العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

درجات التقاضي في الشريعة الإسلامية

د. ياسر محمد جابر

:: مطـًـلع ::
إنضم
5 مارس 2023
المشاركات
119
الإقامة
قطر الدوحة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عمار الرشيدي
التخصص
فقه وأصول
الدولة
قطر
المدينة
الدوحة
المذهب الفقهي
الحنبلي
٩٨. درجات التقاضي
ما هي درجات التقاضي في الشريعة الإسلامية؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ففقهاء الشريعة الإسلامية يضفون على أحكام القضاء قدراً كبيرا من الاحترام والإجلال ويسبغون عليها حجية وقوة خاصة، تفوق حجية الاحكام في القانون الوضعي، والأصل عند فقهاء الشريعة أن الحكم القضائي متى صدر أنهى النزاع الذي صدر بشأنه، وألزم طرفي الخصومة بمقتضاه، وتثبت له حجيته وقوته، لذلك نص الفقهاء على أنه ليس على الحاكم تتبع قضايا من كان قبله لأن الظاهر صحتها. وكذلك نص الفقهاء على أن الدعوى إذا فصلت مرة وحكم بها بمقتضى الشرع لا تنقض ولاتعاد، إلا أنه لم يغب عن فطنة الفقهاء المسلمين احتمال وقوع الخطأ في الحكم ومجانبة الحق، سواء في الحكم ذاته أو في فهم الوقائع وتقديرها، ولهذا نصوا على أن الحكم لا يستقر؛ بل ينقض إذا خالف نصاً في الكتاب أو السنة أو إجماع المسلمين أو قياساً جلياً، هو ما كانت العلة فيه منصوصة، أو قطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الفرع والأصل، وزاد الشافعي ما إذا كان الحكم قد خالف أوضح المعنيين، ويستوي أن ينقضه الحاكم الذي قضى به أو ينقضه غيره، وبهذا يكون فقهاء الشريعة الاسلامية قد أخذوا بمبدأ الطعن في الاحكام متى كانت مخالفة للكتاب والسنة أو الاجماع الجلي.
يقول ابن قدامة:" ولنا، على نقضه إذا خالف نصا أو إجماعا، أنه قضاء لم يصادف شرطه، فوجب نقضه، كما لو لم يخالف الإجماع، وبيان مخالفته للشرط، أن شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص، بدليل خبر معاذ، ولأنه إذا ترك الكتاب والسنة، فقد فرط، فوجب نقض حكمه، كما لو خالف الإجماع، أو كما لو حكم بشهادة كافرين".
وقد صرح بعض الفقهاء بجواز النظر في الحكم إذا وقع فيه خصومة حتى ولو كان صادرا من العالم العادل حيث قال:" ويجوز عرض قضاء العالم العدل إذا وقع في خصومة عند قاض آخر"، وإذا كان يجوز عرض قضاء العالم العادل إذا وقع فيه خصومة فقضاء غيره من باب أولى.
واستند القائلون بتعدد درجات التقاضي إلى الكتاب والسنة؛ ومن ذلك قول الحق سبحانه {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41]. دلت الآية بمفهوم المخالفة أن حكم غير الله تعالى يجوز تعقبه والتأكد من صحته.
وكقوله تعالى {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)} [الأنبياء: 78، 79]، وفيه نقض سليمان عليه السلام لحكم أبيه، وإقرار الحق سبحانه وتعالى لفعله، وثناؤه عليهما.
كما وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تشمل تطبيقا لمبدأ التقاضي على درجتين.
فقد دلت السنة على جواز عرض الحكم على قاض آخر لمجرد عدم قناعة أحد الخصوم بما توصل إليه القاضي الأول، وذلك في حادثة الزبيّة حيث عرضت القضية على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما قضى فيها على بن أبى طالب رضى الله عنه، فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم ما قضى به على رضى الله عنه. ومنه يتضح تأييد حق الخصوم في عرض النزاع مرة ثانية أمام قاض أعلى، إذا لم يرض أحد الخصوم بالحكم. ويتضح كذلك أن (نظام القضاء الإسلامي قد أجاز التظلم من الحكم أمام سلطة أعلى لمجرد عدم الرضا به، ولتقول تلك السلطة كلمتها فيه، سواء من ناحية الواقع أو من ناحية الشرع، ولا يعني استئناف الحكم الذي عرفته النظم الوضعية أخيراً إلا هذا).
ومن ذلك أيضاً؛ كتاب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما، وفيه:" ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".
وقد أجاز الفقهاء – رحمهم الله – نقض حكم القاضي بالكلية في أحوال كثيرة منها قضاؤه وهو فاقد لشرط الولاية وقضاؤه فيما هو غير صالح للقضاء فيه، وقضاؤه بلا دعوى صحيحة، وقضاؤه في غير اختصاصه، وقضاؤه بناء على بينة باطلة لا تصلح للقضاء بها، وثبوت الشهادة التي بنى عليها شهادة زور. ويجيز علماء الشرع لأي قاض أن يرفع إليه نقضه، والنقض هنا يستوجب من القاضي بحث القضية من جديد من كل جوانبها، وهذه هي وظيفة محاكم الاستئناف في الأنظمة المعاصرة .ولقد كان لقاضي القضاة في صدر الإسلام تدقيق الاحكام الصادرة من قضاة الأقاليم والامصار، بدءا من أبي يوسف صاحب أبي حنيفة النعمان، وذلك في الخلافة العباسية في عهد هارون الرشيد.
والنصوص في هذا الشأن كثيرة وحسبنا ما اقتطفناه استدلالا وتأكيدا على أن تعدد درجات التقاضي كان له وجود في الفقه الاسلامي بل وله أصول من الكتاب والسنة. والله اعلم.
 
أعلى