العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

عدم الراحة لبعض الفتاوى

د. ياسر محمد جابر

:: مطـًـلع ::
إنضم
5 مارس 2023
المشاركات
119
الإقامة
قطر الدوحة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عمار الرشيدي
التخصص
فقه وأصول
الدولة
قطر
المدينة
الدوحة
المذهب الفقهي
الحنبلي
١١٧. أحب فتاوى أحد المشايخ على الفضائيات واليوتيوب، ولكن أحيانا لا يرتاح قلبي لبعض فتاويه ولا أدري أعمل بها أو لا، ومن ذلك فتواه بأن المرأة غير ملزمة بخدمة زوجها والزوج غير ملزم بعلاج زوجته. وكذلك فتواه بجواز الأكل من مال مختلط: حلال خالطه حرام. وذكر أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أجاز ذلك. فما رأيكم بارك الله فيكم؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فأما السؤال عن خدمة الزوجة لزوجها فقد أسلفنا الجواب عنه من قبل ونرسله إليك إن شاء الله تعالى.
وأما سؤالك عن الشيخ المفتي نفسه فنقول:
قد يكون الرجل عالما حذقا بليغا متمكنا ورغم ذلك تقع منه أخطاء في الفتوى لأنه ليس معصوما، ولتفاوت الفهم الحاضر بين القوة والضعف والتركيز والشرود، وحتى الحالة النفسية والذهنية تؤثر على المفتي، ثم فهمه للأدلة وترتيبها حسب الأولويات في الاستدلال. ثم قدرته على القياس الصحيح وتجنبه القياس مع الفارق. ثم قدرته على التكييف الفقهي للمسألة وإنزال النصوص على الواقع، ثم قدرته على التفصيل واستيعاب الاحتمالات. ثم كون خياله الفقهي واسعا أو ضيقا وهو ما يسمى بالملكة الفقهية.
أما سؤالك عن عدم استراحة قلبك فهذا شيء طيب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المؤمن أن يستفتي قلبه، والقلب الذي يفتي صاحبه هو القلب الذي فيه نور وفطرة سليمه، فإن استطاع قلبك أن يفتيك فبها ونعمت، وإن عجز قلبك عن الفتوى فتلتمس من يفتيك بالأدلة الصحيحة، ويبدأ في الاستدلال بكتاب الله وسنة رسوله ولا يتجاوزهما لغيرهما غفلة أو سهوا أو قصدا او استغناءً.
فإن كنت من أهل الاجتهاد وجب عليك ترك اختلاف العلماء والنظر بنفسك في المسألة وأدلتها والبحث عن الراجح فيها.
وإن كنت مقلدا فتقلد أكثر أهل العلم ثقة لا لعاطفة حب، بل لطلب حق.
ومن نافلة القول أن أقول أن العالم الحق ليس الذي يفتي العامة باختلافات من سبق وبثلاث او أربع أقوال في المسألة الواحدة ثم يترك العامة حيارى أمرهم لا يدرون أي الأقوال يختارون وبأيها يعملون. وإنما العالم الحق هو الذي يفتي العامة بالقول الواحد الراجح الذي يرجحه ويراه الأكثر صوابا وتضافرت الأدلة على دعمه. وليس العالم الحق أيضا الذي يفتي الناس في أعرافهم الواقعية الحالية بأعراف أمم قد خلت أو بأعراف أمم أخرى على النقيض تماما. فالعرف في الريف يختلف عنه في المدينة عنه في البادية عنه في دول الخليج عنه في دول الغرب ...الخ.
وأما سؤالك عن الأكل من المال المختلط فنرده إلى كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
﴿يا أَيُّهَا النّاسُ كُلوا مِمّا فِي الأَرضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيطانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبينٌ﴾
[البقرة: ١٦٨]
وقال تعالى:
﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كُلوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقناكُم وَاشكُروا لِلَّهِ إِن كُنتُم إِيّاهُ تَعبُدونَ ﴾
[البقرة: ١٧٢]
وقال تعالى:
﴿ يَسأَلونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُم قُل أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ﴾
[المائدة: ٤]
وفي السنة النبوية:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المُرسلين؛ فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون:51]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة:172]، ثم ذكر الرجلَ يُطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب له؟! رواه مسلم.
وعن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وأن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) رواه البخاري ومسلم.
وإذا أنزلنا نصوص الكتاب والسنة على مسألتك هذه: الأكل عند رجل ماله مختلط من الحلال والحرام، فنقول:
إذا تبين لك يقينا أن الطعام الذي ستأكل منه مقطوع بحرمته فلا يجوز لك الأكل منه لأنك قد علمت به هنا حراما بينا ولا يجوز لك أكل الحرام بعد علمك به.
وإذا تبين لك يقينا أن الطعام الذي ستأكل منه هو من مال حلال فيجوز لك الأكل منه ولو كان عنده مال آخر حرام لكنك علمت أن الطعام الحاضر قد اشتراه من ماله الحلال وقطعت يقينا بذلك، فلا إثم عليك أن تأكل منه.
مثال:
لو أنك ذهبت لصاحبك الذي يعمل في عصارة صباحا وطلبت منه مالا فقال لك انتظر حتى يرزقني الله، ثم رزقه الله مائةً تجارة حلال فأعطاها لك، أجائز لك أخذها أم لا؟!! يجوز لك ذلك لأنه مال حلال واضح الحِل.
ولو أنك احتجت مالا تقضي بك بعض شأنك فذهبت إلى صاحبك نفسه ليلا وهو يعمل في ملهى ليلي يقدم المحرمات من خمور ونحوها فقال لك انتظر حتى يأتينا رزق، فرُزق بمئةٍ، أكان جائزا لك أخذها وأنت غير مضطر ضرورة شرعية أم لا؟! لا يجوز لك ذلك لأنه مال حرام واضح الحرمة.
ثم نقول: إذا لم يتبين لك وجه الحرمة أو الحل كان ذلك من المشتبهات التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتقائها.
مثال: صاحبك الذي يعمل صباحا في عصارة وليلا في خمارة ثم يرجع إلى بيته ومعه المال الذي ربحه من التجارتين، وكنت أنت في انتظاره تسأله قرضا فأخرج لك كل ما معه من مال وأعطاك منه مائةً، وقد سبق في علمك أنه مال مختلط من عمل العصارة والخمارة معا، أيجوز لك أخذ شيء منه؟
هذا مال فيه شبهة لعدم القطع بحله ولعدم القطع بحرمته.
فاتقاء ذلك استبراء لدينك وذمتك، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أعلاه.
وأما سؤالك عن استدلال الشيخ بقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فنقول: إن كان الصحابي الجليل قد أجاز ذلك حقا وثبت عنه صدقا فيقدم عليه قول الله وقول رسوله، لأنه لا عصمة لأحد بعد الكتاب والسنة.
ولا أحد حجة على دين الله تعالى بعد الأنبياء المعصومين.
ثم إن ترتيب أولويات الاستدلال من صميم فقه العالم فلا يقدم قول الصحابي على الكتاب والسنة لأن في ذلك ضرر عظيم على فهم العامة من أربع جهات أو أكثر:
الأولى: جهلهم بدلالات كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: لو علموا بخطأ الصحابي اعتقدوا فيه ما لا يصح اعتقاده فندخل على العامة التلبيس في توقير الصحابة ومحبتهم.
الثالثة: ترسيخ تقديس الرجال وأن الحق يعرف بهم، بينما الصواب أن الرجال هم من يعرفون بالحق.
الرابعة: تسفيه المخالف المستدل بالقران والسنة ويقولون له: هل أنت تفهم ما يفهمه الصحابي؟
لذا ينبغي الاستدلال بالكتاب والسنة اولا ثم ما يوافق ذلك من أقوال الصحابة، وترك ما يخالف من أقوالهم رحمة بعقول العامة من الناس وحتى لا نضرهم في عقيدتهم في الصحابة الكرام.
والله تعالى أعلى وأعلم.
 
أعلى