د. ياسر محمد جابر
:: مشارك ::
- انضم
- 5 مارس 2023
- المشاركات
- 240
- الإقامة
- قطر الدوحة
- الجنس
- ذكر
- الكنية
- أبو عمار الرشيدي
- التخصص
- فقه وأصول
- الدولة
- قطر
- المدينة
- الدوحة
- المذهب الفقهي
- الحنبلي
تفنيد شبهة التنصيف في عقوبة الإماء
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسول الله وبعد؛
فيما يستدل به المنكرون لحكم الرجم كون الرجم لا ينتصف، والمحصنة إذا زنت فإنها تجلد بزعمهم مائة جلدة ليكون على الأمة نصفها كما في قوله تعالى: ﴿.. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ النساء ٢٥.
والسؤال:
هل كلمة محصنة في الآية مقصود بها المتزوجة أم الحرة قبل الزواج؟
وما الدليل على هذا أو ذاك؟
أولاً
معنى (المحصنات)
بدلالة
السياق والمقابلة
بماذا تفيدنا دلالة السياق والمقابلة في الآية الكريمة؟!
قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(2).
يتضح أن المراد من المحصنات في هذه الآية هن الحرائر غير المتزوجات في مقابل الفتيات غير الحرائر، وهنَّ الإماء في الآية، ونصفُ ما على الحرائر غير المتزوجات هو الخمسين جلدة وليس نصف الرجم!!
ما الدليل على انَّ المراد من المحصنات في الآية المباركة هو الحرائر غير المتزوِّجات؟!
الدليل أن الله تعالى أطلق لفظ المحصنات على الحرائر قبل الزواج في أكثر من موضع في القرآن الكريم، بصريح الدلالة أو بدلالة السياق، أو بالمقابلة، ومن ذلك صدر (بداية) الآية المباركة التي معنا الآن من سورة النساء وسياقها، لاحظ:
(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)
سماهن الله محصنات وهن لا يزلن بكورا غير متزوجات بعد، وإلا لو كان المعنى من كلمة المحصنات: المتزوجات، لكان المعنى: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المتزوجات.
فهل الرجال يتزوجن من المتزوجات؟!!!
بالطبع لا، بل من البكور، فهل السياق على معنى آخر مختلف كانت العرب تستعمله، وهو الحرائر. والمرأة الحرة تسمى بالمحصنة تمييز لها عن الأمة.
ومما يؤكد هذا المعنى وأنه هو المراد، المقابلة التي جاءت في نفس الآية بين كلمة المحصنات، وكلمة الفتيات، أي الإماء، في سياق فعل مستقبلي سيكون وهو الزواج، فديت المقابلة بينهما أنه كما أن المقصود هن الإماء (الفتيات) قبل الزواج، فكذلك المقصود هن البكور الحرائر (المحصنات) قبل الزواج.
فناسب في نهاية الآية أن يكون عقاب الأمة غير الحرة نصف عقاب البكر الحرة.
ثانياً
معنى المحصنات والمحصنة في مواضع قرآنية أخرى
سؤال: هل ثمة شبيه لذلك في مواضع أخرى من القرآن؟
والجواب أن القرآن استعمل مادة الإحصان وكلمة المحصنات في معانٍ عديدة، وكلُّ معنىً يُعرف بواسطة القرائن المكتنفة به، والسياق الوارد فيه، ومن ذلك:
قولة تعالى:
﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ..﴾ التحريم. فالإحصان في هذه الآية يعني العفَّة، لوضوح انَّ السيدة مريم عليخا السلام، لم تكن متزوِّجة.
وقوله تعالى في سورة المائدة:
﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ..﴾ المائدة.
فهذه الآية استعملت المحصنات من المؤمنات والمحصنات من أهل الكتاب في غير المتزوِّجات من الحرائر، لأنَّ مَن يحلُّ نكاحهن والتزوُّج منهنَّ هو خصوص غير المتزوِّجات.
ثالثاً
الدلالة في
قرينة المقابلة
والقرينة الأخرى على إرادة غير المتزوِّجات هي قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ ومعنى الأجور هو المهور، فالآية تتحدَّث عمَّن يحلُّ نكاحهن، فيتعيَّن انَّ مراده من المحصنات هو غير المتزوِّجات.
ثم قال تعالى: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ ومعنى الإحصان هو العفَّة عن الزنا، وذلك بقرينة المقابلة مع السفاح والذي هو الزنا كما هو واضح.
وبما ذكرناه يتَّضح انَّ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ لا يصلح نقضاً على ما هو ثابت من انَّ حدَّ الزانية المتزوِّجة هو الرجم، وذلك لأنَّ المقصود من ثبوت نصف الحدِّ على الأمة الزانية هو نصف الحدِّ الثابت على الزانية الحرَّة غير المتزوِّجة، وحيثُ انَّ الحدَّ الثابت على الزانية الحرَّة غير المتزوِّجة هو الجلد مائة جلدة فيكون نصفُ الحدِّ هو الخمسين جلدة، وليس هو نصف الموت.
رابعاً
إشكالية
النص القرآني
وأما الإشكال بأنَّ القرآن الكريم لم يتعرَّض لحدِّ الرجم فهو اشكال واهٍ، إذ انَّ أكثر تفاصيل الأحكام لم يتصدَّ القرآن لبيانها وإنَّما أُوكِل ذلك للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقال جلَّ وعلا: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الحشر.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ..﴾ الأنفال.
فكما يجب على المكلَّف التعبُّد والامتثال للتشريعات الواردة في القرآن فكذلك يجب عليه التعبُّد والامتثال للتشريعات الصادرة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم طالما وصلتنا بالخبر الصحيح الثابت، لأنَّ مصدر كلِّ من القرآن والسنَّة النبويَّة الشريفة هو الوحي الإلهي كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ النجم.
خامساً
الرجم في
السنة النبوية
قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة بن الصامت: خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال عمر: إن الله قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالا من الله، والله عزيز حكيم. متفق عليه.
وعن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال: كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، فكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة، صحيح ابن حبان. قال البيهقي في سننه، بعد ذكر الأحاديث الواردة في ذلك: في هذا وما قبله دلالة على أن آية الرجم حكمها ثابت وتلاوتها منسوخة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا.
خامساً
الرجم وقع
عملا وفعلا
أخرج البخاري عن جابر ـ رضي الله عنه ـ: أن رجلا من أسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: إنه قد زنى فأعرض عنه فتنحى لشقه الذي أعرض فشهد على نفسه أربع شهادات، فدعاه فقال: هل بك جنون؟ هل أحصنت؟ قال نعم فأمر به أن يرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة جمز حتى أدرك بالحرة فقتل.
وأخرج البخاري أيضا عن الشعبي لحديث علي ـ رضي الله عنه ـ حين رجم المرأة يوم الجمعة وقال: قد رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج البخاري كذلك من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت، قال: لا يا رسول الله، قال: أنكتها! لا يكني، قال: فعند ذلك أمر برجمه.
وأخرج مسلم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قال عليه الصلاة والسلام: واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت.
وفي البخاري عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم، فقالوا نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام أرفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم.
سادساً
إجماع الصحابة على حكم الرجم
قال النووي: أجمع العلماء على أن الرجم لا يكون إلا على من زنى وهو محصن، وأجمعوا على أنه إذا قامت البينة بزناه وهو محصن يرجم. اهـ
وقد نقل الإجماع عليه ابن قدامة: الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة: أحدهما في وجوب الرجم على الزاني المحصن، رجلا كان أو امرأة، وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولا نعلم فيه مخالفا إلا الخوارج فإنهم قالوا: الجلد للبكر والثيب.
وقال العيني في عمدة القاري عند شرحه لحديث عمر: قوله: بترك فريضة أنزلها الله أي في الآية المذكورة التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها، وقد وقع ما خشيه عمر ـ رضي الله تعالى ـ عنه فإن طائفة من الخوارج أنكروا الرجم، وكذا بعض المعتزلة أنكروه. انتهى
وقال: ومعنى قول الله عز وجل: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)، أي: الأبكار دون من قد أحصن (تزوج)، وأما المحصن فحده الرجم إلا عند الخوارج، ولا يعدهم (لا يعتبر قولهم) العلماء خلافا لجهلهم، وخروجهم عن جماعة المسلمين.
يقول ابن عبد البر أيضاً: " وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصنين، فممن رجم ماعز الأسلمي، والغامدية، والجهنية، والتي بعث إليها أنيسا".
ويقول: " ورجم عمر بن الخطاب سخيلة بالمدينة، ورجم بالشام، وقصة الحبلى التي أراد رجمها فقال له معاذ بن جبل: ليس لك ذلك؛ للذي في بطنها، فإنه ليس لك عليه سبيل،
وعرض مثل ذلك لعثمان بن عفان مع عليٍّ في المجنونة الحبلى.
ورجم عليٌّ شراحة الهمدانية،
ورجم أيضا في مسيره إلى صفين رجلا أتاه مقرا بالزنا،
وهذا كله مشهور عند العلماء.
سابعاً
قول الخوارج والمعتزلة
قال ابن عبد البر رحمه الله:
" وأما أهل البدع من الخوارج والمعتزلة فلا يرون الرجم على أحد من الزناة ثيبا كان أو غير ثيب، وإنما حد الزناة عندهم الجلد، الثيب وغير الثيب سواء عندهم، وقولهم في ذلك خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف سبيل المؤمنين، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء بعده، وعلماء المسلمين في أقطار الأرض متفقون على ذلك من أهل الرأي والحديث، وهم أهل الحق.
..................
نسأل الله رب العباد
سلامة القصد والاعتقاد
والحمد لله رب العالمين
وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسول الله وبعد؛
فيما يستدل به المنكرون لحكم الرجم كون الرجم لا ينتصف، والمحصنة إذا زنت فإنها تجلد بزعمهم مائة جلدة ليكون على الأمة نصفها كما في قوله تعالى: ﴿.. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ النساء ٢٥.
والسؤال:
هل كلمة محصنة في الآية مقصود بها المتزوجة أم الحرة قبل الزواج؟
وما الدليل على هذا أو ذاك؟
أولاً
معنى (المحصنات)
بدلالة
السياق والمقابلة
بماذا تفيدنا دلالة السياق والمقابلة في الآية الكريمة؟!
قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(2).
يتضح أن المراد من المحصنات في هذه الآية هن الحرائر غير المتزوجات في مقابل الفتيات غير الحرائر، وهنَّ الإماء في الآية، ونصفُ ما على الحرائر غير المتزوجات هو الخمسين جلدة وليس نصف الرجم!!
ما الدليل على انَّ المراد من المحصنات في الآية المباركة هو الحرائر غير المتزوِّجات؟!
الدليل أن الله تعالى أطلق لفظ المحصنات على الحرائر قبل الزواج في أكثر من موضع في القرآن الكريم، بصريح الدلالة أو بدلالة السياق، أو بالمقابلة، ومن ذلك صدر (بداية) الآية المباركة التي معنا الآن من سورة النساء وسياقها، لاحظ:
(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)
سماهن الله محصنات وهن لا يزلن بكورا غير متزوجات بعد، وإلا لو كان المعنى من كلمة المحصنات: المتزوجات، لكان المعنى: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المتزوجات.
فهل الرجال يتزوجن من المتزوجات؟!!!
بالطبع لا، بل من البكور، فهل السياق على معنى آخر مختلف كانت العرب تستعمله، وهو الحرائر. والمرأة الحرة تسمى بالمحصنة تمييز لها عن الأمة.
ومما يؤكد هذا المعنى وأنه هو المراد، المقابلة التي جاءت في نفس الآية بين كلمة المحصنات، وكلمة الفتيات، أي الإماء، في سياق فعل مستقبلي سيكون وهو الزواج، فديت المقابلة بينهما أنه كما أن المقصود هن الإماء (الفتيات) قبل الزواج، فكذلك المقصود هن البكور الحرائر (المحصنات) قبل الزواج.
فناسب في نهاية الآية أن يكون عقاب الأمة غير الحرة نصف عقاب البكر الحرة.
ثانياً
معنى المحصنات والمحصنة في مواضع قرآنية أخرى
سؤال: هل ثمة شبيه لذلك في مواضع أخرى من القرآن؟
والجواب أن القرآن استعمل مادة الإحصان وكلمة المحصنات في معانٍ عديدة، وكلُّ معنىً يُعرف بواسطة القرائن المكتنفة به، والسياق الوارد فيه، ومن ذلك:
قولة تعالى:
﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ..﴾ التحريم. فالإحصان في هذه الآية يعني العفَّة، لوضوح انَّ السيدة مريم عليخا السلام، لم تكن متزوِّجة.
وقوله تعالى في سورة المائدة:
﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ..﴾ المائدة.
فهذه الآية استعملت المحصنات من المؤمنات والمحصنات من أهل الكتاب في غير المتزوِّجات من الحرائر، لأنَّ مَن يحلُّ نكاحهن والتزوُّج منهنَّ هو خصوص غير المتزوِّجات.
ثالثاً
الدلالة في
قرينة المقابلة
والقرينة الأخرى على إرادة غير المتزوِّجات هي قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ ومعنى الأجور هو المهور، فالآية تتحدَّث عمَّن يحلُّ نكاحهن، فيتعيَّن انَّ مراده من المحصنات هو غير المتزوِّجات.
ثم قال تعالى: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ ومعنى الإحصان هو العفَّة عن الزنا، وذلك بقرينة المقابلة مع السفاح والذي هو الزنا كما هو واضح.
وبما ذكرناه يتَّضح انَّ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ لا يصلح نقضاً على ما هو ثابت من انَّ حدَّ الزانية المتزوِّجة هو الرجم، وذلك لأنَّ المقصود من ثبوت نصف الحدِّ على الأمة الزانية هو نصف الحدِّ الثابت على الزانية الحرَّة غير المتزوِّجة، وحيثُ انَّ الحدَّ الثابت على الزانية الحرَّة غير المتزوِّجة هو الجلد مائة جلدة فيكون نصفُ الحدِّ هو الخمسين جلدة، وليس هو نصف الموت.
رابعاً
إشكالية
النص القرآني
وأما الإشكال بأنَّ القرآن الكريم لم يتعرَّض لحدِّ الرجم فهو اشكال واهٍ، إذ انَّ أكثر تفاصيل الأحكام لم يتصدَّ القرآن لبيانها وإنَّما أُوكِل ذلك للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقال جلَّ وعلا: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الحشر.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ..﴾ الأنفال.
فكما يجب على المكلَّف التعبُّد والامتثال للتشريعات الواردة في القرآن فكذلك يجب عليه التعبُّد والامتثال للتشريعات الصادرة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم طالما وصلتنا بالخبر الصحيح الثابت، لأنَّ مصدر كلِّ من القرآن والسنَّة النبويَّة الشريفة هو الوحي الإلهي كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ النجم.
خامساً
الرجم في
السنة النبوية
قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة بن الصامت: خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال عمر: إن الله قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالا من الله، والله عزيز حكيم. متفق عليه.
وعن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال: كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، فكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة، صحيح ابن حبان. قال البيهقي في سننه، بعد ذكر الأحاديث الواردة في ذلك: في هذا وما قبله دلالة على أن آية الرجم حكمها ثابت وتلاوتها منسوخة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا.
خامساً
الرجم وقع
عملا وفعلا
أخرج البخاري عن جابر ـ رضي الله عنه ـ: أن رجلا من أسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: إنه قد زنى فأعرض عنه فتنحى لشقه الذي أعرض فشهد على نفسه أربع شهادات، فدعاه فقال: هل بك جنون؟ هل أحصنت؟ قال نعم فأمر به أن يرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة جمز حتى أدرك بالحرة فقتل.
وأخرج البخاري أيضا عن الشعبي لحديث علي ـ رضي الله عنه ـ حين رجم المرأة يوم الجمعة وقال: قد رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج البخاري كذلك من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت، قال: لا يا رسول الله، قال: أنكتها! لا يكني، قال: فعند ذلك أمر برجمه.
وأخرج مسلم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قال عليه الصلاة والسلام: واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت.
وفي البخاري عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم، فقالوا نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام أرفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم.
سادساً
إجماع الصحابة على حكم الرجم
قال النووي: أجمع العلماء على أن الرجم لا يكون إلا على من زنى وهو محصن، وأجمعوا على أنه إذا قامت البينة بزناه وهو محصن يرجم. اهـ
وقد نقل الإجماع عليه ابن قدامة: الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة: أحدهما في وجوب الرجم على الزاني المحصن، رجلا كان أو امرأة، وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولا نعلم فيه مخالفا إلا الخوارج فإنهم قالوا: الجلد للبكر والثيب.
وقال العيني في عمدة القاري عند شرحه لحديث عمر: قوله: بترك فريضة أنزلها الله أي في الآية المذكورة التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها، وقد وقع ما خشيه عمر ـ رضي الله تعالى ـ عنه فإن طائفة من الخوارج أنكروا الرجم، وكذا بعض المعتزلة أنكروه. انتهى
وقال: ومعنى قول الله عز وجل: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)، أي: الأبكار دون من قد أحصن (تزوج)، وأما المحصن فحده الرجم إلا عند الخوارج، ولا يعدهم (لا يعتبر قولهم) العلماء خلافا لجهلهم، وخروجهم عن جماعة المسلمين.
يقول ابن عبد البر أيضاً: " وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصنين، فممن رجم ماعز الأسلمي، والغامدية، والجهنية، والتي بعث إليها أنيسا".
ويقول: " ورجم عمر بن الخطاب سخيلة بالمدينة، ورجم بالشام، وقصة الحبلى التي أراد رجمها فقال له معاذ بن جبل: ليس لك ذلك؛ للذي في بطنها، فإنه ليس لك عليه سبيل،
وعرض مثل ذلك لعثمان بن عفان مع عليٍّ في المجنونة الحبلى.
ورجم عليٌّ شراحة الهمدانية،
ورجم أيضا في مسيره إلى صفين رجلا أتاه مقرا بالزنا،
وهذا كله مشهور عند العلماء.
سابعاً
قول الخوارج والمعتزلة
قال ابن عبد البر رحمه الله:
" وأما أهل البدع من الخوارج والمعتزلة فلا يرون الرجم على أحد من الزناة ثيبا كان أو غير ثيب، وإنما حد الزناة عندهم الجلد، الثيب وغير الثيب سواء عندهم، وقولهم في ذلك خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف سبيل المؤمنين، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء بعده، وعلماء المسلمين في أقطار الأرض متفقون على ذلك من أهل الرأي والحديث، وهم أهل الحق.
..................
نسأل الله رب العباد
سلامة القصد والاعتقاد
والحمد لله رب العالمين
وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
