العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مأزق تحقيق التَّوازن في عناوين الرَّسائل العلميَّة بين الجاذبيَّة الإبداعيَّة والمتطلَّبات الأكاديميَّة

انضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,687
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
مأزق تحقيق التَّوازن في عناوين الرَّسائل العلميَّة بين الجاذبيَّة الإبداعيَّة والمتطلَّبات الأكاديميَّة

العنوان هو النَّقطة الأولى التي يتفاعل معها القارئ عند الدُّخول إلى أَيِّ نصٍّ، سواءٌ أكان علميًا أم ثقافيًا؛ ولذلك يُشكِّل العنوان مفتاحًا لفهمٍ أَوَّليٍّ يتجاوز ما يُقدِّمه المحتوى، لكن عندما يكون العنوان متعلِّقًا بسياقات أكاديميَّة أو إبداعيَّة فإِنَّها تتباين الوظائف التي يخدمها بشكل واضح؛ إذ العنوان الأكاديمي يتَّسم بالدِّقَّة والموضوعيَّة، بينما يسعى العنوان الإبداعي إلى جذب الانتباه، واستثارة القارئ.

هذه المفارقة بين العنوان الأكاديمي والإبداعي ليست مجرَّد قضيَّة لُغويَّة، بل هي قضيَّة عميقة؛ تتعلَّق بماهيَّة النَّصِّ ذاته، ودوره في المجتمع الأكاديمي أو الثَّقافي.

ويهدف هذا الموضوع إلى تحليل هذه المفارقة من خلال دراسة وظائف العنوان في السِّياقين الأكاديمي والإبداعي، واستكشاف تأثير هذه الوظائف على الطَّريقة التي يتلقَّى بها القارئ النُّصوص المختلفة.

وبالنَّظر إلى عالم البحث العلمي ولاسيَّما في التَّخصُّصات الشَّرعيَّة، تتجلَّى مباينة مميَّزة في الشَّكل الظَّاهري للمنتج العلمي، وهي مفارقة العنوان الأكاديمي والعنوان الإبداعي؛ إذ يُجبر الباحث الجامعي على الالتزام بعنوان طويل، مفصِّل، ذو صيغة وصفيَّة دقيقة عند تقديم رسالته الجامعيَّة، بينما يُتاح للمبدعين لاحقًا اختزال العنوان وإعادة صياغته بأسلوب أكثر جذبًا؛ حين ينشره في صورة كتاب بكامل حُرِّيته.

هذه المفارقة ليست مجرَّد تباين شكلي، بل تعبِّر عن تحوُّل عن القيد الأكاديمي الموجِّه إلى لجان التَّقييم وقواعد الفهرسة، إلى الفضاء الثَّقافي الرَّحب؛ متوجِّهًا إلى القارئ العام والمتخصِّص خارج الإطار الجامعي.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن للباحث أن يُوازن بين دقَّة البحث الأكاديمي ومتطلَّبات النَّشر الجاذب؟!.

إِذْ إِنَّ العنوان هو الواجهة الأولى التي يتعامل معها القارئ عند الاقتراب من أيِّ نصٍّ، وفي هذا الموضوع نستجلي وظائف العنوان في كلا السِّياقين، مع تحليل كيفيَّة تأثيرها على المتلقِّي في هذه النقاط الآتية:

أوَّلًا: وظيفة العنوان الأكاديمي: دقَّة وموضوعيَّة:
العنوان الأكاديمي يُعدُّ العنصر الأوَّل الذي يحدِّد إطار البحث العلمي، ويساعد على تصنيفه في أيِّ مجال؛ والهدف الرَّئيس من العنوان الأكاديمي هو تقديم وصف دقيق، بل وواضح للمحتوى الذي سيقدِّمه البحث؛ ليحمل القارئ على معرفة المضمون بدقَّة، دون أن يبعث بأيِّ تشويش أو انحراف عن الموضوع.

ولذلك يُعدُّ العنوان في السِّياق الأكاديمي أداة لتحديد هويَّة البحث العلمي، الذي يجب أن يتَّسم بالدِّقَّة والوضوح، وينبغي أن يعكس الموضوع بشكل محايد دون إبهام أو إجمال. وعادة ما يتضمَّن العنوان الأكاديمي عدَّة معلومات حول نطاق البحث، والمنهجيَّة المتَّبعة، وأحيانًا قد يشير إلى النَّتائج المتوقَّعة، أو الأسئلة البحثيَّة التي سيتناولها العمل؛ بحيث يكون العنوان دليلاً على جدِّيَّة البحث وحرفيَّته.

وعليه فالعنوان الأكاديمي يهدف إلى تحديد طبيعة المحتوى العلمي، ويساعد في تصنيفه ضمن الإطار الأكاديمي الصَّحيح؛ وهذا النَّوع من العناوين يتجنَّب الأسلوب البلاغي أو الاستعاري الذي قد يضفي على البحث طابعًا غير علمي أو يشوبه الغموض.

ثانيًا: وظيفة العنوان الإبداعي: جذب واستجلاب:
يشترك العنوان الإبداعي في وظائفه مع النَّشر الثَّقافي والإعلامي؛ حيث يسعى إلى جذب انتباه القارئ، من خلال إثارة ميوله، أو إعطائه انطباعًا مثيرًا عن المحتوى؛ إذ العنوان الإبداعي يعتمد في كثير من الأحيان على أساليب جذابة قد تشمل الاستثارات اللُّغوية، والاستعارات، أو التساؤلات التي تثير الخيال وتشجع القارئ على استكشاف المزيد من المحتوى، وترغِّبه في اقتناء الكتاب.

فوظيفة العنوان الإبداعي تتجاوز كونه أداة لتحديد موضوع البحث إلى وسيلة جاذبة؛ لتحقيق انتشار أوسع بين الجماهير المستهدفة، من خلال تقديمه بشكل يتناسب مع اهتمامات الجمهور وذائقته، ممَّا يعزِّز من جاذبيَّته؛ ليصبح وسيلة فاعلة في صناعة النَّشر المعرفي.

ثالثًا: التَّداخل بين العنوان الأكاديمي والإبداعي:
يحتاج الباحث الأكاديمي الحاذق إلى استخدام بعض الأساليب الإبداعيَّة في صياغة عنوانه؛ لتوسيع دائرة المتلقِّين، وجذب اهتمام محيط أوسع من القرَّاء، وعليه استخدام لغة مشوِّقة في عنوانه دون أن يفقد الحياديَّة أو الدِّقَّة العلميَّة؛ ممَّا يعكس تزاوجًا بين الوظائف الأكاديميَّة والإبداعيَّة.

والباحث حين يتبنَّى أسلوبًا إبداعيًا -ضمن إطار عنوانه دون أن يفقد الطَّابع العلمي والموضوعي للبحث- يساهم في جذب انتباه الجمهور العام من المهتمِّين علاوةً على المتخصِّصين دون الإخلال بالمحتوى الأكاديمي للعمل.

غير أنَّ كثيرًا من الباحثين يجدوا أنفسهم في مأزق بين تحقيق التَّوازن بين الجاذبيَّة الإبداعيَّة والمتطلَّبات الأكاديميَّة؛ فإذا استخدموا عناوين إبداعيَّة مفرطة قد يواجهون انتقادات بشأن تقليل مصداقيَّة البحث العلمي، أو تحريف مفاهيمه الأكاديميَّة، بينما إذا كان العنوان أكاديميًّا جادًّا فقد يفتقر إلى الجاذبيَّة للمحتوى، ويواجه صعوبة في جذب جمهور أوسع.

رابعًا: التَّحدِّيات بين العنوان الأكاديمي والإبداعي:
من أكبر التَّحدِّيات التي تواجه الباحثين في صياغة عناوين رسائلهم العلميَّة تحقيق التَّوازن بين الجاذبيَّة الإبداعيَّة والموضوعيَّة الأكاديميَّة؛ بحيث تحافظ على الدِّقَّة الأكاديميَّة مع الجاذبيَّة في الوقت ذاته، إِلَّا أَنَّ استخدام العنوان الإبداعي في البحث العلمي قد يؤدِّي أحيانًا إلى تحريف المفهوم الأكاديمي للبحث، أو يعطي انطباعًا غير دقيق عن محتواه.

والواقع أَنَّ العناوين الأكاديميَّة قد تؤدِّي إلى قلَّة الاهتمام من جهة الجمهور الأوسع، حيث المهتمِّين من غير المتخصِّص؛ لذلك تبرز الحاجة إلى وضع ضوابط مرنة في صياغة العناوين الأكاديميَّة؛ بحيث يمكنها جذب انتباه المتخصِّصين وكذا المهتمِّين على حدٍّ سواء؛ لتقديم المحتوى بشكل يحقِّق التَّواصل الفعَّال بين المجتمع الأكاديمي والجمهور العام حتَّى لا يكون محدودًا؛ وبتحقيقه يحصل التَّوازن بين متطلَّبات البحث العلمي وتوسيع النَّشر المعرفي.

الخلاصة:
أَنَّ مفارقة العنوان الأكاديمي والعنوان الإبداعي ليست مجرَّد مسألة لغويَّة أو أسلوبيَّة بحتة فحسب، بل هي قضيَّة تتعلَّق بكيفيَّة فهمنا لغاية البحث العلمي، بل واتِّساع أثره في المجتمع الثَّقافي؛ ودوره في انتشار الإثراء المعرفي.

وفي الوقت الذي يُقدِّم العنوان الأكاديمي المعلومات بموضوعيِّة؛ فإِنَّ العنوان الإبداعي يسعى إلى إيجاد تفاعل أكبر بين المحتوى والمتلقِّي؛ ولذا فإِنَّ هذا التَّحدي له أثره الكبير في جمود البحث العلمي، وإعاقة سير النَّشر الثَّقافي.

ومن خلال بيان هذا التَّداخل والتَّحدِّيات المتعلِّقة به، ينبغي أن يكون الباحثون المبدعون واعين لضرورة صياغة عناوين مرنة لرسائلهم العلميَّة تتناسب مع كلا السِّياقين الأكاديمي والإبداعي؛ لتعكس محتوى عملهم دون التَّنازل عن دقَّة الرِّسالة العلميَّة مع الرَّشاقة الأسلوبيَّة؛ ممَّا يُعزِّز من تفاعل النُّصوص مع جمهور أكاديمي وجماهيري في آنٍ واحد.
 
أعلى