العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

القياس الفقهي

إنضم
5 مارس 2023
المشاركات
207
الإقامة
قطر الدوحة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عمار الرشيدي
التخصص
فقه وأصول
الدولة
قطر
المدينة
الدوحة
المذهب الفقهي
الحنبلي
٤٩. ما المقصود بالقياس في المستجدات والنوازل؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛
فموضوع القياس يمثل مفتاحاً في العلوم المعاصرة للحكم على المستجدات والنوازل الجديدة؛ لأن العلوم المتجددة لا تعُرف ولا تُفهم ولا تُحصل بدون قياس، لأنك في العلم الجديد تقيس المجهول على المعلوم. لماذا؟ لأن المعلوم القديم معلوم حُكمه بعد أن علمت ماهيته، أما المعلوم الجديد فربما لا تعلم ماهيته ولا تعلم حكمه، فيُبحث في ماهيته أولا، فإذا حددت ماهيته بدأنا نبحث عن ماهية قديمة مشابهة له كقياس. لماذا؟
حتى نقيس الماهية الجديدة على الماهية القديمة، ونأخذ حكم القديمة نلصقه بالجديدة، أو نسقطه على الجديدة، فيأخذ نفس الحكم، فنكون بذلك قد توصلنا إلى ماهية الشيء وحكمه بعد أن كان مجهولاً، ومثال ذلك: الحساب الجاري في البنك، لو أنك سألت واحداً من كل ألف، عن ماهية الحساب الجاري قد لا يعطيك الجواب الصحيح، ولما أرادوا أن يعرفوا الحساب الجاري هذا حلال أو حرام أو من المشتبهات، فأهل الشريعة لا يعرفون المعاملات المالية الوظيفية، فقالوا لأهل المال: صفوا لنا ماهية الحساب الجاري، فقالوا: شخص يأتي ويعطي البنك مبلغا من المال، ويقول له أريد أن أحافظ فقط على هذا المبلغ دون فوائد عندكم، خوفاً من الضياع، فالبنك هنا حارس، دوره يحرس هذا المال، ليرده على صاحبه بدون فائدة، بل العكس يأخذ مقابل على حراسته.
علماء الفقه قالوا ما أكثر قضية قديمة من المعاملات المالية التي كانت في زمن الوحي، وزمن الصحابة، تشبه هذا الحساب الجار ، الآن الدور انتقل من أهل المال إلى أهل الشرع، فبدأوا يبحثون ويعملون مؤتمرات علمية، والاساتذة الباحثين يقدمون بحوث متعددة في هذا الموضوع، ليس أمرا سهلاً ، إلى أن توصلوا من مجموع المناقشات والبحوث العلمية والمداولات إلى أن الحساب الجاري يشبه في زمن الوحي القرض، قالوا كيف؟ قالوا القرض معناه أنك تأخذ من شخص مالا لترده بدون فائدة، وهو حارس على هذا المال وأمين عليه إلى أن يرده، نفس النظام في الحساب الجاري، أنت تعطيه مالا وهو حارس عليه إلى أن يرده إليه في الأجل المعلوم وبدون فائدة، نفس الصفات هناك نفس الصفات هنا، نفس الماهية هناك نفس الماهية هنا، قد يكون فيه شيء من الاختلاف لكنه اختلاف النية، ومن الاختلاف أن القرض هو أخذ المال لحاجة معينة عند طالب المال، بينما البنك لم يطلب مالا وليس لحاجة البنك إلى المال، بل لحاجة صاحب المال لحفظ ماله، فالوضع معكوس بين القرض والحساب الجاري، لكنهما يتشابهان في أخذ المال ورده بلا فائدة، وتستطيع أن تسحب المال في أي لحظة، بينما القرض لا يستطيع فيه صاحب المال أن يرده إلا بعد مرور مدة.
فالعلماء أخذوا حكم القرض وأعطوه للحساب الجاري، وهو أنه كما لا يجوز في القرض الفائدة ويحرم فيها الفائدة شرعاً، فلا يجوز شرعاً في الحساب الجاري الفائدة كذلك؛ فلو أعطى البنك فائدة على الحساب الجاري؛ فحكمها الشرعي أنها رباً محرم.
فهل للمعيارية أو القياس أنواع أو مستويات؟
نعم، القياس بالفعل أنواع، هناك قياس المثل، قياس الشيء على نظيره، مثلاً: امرأة عُقد عليها ولم تدخل، وسُمي لها مهر، فإذا هي لم تدخل فلها نصف المهر، إذا عُقد عليها ولم تدخل تستحق نصف المهر، وإذا دخلت تستحق المهر كاملاً، وإذا لم يحدث في الاتفاق تسمية للمهر، ولا تحديد لقدره ولا مقداره ولا كمه ولا كيفه، ثم اختلفوا بعد ذلك عليه، فطلبت العروس مهراً مليون دولار أو مليون ريـال، والعريس قال هذا مبلغ مبالغ فيه جداً؛ فكيف نفض هذا النزاع؟ فذهبوا إلى قاضي أو محكم، كيف يحكم في هذه المسألة؟ إذا كان العروس تدعي أنها تستحق مليون ريال، وهو يدعي أنها لا تستحق أكثر من مائة ألف، نأخذ برأي العروس أو برأي العريس، قلنا هنا الحكم الشرعي هو قياس المثل، ما هو قياس المثل؟ تقاس العروس في مهرها على مهر مثيلاتها، ومن هن؟ أختها إن كانت لها أخت تزوجت من قبل، أو ابنة عمها، ابنة خالتها، ابنة خالها، قريباتها، وليس قريباتها في بلاد أخرى، بل في بلدها، لان ممكن قريبتها التي في بلد أخرى، تخضع لعرف خاص بهذا البلد، قريباتها المتزوجات في نفس البلد، بالعرف الذي صار عليهن جميعاً، فنأخذ المعلوم لنستفيد منه في المجهول، فلما اطلع القاضي وسأل وتحرى واطلع على عقود زواج مختلفة: عقد لأختها وعقد لابنة عمها، وجدوا أن مهرهن مثلا كان قريبا من مئتي ألف ريال، يعني خمس المبلغ المطلوب، وأكثر من مبلغ العريس الذي ذكره وهو مئة ألف، فحَكم القاضي لها بأنها لا تستحق إلا مائتي ألف ريال مهراً.
والسؤال: هل السند الشرعي في هذه القضية هو حكم استنباطي من القاضي أو حكم قياس أو من وحي القاضي وليس على استناد شيء شرعي، هل في مرجعية شرعية دينية موجودة يستند عليها الحكم؟
نعم، المرجعية هي القواعد الفقهية التي استنبطها علماء الأمة على مدار ألف وأربعمائة سنة، ومن ضمن هذه القواعد: قواعد تقول إن العادة محكمة، والعرف كالشرع، ما لم يخالفه، العرف كالشرع ما لم يخالف الشرع، ما الدليل على أن العرف معتبر وهو كالشرع؟ قوله تعالى:(خذ العفو وأمر بالعرف)، أي احكم بما تعارف عليه الناس، إذا لم تجد نصا في القرآن أو في الوحي؛ فاحكم بأعراف الناس الصحيحة، طالما أنها لا تصطدم مع النص.
مثلاً: لو كان في عرف يقول إن الزوجة هي التي تدفع مهر للزوج، نقول هذا عرف باطل، لأنه يصطدم مع الشرع؛ لأن الشرع هو الذي أوجب على الرجل أن يدفع المهر، فهذا عرف مردود، وفي قصة غريبة - لعلنا ندعم الكلام ببعض الموالح - أن امرأة في الهند استطاعت ببراعة أن تمثل دور رجل، وتزوجت أربع نساء، واخذت اربع مهور، تصنعت أنها رجل بملابس رجل وصوت رجل ولحية رجل، وذهبت وعقدت وتزوجت وبعدما تأخذ المهر تطلقها، ولا تظهر لها أنها امرأة مثلها.
مثال آخر على قياس المثل: الخادمة في المنزل، إذا تزوجت الزوجة وقالت أريد خادمة وقال لها الزوج لن أحضر لك خادمة، وتنازعا حتى وصل الأمر إلى القاضي، وقالت الزوجة إما خادمة وإما اتطلق، وقال الزوج لا خادمة ولا طلاق، يعني لن أحضر لك خادمة ولن أطلقك، فذهبا إلى القاضي، القاضي يحكم في هذه المسألة بقياس المثل، فيسأل ويتحرى:
أختك عندها خادمة؟ لا، أمك من قبل كان عندها خادمة؟ لا، بنت عمك؟ لا، بنت خالتك؟ بنت خالك؟ لا، طيب الجيران عندهم خادمات؟ لا. إذن لا يحق لك خادمة.
طيب أريد أن أُطَلق. لا ليس من حقك الطلاق. أنت زوجته. اعملي خلع إن شئت وردي عليه ما أنفقه عليك. وقد ترفض دعوى الخلع لو كانت بسبب طلبها لخادمة.
النوع الثاني من القياس: قياس الأولى
قياس الأولى من أين أتى؟
هو قاعدة استنبطها العلماء، ومصدرها القرآن، أين هو في القرآن، قال الله تعالى:(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، الآية نصت على قول أف، لكن هل الآية نصت على حكم الضرب؟ لا، هل في آية في القرآن تنص على حكم ضرب الوالدين؟ لا يوجد، فقد يقول قائل: أنا أريد أضرب أبويّ، وما في آية في القرآن تحرم هذا، كيف نرد عليه؟ نقول إذا حرم القرآن قول أف؛ فبقياس الأولى يكون الضرب مُحرماً تحريما أكبر وأشد، إذن فالدليل موجود وليس غائباً، (فلا تقل لهما أف) والأف أقل من الضرب.
النوع الثالث من القياس: القياس مع الفارق، لاختلاف العلة.
وأول من قاس من المخلوقات، قياسا مع الفارق كان إبليس، قال عن آدم عليه السلام، هذا مخلوق من طين وأنا مخلوق من نار، هكذا استخدم القياس، لكنه قياس خاطئ يسمى قياس مع الفارق لفارق التشابه بين الطين والنار، هو رأى النار أحسن من الطين لشفافية النار، فقال كيف النار تسجد للطين ما يصح، لكن قياسه هذا في بناء الحقيقة والمعرفة يعد باطلاً، هو قياس منطقي قياسي سليم في ظاهره، خاطئ في جوهره.
الله تعالى هو الذي خلق السماوات والارض، وخلق النار وخلق الطين، وهو وحده من يقول مَن أفضل مِن مَن، وهو الصانع الخالق، والطين فيه نمو، والنار تحرق، الطين يبني، النار تهدهم، الطين يخرج النبات ويخرج الزرع ويخرج الكلأ ويخرج... ويخرج... إذا لو حق لأحد أن يتفاخر على أحد، لحق لآدم أن يتفاخر على إبليس، ولكن النار أقوى، وأكثر شفافية، إذن طالما حصل نزاع في التفاخر، نرد الأمر إلى الخالق إلى الله تعالى، رب الطين والنار.
ثم إن إبليس ترك قياس الأولى وهو قياس النار على النور، فالملائكة من نور وسجدت لآدم، والنور أعظم من النار، فبقياس الأولى تسجد النار كما سجد النور، لكنه ترك قياس الأولى وانشغل بقياس الفارق؛ قياس النار على الطين، فزل وضل وأضل، وخرج من رحمة الله تعالى، وبقياسه هذا أحرج البشرية وأدخل الدنيا كلها في ضيق، طبعاً هي أمور قدرية لكن الشيطان كان سببا، والعجيب أنه لم يكن من الملائكة أصلاً، فربنا سبحانه وتعالى يقول:(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) الكهف، كان الأمر للملائكة وإبليس كان من الجن ، يعني ابليس غير مقصود بالأمر، ولكن كان في حضرتهم، هو كان في حضرة الملائكة، يعني كان في معيتهم، مثلاً، ولله المثل الأعلى، مثل المدرس دخل الفصل، كل الذين في الفصل هم تلاميذ للمعلم، إلا ولد جاء مع صاحبه، التلاميذ كلهم قاموا ما عدا هو، فانتبه له المعلم فقال له لماذا لم تقم؟ فقال له انا لست تلميذاً عندك، إنما أنا ضيف، المدرس قال له أنت ضيف فمرحبا بك، ولم تحدث مشكلة، أما إذا قال: ولماذا أقوم لك أنا لا أقوم لمثلك، أنا خير منك، فهذا يسمى تكبراً، سيقول له المعلم اخرج من الفصل، ويطرده أو يضربه، إذن رده جلب له المصيبة، لكن لو قال إبليس يا ربي أنت أمرت الملائكة، وما دريت أن الأمر لي لأنني من الجن، أنت قلت يا ملائكتي اسجدوا لآدم، وأنا لست من الملائكة، لو كان الجواب هكذا لظل الشيطان في رحمة الله إلى يوم القيامة، لكن الأمور قدرية، ولله منها حكمة.
والسؤال: هل هناك فرصة لإبليس ليتوب؟
رُوي في بعض الآثار التي ليس لها سند، لكن يُستأنس بها، أن إبليس ذهب إلى سيدنا موسى عليه السلام، وقال له يا موسى، أنت كليم الله، قل لله تعالى يتوب عليّ ويقبل توبتي، فقال أفعل، فقال يا رب إبليس يطلب التوبة، وأنت التواب الرحيم، قال نعم يا موسى، إذا صح هذا الخبر طبعا، قال له يا موسى قل له يذهب إلى قبر آدم ويسجد له وأنا أتوب عليه، فرصة أخرى لإبليس، أنت تتوب فقط؟ لا، بل تتوب وتصلح، التوبة لها شروط، الندم والإقلاع وإصلاح ما فات، فذهب سيدنا موسى إليه، وقال له إن الله يقبل توبتك بشرط أن تسجد لآدم عند قبره، قال لم أسجد له حيا أسجد له ميتاً، لا أفعل أبداً، فإبليس إذن مطبوع على قلبه، الفرصة الثانية ردها إذا صح الخبر، هذا يحدث مع ناس كثيرين، يضيعون الفرص، فهو عمى بصيرة، نسأل الله ألا نكون منهم، آمين.
 
أعلى