنازعوا الدليل الأول فقال المجيزون ان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح النساء لخصوصية به لا تشريعا، وقال المحرمون هو للتشريع والقدوة.
النزاع الثاني في درجة التحريم فقال المجيزون بأن النبي صلى الله عليه وسلم يترك للحرمة وللكراهة وقد يترك المباح.
وتوجد قرينة تنقل الأمر من التحريم إلى الكراهة أو الإباحة وهي أخذ الجارية ليد النبي صلى الله عليه وسلم ومشيها معه حتى يقضي حاجتها، فيفهم أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم ليس للتحريم المطلق.
ثم النزاع الثالث على كلمة مس هل للمس أم الجماع فاختلفوا.
وكي نفض الاشتباك بين الطرفين نحتاج لتفكيك النزاعات الثلاث:
أما دعوى الخصوصية فتبطل لأنه يجرنا للقول بأن أخذ الجارية ليد النبي صلى الله عليه وسلم خصوصية أيضا، ولا يجوز لغيره فعل ذلك، فتخرج دعوى الخصوصية من النزاع.
وأما القول بأن الترك ليس للتحريم لقرينة صارفة كفعل الجارية، فهذا استدلال له وجه.
وأما النزاع على كلمة مس هل للمس ام الجماع فالغالب انها للمس ومما يساعدنا على اعتبار معنى اللمس أن المس كاصطلاح لغوي يعني اللمس، وكاصطلاح شرعي يعني الجماع وهو المعنى الوارد لكلمة المس في آيات القرآن الكريم، والغالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم بالمعنى اللغوي لأن الشريعة نصت على حكم الجماع وهو هنا الزنا بالرجم أو بالجلد وهي عقوبة شرعية تنفيذية،
ونص الحديث على الضرب بمخيط، أي إبرة الخياطة وهي عقوبة افتراضية غير تنفيذية للتحذير والتهويل والتخويف، وربما قصد منها ما يتداعى من لمس الرجل للمرأة كتسلط وسواس الشهوة الذي قد يجر للتعلق والتمني ويفتح بابا للفتنة بالتدريج.
ولأن العقوبة التنفيذية وهي الرجم أو الجلد أكثر قسوة من العقوبة الافتراضية وهي الضرب بإبرة خياطة، فكيف ينص على عقوبة الزنا بالأدنى الافتراضي مع وجود الأعلى التنفيذي؟؟
فيكون المنصوص عليه في الحديث غالبا هو عقوبة افتراضية للمس للأجنبية، بالمصافحة أو بأي كيفية أخرى
لأن الحديث لم يخصص المس بالمصافحة باليد بل جعله مطلقا فيدخل فيه كل مس لجسد الأجنبية وبأي كيفية.
وأما الاستدلالات العقلية التي استدل بها المحرمون فتزيدهم قوة وحجة على المجيزين وهي مقبولة عقلا ومنطقا ولها اعتبار قوي.
نعود بعد هذا التفكيك لمواضع النزاع فلم يتبقى معنا إلا دعوى عدم التحريم لقرينة صارفة، وهنا يمكن وضع تكييف فقهي لهذه القرينة بالحاجة أو الضرورة
والضرورة تقدر بقدرها ويشترط ان تكون معتبرة شرعا وليست فاسدة.
بالنظر بعد ذلك في فقه الواقع نجد الاختلاف الواضح في المجتمعات الإسلامية المعاصرة فمثلا في بلاد البدو، لا تسلم المرأة على الأجانب ولو كانوا أقارب وربما لا تراهم أصلا لأن لهم مجالس خاصة بعيدة عن النساء فهؤلاء يخرجون من النزاع.
يبقى من النزاع تلك المجتمعات التي نشأت فيها عادات دخيلة كسلام النساء على الأقارب من غير المحارم بسبب الاختلاط ودخول الرجال على النساء وعدم التحرج ولا التحوط، وذلك بسبب غلبة العادة على العبادة أو العرف على الشرع، فيندرج ذلك في العرف الفاسد الذي لا يُغالب الشرع، بل يقضي عليه الشرع بالغلبة والعلاج والرجوع إلى الالتزام بالأحكام، وإحياء السنة، ونشر الوعي، والثقافة الدينية، لا بالاستسلام له والإقرار به، ومحاولة تقنينه اجتماعياً، أو تكييفه شرعياً، وهذا خطأ يقع فيه بعض الدعاة أو العلماء، ومفاده: الاستسلام للواقع، ثم محاولة جعله حجة ودليلاً، ثم يُطوع له النصوص عن قصد أو بغير قصد ولكن لخلل في المنهج المعتمد للفتوى كأن يكون المنهج هو تبني التسهيل والتيسير على الناس بإقرارهم على كثير مما اعتادوه في حياتهم.
وأما دعوى الحرج الاجتماعي فليس ذلك بحجة على الشرع لأن الحرج الديني مقدم، والمسلم يحتال لإمضاء أحكام الدين، فإن أقبلت عليه امرأة ويتوقع أنها ستمد يدها للمصافحة، فعليه أن يبادر بأدب وذوق معلنا أنه لا يصافح ويطيب الخاطر ويشرح سبب ذلك.
فإن فاته التوقع وشعر بالحرج من رد يدها يستقبل يدها بحائل كثوب أو منديل أو يعطيها ذراعه بكُمِّ ثوبه.
وأذكر أن جدِّي لأمي وكان له مكانة ومحبة في القلوب، كان يزورنا فيأمر والدتي بأن تخبر النساء وحتى الفتيات بأنه لا يصافح، وهو رجل في السبعين من عمره، فيأتين ويسلمن عليه بالكلام فقط، وإن أصرت إحداهن على المصافحة صافحها بثوبه كحائل، وهذا ما يسمى في علم الشريعة: الضرورة تقدر بقدرها.
أما أمن الفتنة، فكيف تؤمن الفتنة؟!! والفتنة تحصل بمجرد النظر، وهي أشد باللمس والمس، وهي مستدعاة سريعا بين الشاب والشابة، وفي زمننا مع اشتداد الفتن وتلاطمها وانتشارها صارت الفتنة غير مأمونة حتى بين المحارم، فكيف بالأجانب؟؟!!، ففقه الواقع وملابساته على الأرض لا ينفك عن الفتوى.
إنما الحاجة المعتبرة شرعا لمس الطبيب للمريضة إذا لم تجد طبيبة في التخصص، وحمل المسعف للمرأة لإنقاذ حياتها، وحمل رجل المطافئ للمرأة إنقاذا لها من حريق، وإنقاذ الرجل للمرأة الغريقة، ولو كلفه الأمر أن يضع فمه على فمها لضخ الهواء وإنعاش القلب فلا حرج طالما أنها ضرورة، وأمثال ذلك.
هذه هي الحاجة المعتبرة شرعا، وليس من الشرع إقرار العرف الفاسد والاحتجاج به وإدخاله في باب الحاجات الشرعية، وهذا قد يقع من الفقيه بسلامة نية وقصد، وليس له من غاية سوى الاجتهاد السليم، لكن قد يقع الخلل في منهج الفتوى عنده دون أن يدري.
والخلاصة:
أن مصافحة المرأة حرام شرعا وفاتحة باب على فتنة لا تنتظر دعوة، ولا يُستثنى من ذلك إلا الحاجة المعتبرة شرعاً والتي تقدر بقدرها وضابطها: وقوع مفسدة في النفس أو في الدين أو في العرض أو في المال لا تندفع إلا بتدخل الرجل الأجنبي لإنقاذها ويدخل اللمس في ذلك تبعا لا أصلا، ويخرج من الحاجة الشرعية العرف الفاسد الناشئ عن عادات الناس الدخيلة المصادمة لأحكام الشريعة. والمسلم يحتال على العادات لإمضاء الشرع ولا يحتال على الشرع لإمضاء العادات. والله أعلم.
 
أعلى