العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

المحاولات التجديدية المعاصرة في أصول الفقه ( دراسة تحليلية )

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
العنوان: المحاولات التجديدية المعاصرة في أصول الفقه ( دراسة تحليلية )
المؤلف: وصفي عاشور أبو زيد
نبذه عن الكتاب: يبحث يتناول بالتحليل والنقد بعض المحاولات التجديدية المعاصرة في أصول الفقه


رابط القراءة رابط التحميل << اضغط هنا >>

مصدر الكتاب: موقع المشكاة.
 
التعديل الأخير:
إنضم
22 يونيو 2008
المشاركات
1,566
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
أبوظبي
المذهب الفقهي
الحنبلي ابتداءا
وهذه مقالة فيها خلاصة الكتاب للمؤلف نفسه ...

محاولات غير أصيلة في تجديد أصول الفقه
نقصد بغير الأصيلة هنا باختصار ـ من باب تحرير المصطلحات وتحديد المفاهيم ـ تلك المحاولات التي لا ترتكز على أساسيات هذا العلم كما استقرت أصوله وقواعده على مر القرون، ولا تسير في مظلته، ولا تتحدث تحت سلطانه.
وما أكثر هذه المحاولات، لاسيما من مدعي العلم، الذين ليست لهم دراية أو رواية بمسائل الأصول، إضافة إلى الذين لهم علم به، لكن محاولتهم مع ذلك لم تأت ضمن المحاولات الأصيلة، ونقدم هذه المحاولات في اتجاهين:
الاتجاه الأول
اتجاه يريد أن يهدم الأصول، وينهي هذا العلم، وهو أقرب إلى التبديد منه إلى التجديد، ويمكن أن نسميه "اتجاه الرفض والتغيير"، فهو لا يرتكز في عملية التجديد على أساسيات العلم ذاته.
وهذا الاتجاه موجود عند د. حسن حنفي، ويكاد يوجد عند سعيد عشماوي، وحسين أحمد أمين، وغيرهما.
وسنقتصر منهم على د. حسن حنفي، ولن نقف أمامه طويلا، لأن محاولته - كما أشرنا - لا ترتكز على أساسيات هذا العلم.
والدكتور حنفي ابتداءً واسع الثقافة كثير الاطلاع، له مشروعه الفكري والتجديدي، لاسيما في أصول الدين، لكن موقفه من التراث عموما موقف الثائر المنفلت، أكثر منه موقف المجدد المصلح الذي يسير بالعلم قدُما في ضوء كلياته، فعنده مثلا في علم الكلام يتم التحول (من العقيدة إلى الثورة)، وفي علوم الحكمة (من النقل إلى الإبداع)، وفي علوم التصوف (من الفناء إلى البقاء)، وفي العلوم النقلية (من النقل إلى العقل)، وفي علوم القرآن (من الوحي إلى التاريخ)، وفي علوم الحديث (من نقد السند إلى نقد المتن)، وفي علوم التفسير (من التفسير الطولي إلى التفسير الموضوعي)، وفي علوم السيرة (من الشخص إلى المبدأ)، وفي علوم الفقه (من فقه العبادات إلى فقه المعاملات).
أما في علم أصول الفقه، فيريد أن ينتقل (من النص إلى الواقع)؛ لأن غاية علم الأصول عنده ووظيفته أنه عبارة عن التوجه نحو الواقع من أجل السيطرة عليه‏، عن طريق تنظيم الأفعال الإنسانية فيه، ووضع قواعد للسلوك البشري‏، بحيث نتحرر من النصوص ونصل إلى تحقيق المصلحة كيف كانت.
وقد تناول د. حنفي موضوع تجديد أصول الفقه في كتاب له بالفرنسية حصل به على الدكتوراه من السربون، ولم يترجم إلى الآن، وطبعته بالفرنسية أيضا وزارة الثقافة المصرية وعنوانه (les methoderd, exeglse)، طبع بالقاهرة في 1965م، وقدمته في 250 صفحة، والكتاب مع مراجعه وفهارسه 564 صفحة أخرى غير المقدمة.
إلا أن له كتابا آخر بعنوان (بحوث في علوم: أصول الدين ـ أصول الفقه ـ العقل والنقل)، وهو إصدار رقم (7) ضمن سلسلة موسوعة الحضارة الإسلامية، عبارة عن ثلاثة مقالات جمعهم في كتاب واحد، وقد طبعت بعد ذلك مضمنة في كتابه: "دراسات إسلامية"، نشرته مكتبة الأنجلو المصرية، ولا تغني قراءة المقال الخاص بأصول الفقه في هذا الكتاب بالطبع عن مطالعة المسـألة وقراءتها في دراسته للدكتوراه؛ لأن صلب كلامه عنها في هذه الدراسة، لكن كلامه في هذا المقال لا تخلو من إشارات توضح مراده ورؤيته في التجديد.
بدأ كلامه في هذا المقال بتعريف العلم، وموضوعه وفائدته واستمداده، وأول من صنف فيه، ثم كتب عرضا تاريخيا لمؤلفاته حتى انتهى عند ابن القيم (ت: 751) في كتابه: "القياس في الشرع الإسلامي"، وهو سرد يدل على إلمامه الجيد بتاريخ العلم، ثم قال: «ثم انتهى التأليف في علم أصول الفقه، وتحول إلى كتب جامعية أو أزهرية تكرر القدماء دون أية إضافة جديدة، حتى ظهور (مناهج التفسير: محاولة في علم أصول الفقه باللغة الفرنسية، لمؤلف هذا المقال عام 1385هـ (1965م) معيدا بناء العلم كنظرية في الشعور: الشعور التاريخي، الشعور التأملي، الشعور العملي)».
ويعني بالشعور التاريخي الأدلة الأربعة، والتأكد من صحة النصوص، يقول: «ولما كان علم أصول الفقه منهجا يصف أفعال المكلفين ومقاصدهم، كما يصف الوحي ذاته باعتباره مقصدا، فرض التقسيم الكلامي نفسه ابتداء من الشعور. فأصبح لدينا أولا "الشعور التاريخي" ووظيفته ضمان صحة نصوص الوحي في التاريخ....».
ويبين المراد من الشعور التأملي ووظيفته، فيقول: «وظيفة الشعور التأملي فهم النصوص وتفسيرها، بعد أن تأكد الشعور التاريخي من صحتها وشرعيتها، وهو أهم جزء في علم الأصول؛ لأنه هو الجزء المنهجي الذي بواسطته يتم استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الأربعة؛ لأن الأدلة الأربعة لا مدخل للإنسان فيها».
ويوضح المنطقة التي يعمل فيها هذا الشعور فيقول بأن الشعور التأملي اتجه: «نحو المنظوم والمفهوم والمعقول؛ أي بتحليل الألفاظ والمعاني والعلل».
أما المراد بالشعور العملي عنده ووظيفته فيقول عنه: «بعد تأكد الشعور التاريخي من صحة النصوص، وبعد تأكد الشعور التأملي من صحة الفهم والتفسير، يأتي الشعور العملي أخيرا لتنفيذ الأحكام، وتطبيق الأوامر والنواهي، وتحويل الوحي إلى فعل في العالم، وحركة في التاريخ».
وتحت الشعور التاريخي يتحدث عن الأدلة الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ويقول عند قضية النسخ: «والحقيقة أن النسخ في القرآن يدل على وجود الوحي في الزمان وتغيره طبقا للأهلية والقدرة وتبعيته لمدى الرضى الفردي والجماعي في التاريخ. الوحي ليس خارج الزمان، ثابتا لا يتغير، بل داخل الزمان يتطور بتطوره. ليس هدف الوحي هو مجرد الإعلان عنه كشعار بلا مضمون، أو تحقيق دون وعي بالزمان فيفشل، بل تطبيقه في الزمان ونجاحه في التاريخ طبقا لقدرات الفرد والجماعة».
ويرى أن الأصل الأول والثاني، أي الكتاب والسنة، وحي مكتوب من عند الله، والأصل الثالث والرابع أي الإجماع والقياس وحي غير مكتوب، ثم يقول: «الوحي إذن على درجات، وحي مباشر من الله، وهو الكتاب، ووحي تفصيلي من الرسول بتوجيه من الله، ووحي جماعي من الأمة، فالأمة خليفة الله، ووحي فردي من العقل مستندا إلى وحي الكتاب والسنة والجماعة. الأصلان الأول والثاني يدلان على الوحي المكتوب، والأصلان الثالث والرابع يدلان على الوحي الحي».
وعن الشعور التأملي الذي يعمل في مباحث الألفاظ والمعاني والعلل يقول عن المجمل والمبين: «والحقيقة أن المجمل والمبين يفسحان المجال للجهد البشري من أجل اختيار أحد المعنيين طبقا للظروف وتحقيقا للمصلحة، ويكشفان عن أهمية الواقع وضرورة الاختيار بين المعنيين طبقا لمصالح الأمة».
ويقول عن التأويل: «والحقيقة أن التأويل يكشف أيضا عن إمكانية تكييف نصوص الوحي طبقا لظروف الأمة واحتياجاتها، كما يكشف عن رفض حرفية النصوص والجمود عليها والتضحية بمصالح الأمة».
وفي الأمر والنهي يقول: «والحقيقة أن مبحث الأمر والنهي يدل على بُعد الفعل في الزمان في الوحي، وأن الوحي ما هو إلا منطق للأفعال».
وعن الشعور العملي يتكلم في أحكام الوضع الشرعية الخمسة، وعن مقاصد الشارع الأربعة كما ذكرها الشاطبي، ثم يقول: «فإذا ما تم تنفيذ مقاصد الوحي، ثم تنفيذ الإرادة الإلهية من خلال الإرادة الإنسانية، وأصبح الفعل الإلهي ممتدا في الفعل الإنساني، وأمكن أن يصبح الوحي نظاما مثاليا للعالم من خلال فعل المكلف، وعلى هذا النحو يكون علم أصول الفقه هو علم "التنزيل"، الذي يستنبط الأحكام الشرعية، ويتجه من الله إلى الإنسان، على عكس علوم "التأويل" كما يشرحها الصوفية الذين يريدون الرجوع من الإنسان إلى الله».
وواضح من الكلام أنه يريد أن يتزيا بزي الأصالة من خلال الحديث عن الأدلة الأربعة ومباحث الألفاظ والمعاني، والحديث عن أحكام الوضع والمقاصد الأربعة وغير ذلك.
لكنه يريد أن يتجه نحو الواقع بقوة، وهذا مطلوب، لكن في مظلة أساسيات العلم وتحت سلطانه، أما أن يكون التجديد في الأصول بعيدا عن العلم بحيث نحقق المصلحة أيا كانت، ونكيف النصوص لتحقيقها كما يقول، فهذا ما يرفضه الشرع والعقل.
ونلاحظ خلطا في الكلام عندما جعل للعقل وحيا وللأمة وحيا وللكتاب والسنة وحيا، وهذا كلام لا يليق بمكانة الوحي؛ حيث ينبغي أن تكون الألفاظ عند الحديث في مسائل العقيدة محررة وواضحة.
كما نرى جرأة وغمطا لمن أتى بعد ابن القيم من المجددين في الأصول، وعلى رأسهم الشوكاني، فالعلم عنده ظل يكرر ويقلد منتظرا محاولته "مناهج التفسير" ـ كما يزعم.
ثم ما حاجتنا إلى جعلها نظرية في الشعور، وما علاقة قواعد الأصول ـ وهي عقلية بحتة ـ بالشعور والرمزية، وما الآثار العملية المترتبة على ذلك إلا إسقاط النظرية من أساسها؟ وقبل ذلك كله ما عيوب النظرية الأصولية الموروثة التي أدت في نظره إلى عجز العلم عن اتجاهه للواقع في ضوء قواعده وأسسه؟
ليست محاولات الدكتور حنفي شرا كلها، بل إنها لا تخلو من خير، مثل دعوته في علوم التفسير (من التفسير الطولي إلى التفسير الموضوعي)، وفي علوم السيرة (من الشخص إلى المبدأ)، وفي علوم الفقه (من فقه العبادات إلى فقه المعاملات)، على الرغم من احتياج هذا الكلام إلى توضيح ونقاش ليس هذا موضعه.
لكن محاولته في الأصول ملبسة بالباطل والخلط الشديد الذي يصبح معه مفهوم التجديد غامضا غير واضح.
لقد قال الشيخ علي جمعة عن هذه المحاولة أو هذا الاتجاه عموما: «هو أشبه ما يكون باتجاه الباطنية في التاريخ الإسلامي، حيث يخرج النص عن كل معنى للمردود اللغوي وما عليه تعارف الناس ـ باعتبار اللغة وسيلة لنقل الأفكار ـ إلى شيء يشبه الرمز، بحيث نتحرر من النصوص، ونصل إلى تحقيق المصلحة كيف كانت... ومن التطبيقات العملية لمثل ذلك الرفض والالتزام به ما نراه عند الجمهوريين أتباع محمود طه السوداني، حيث قسموا تقسيمات جديدة لا يعرفها أصول الفقه في التفريق بين السنة والشريعة، وبنوا على ذلك ما تركوا به الصلوات وارتكبوا المنكرات».
الاتجاه الثاني
اتجاه يثور على الأصول الموروثة، ويحوّر مفاهيم الأصول، ويطوعها لكي تتوافق مع الواقع، وتلبي حاجات معاصرة.
وأبرز مثال له محاولة الدكتور حسن الترابي التي تحدث عنها في كتابيه: "تجديد أصول الفقه الإسلامي"، و"تجديد الفكر الديني"، وسوف نطيل في النقل عنه أحيانا؛ حتى تتضح رؤيته في التجديد، وتتركز دعوته حول المحاور الآتية:
المحور الأول: أن أصول الفقه الموجودة لم تعد وافية بالحاجات المعاصرة حق الوفاء، وبالتالي فنحن في حاجة إلى منهج أصولي جديد.
يقول: «لابد أن نقف وقفة مع علم الأصول تصله بواقع الحياة؛ لأن قضايا الأصول في أدبنا الفقهي أصبحت تؤخذ تجريدا، حتى غدت مقولات نظرية عقيمة لا تكاد تلد فقها البتة بل تولّد جدلا لا يتناهى، والشأن في الفقه أن ينشأ في مجابهة التحديات العملية. ولا بد لأصول الفقه كذلك أن تنشأ مع هذا الفقه الحي».
ويتحدث عن التطور المادي الهائل الذي طرح قضايا جديدة تتطلب إجابات لها، يقول: «أدركت الحركة الإسلامية أنها غير مؤهلة تمام التأهيل لأن تجيب على هذه الأسئلة إجابات شافية، وقد بان لها أن الفقه الذي بين يديها مهما تفنن حَمَلَتُه بالاستنتاجات والاستخراجات ومهما دققوا في الأنابيش والمراجعات لن يكون كافيا لحاجات الدعوة وتطلع المخاطبين بها».
ويقول أيضا: «ثم إن العلم البشري قد اتسع اتساعا كبيرا وكان الفقه القديم مؤسسا على علم محدود بطبائع الأشياء وحقائق الكون وقوانين الاجتماع مما كان متاحا للمسلمين في زمن نشأة الفقه وازدهاره. أما العلم النقلي الذي كان متاحا في تلك الفترة، فقد كان محدوداً أيضا مع عسر في وسائل الاطلاع والبحث والنشر بينما تزايد المتداول في العلوم العقلية المعاصرة بأقدار عظيمة. وأصبح لزاما علينا أن نقف في فقه الإسلام وقفة جديدة لنسخر العلم كله لعبادة الله ولعقد تركيب جديد يوحد ما بين علوم النقل التي نتلقاها كتابة ورواية قرآنا محفوظا أو سنة يديمها الوحي ـ وبين علوم العقل التي تتجدد كل يوم وتتكامل بالتجربة والنظر...».
وتحت عنوان: "حاجتنا لمنهج أصولي" يقول: «جنوح الحياة الدينية عامة نحو الانحطاط وفتور الدوافع التي تولد الفقه والعمل في واقع المسلمين أديا إلى أن يؤول علم أصول الفقه ـ الذي شأنه أن يكون هاديا للتفكير ـ إلى معلومات لا تهدي إلى فقه ولا تولد فكرا، وإنما أصبح نظرا مجردا يتطور كما تطور الفقه كله مبالغة في التشعيب والتعقيد بغير طائل».
وفي نفس الصفحة يكمل حديثه قائلا: «وفي يومنا هذا أصبحت الحاجة إلى المنهج الأصولي الذي ينبغي أن تؤسس عليه النهضة الإسلامية حاجة ملحة. لكن تتعقد علينا المسألة بكون علم الأصول التقليدي الذي نلتمس فيه الهداية لم يعد مناسبا للوفاء بحاجتنا المعاصرة حق الوفاء».
المحور الثاني: يرى الدكتور الترابي أن الأصول الفقهية التقليدية الموجودة بين أيدينا لم تهتم إلا بالتدين الفردي الذي يتصل بالعبادات والزواج والطلاق، ولذلك نجد هذه الأمور في مطولات الفقه مفصلة تفصيلا دقيقا بدرجة تجعل الاجتهاد فيها محدودا جدا إن لم يكن مستحيلا، على الرغم من حاجة هذا النوع من الفقه إلى صياغة جديدة تناسب العصر.
يقول: «ولئن كان فقهنا التقليدي قد عكف على هذه المسائل عكوفا شديدا، فإنما ذلك لأن الفقهاء ما كانوا يعالجون كثيرا قضايا الحياة العامة وإنما كانوا يجلسون مجالس العلم المعهودة، ولذلك كانت الحياة العامة تدور بعيدا عنهم ولا يأتيهم إلا المستفتون من أصحاب الشأن الخاص في الحياة، يأتونهم أفذاذا بقضايا فردية في أغلب الأمر».
بينما لم ينشغل فقهنا بالحياة العامة وجوانبها المختلفة ـ كما يقول د. الترابي ـ مثل أمور السياسة وكيف تدور الشورى في المجتمع، وكيف يتبلور الإجماع، وجوانب الحياة الاجتماعية وقضايا الاقتصاد العام وأمور العلاقات الخارجية، مع أن النصوص الشرعية في مجال الحياة العامة أقل عددا وأوسع مرونة وهي نصوص مقاصد أقرب منها إلى نصوص الأشكال.
ومن هنا وجدنا أمور الحياة العامة تسير بعيدا عن المظلة الإسلامية؛ لأن الفقه كان منحسرا عن هذا الواقع، فانحرفت الأمور العامة عن مقتضى الشريعة الإسلامية؛ ولذلك فنحن نحتاج في نشاطنا الفقهي لأن نركز تركيزا واسعا على تلك الجوانب، وعلى تطوير القواعد الأصولية التي تناسبها.
يقول: «إن فقهنا الأصولي القديم بعد نهضة حميدة ـ يقصد عصر الصحابة والتابعين والفقهاء الأئمة ـ آل إلى الجمود العقيم بأثر انحطاط واقع الحياة الدينية نفسها فلم يتطور ولم يولد فقها زاهرا ...».
المحور الثالث: ونهوضا من التردي الذي تعانيه جوانب الحياة العامة من جراء عجز الأصول الفقهية الموروثة ـ في نظر د. الترابي ـ عن مسايرة التطور المادي الهائل، ينبغي اللجوء إلى نوع آخر من القياس وكيفية أخرى للإجماع.
ومن ثم يقرر الحل لذلك قائلا: «وفي هذا المجال العام يلزم الرجوع إلى النصوص بقواعد التفسير الأصولية، ولكن ذلك لا يشفي إلا قليلا لقلة النصوص. ويلزمنا أن نطور طرائق الفقه الاجتهادي التي يتسع فيها النظر بناء على النص المحدود».
ثم يقول: «وإذا لجأنا هنا للقياس لتعدية النصوص وتوسيع مداها فما ينبغي أن يكون ذلك هو القياس بمعاييره التقليدية، فالقياس التقليدي أغلبه لا يستوعب حاجتنا بما غشيه من التضييق انفعالا بمعايير المنطق الصوري التي وردت على المسلمين مع الغزو الثقافي الأول الذي تأثر به المسلمون تأثرا لا يضارعه إلا تأثرنا اليوم بأنماط الفكر الحديث».
فهذا القياس ـ في أدبنا الأصولي كما يرى د. الترابي ـ نمط متحفظ من القياس «يقتصر على قياس حادثة محدودة على سابقة محدودة معينة ثبت فيها حكم بنص شرعي فيضيفون الحكم إلى الحادثة المستجدة. ومثل هذا القياس المحدود ربما يصلح استكمالا للأصول التفسيرية في تبين أحكام النكاح والآداب والشعائر. لكن المجالات الواسعة من الدين لا يكاد يجدي فيها إلا القياس الفطري الحر من تلك الشرائط المعقدة التي وضعها له مناطقة الإغريق واقتبسها الفقهاء الذين عاشوا مرحلة ولع الفقه بالتعقيد الفني».
وفي موضع آخر يقول: «بدأ القياس في عهد الصحابة والتابعين قياسا حرًّا، كلما رأوا شبيها بين حادث وقع في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكم فيه، وحادث وقع من بعده، كانوا يعدون ذلك الحكم إلى هذه الحادثة، ولكن خشية من أن يضل الهوى بهذا القياس غير المنتظم، عطل الناس ذلك القياس الفطري واستعملوا المنطق الصوري التحليلي الدقيق حتى جمدوا القياس في معادلات دقيقة لا تكاد تولد فقها جديدا».
ويوضح د. الترابي طبيعة البديل القياسي الذي سيحل محل القياس المتحفظ الضيق في نظره، فيقول تحت عنوان "القياس الواسع": «ولربما يجدينا أيضا أن نتسع في القياس على الجزئيات لنعتبر الطائفة من النصوص ونستنبط من جملتها مقصدا معينا من مقاصد الدين أو مصلحة معينة من مصالحه ثم نتوخى ذلك المقصد حينما كان في الظروف والحادثات الجديدة».
ثم يقول: «وبذلك التصور لمصالح الدين نهتدي إلى تنظيم حياتنا بما يوافق الدين. بل يتاح لنا ـ ملتزمين بتلك المقاصد ـ أن نوسع صور التدين أضعافا مضاعفة».
أما عن كيفية الإجماع التي يراها د. الترابي فقد تحدث عنها في كتابه تجديد الفكر الديني تحت عنوان "الكلمة للمسلمين والإجماع إجماعهم".
وخلاصة رأيه في ذلك: أن الإجماع أصلا لعموم المسلمين، ولظروف تاريخية معينة ورد عليه بعض الانحراف، وهذه الظروف هي أن أقواما شتى دخلت في الدين ما كانوا يفقهون منه شيئا، وأحاطت بهم ظروف معينة كانت تحول بين استشارة المسلمين لهم، فكيف يستشار المسلمون وهم مئات الألوف وكانوا ينتشرون في أرجاء الأرض ليس بينهم تواصل إلا عن طريق الجمال، ومع ذلك عندما كانت تتيسر للرسول ـ صلى الله علي وسلم ـ الشورى للمسلمين كان يستشيرهم.
لذلك اضطر العلماء أن يجعلوا الشورى بين العلماء وأن يجعلوا الإجماع إجماع العلماء، وليس لهم مستند في ذلك إلا الضرورة العملية التي كانت قائمة يومئذ، فالإجماع في الحقيقة هو إجماع المسلمين.
ويرى د. الترابي أن الآية التي يحتج بها الذين يرون الإجماع حتما تتحدث عن المسلمين لا عن علمائهم: )ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا(. النساء: 115.
وحتى الآيات التي تلزم الإنسان الشورى تجعلها للمؤمنين: )وأمرهم شورى بينهم(. الشورى: 38. فكلمة أمرهم شورى جملة اسمية، مثل الحج عرفة، وبمقتضى اللغة: الحج وعرفة متلازمان، فكذلك الشورى والمسلمون متلازمان، ويعزز ذلك الأحاديث التي تحض على التزام الجماعة وتشدد عل البعد عنهم أو مخالفتهم.
ويقول د. الترابي: «ربما يعترض عليَّ معترض فيقول: أتترك الأمر للغوغاء والعامة يقولون فيه بأهوائهم؟».
ويجيب قائلا: «كلا، بل ينبغي على كل مسلم قبل أن يختار رأيا معينا أن يرجع إلى العلماء منهم، فهم الهداة الذين يدلوننا على الصواب، وفي النهاية فالقرار الذي يلزم المسلم هو لعامة المسلمين وجمهورهم».
ويضرب د. الترابي لذلك مثلا فيقول: «الصلاة مثلا واجبة على كل المسلمين ولا نقول إن بعض المسلمين عوام لا يدركون معاني الصلاة فلا ينبغي لهم أن يصلوا.. لا .. يجب عليك أن تعلمهم وترفع مستوى المسلمين ثقافيا وعلميا.
وفكرة الإجماع هذه يمكن أن يعبَّر عنها في رأيه بفكرة الاستفتاء الحديث، والإجماع غير المباشر وهو نظام النيابة الحديثة أو المجلس البرلماني الذي ينتخبه المسلمون انتخابا حرا يكون هو الخطة الاجتماعية عند المسلمين».
مناقشة هادئة
لا يختلف أحد مع الدكتور الترابي في أن المجتمع يتطور بصورة مذهلة حتى إن المتابع لا يستطيع ملاحقة ما يقذف به كلُّ صباح من مشكلات ومسائل تضع نفسها بين يدي الفقيه تتطلب حلا وتكييفا شرعيا لها، كما لا ينكر أحد أن الإسلام لا بد أن يفي بهذه المتطلبات حق الوفاء، ولا يكون بمعزل عن الواقع حتى لا تنفلت الحياة بعيدا عنه، وتسير على غير هدى.
وقد ضمن الإسلام ذلك تماما بما يتمتع به من سعة في منطقة العفو، وما يحمله من نصوص عامة ومقاصد كلية في الشئون العامة والجوانب الحياتية المختلفة، وهذا في الحقيقة ما يكفل للإسلام ـ باعتباره رسالة خاتمة ـ أن يكون صالحا لكل زمان، ومتناسبا مع كل مكان بما لا يخالف ـ بالطبع ـ أطره الكلية ومقاصده العليا.
لكن الملاحظ أن الدكتور الترابي في المحور الأول حمل حملة لا مسوغ لها على علم الأصول، واتهمه باتهامات لا مظاهر حقيقية لها، فلا يفتأ أن يصفه بالعجز والتقليدية، وأنه لم يعد مناسبا للوفاء بحاجتنا المعاصرة حق الوفاء، وأنه مهما تفنن علماؤه بالاستنتاجات والاستخراجات ومهما دققوا في الأنابيش والمراجعات لن يكون كافيا لحاجات الدعوة وتطلع المخاطبين بها ...إلخ.
وهو كلام يتصف بالعموم من غير تمثيل، فلم يذكر لنا الدكتور الترابي ما العيوب الموجودة في العلم حتى أضحى بهذا العقم، وما أسباب ذلك، وما أمثلته، ولم يذكر المساحة التي ينبغي تغييرها من مسائل العلم، ولا بيّن المساحة التي ينبغي تركها وأثر هذا كله في الفقه والواقع.
لو كان يقصد أن بعض المسائل في كتب الأصول لا ينبني عليها فروع فقهية لكان صحيحا، لكنه عمم في حكمه ولم يوضح المراد، وقد قال الإمام الشاطبي: «كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية».
ثم ما علاقة التطور المادي السريع بقواعد نظرية بحتة وظيفتها: الوصول من خلالها إلى الحكم على الأشياء والتصرفات حكمًا شرعيًا، وما العلاقة المتبادلة بين قواعد أصول الفقه وبين الكشف والاختراع؟ هل يؤثر ذلك على صيغ الأمر والنهي، وما إذا كان النهي فيها وجوبيا أو تخييريا، وما إذا كان النهي فيها للتحريم أو غيره، وما تأثير التكنولوجيا الحديثة والكشف الفضائي وارتياد القمر على استخراج الحكم من آية أو حديث أو قياس على نص أو إجماع؟
إن أصول الفقه علم له استمداده من علوم ثلاثة: علم اللغة العربية بفروعه المختلفة، وعلم الكلام، وعلم الأحكام الشرعية؛ فمسائل اللغة نقلية؛ بمعنى أنها أنشئت واحترقت عند إنشائها، فلا دخل لنا في تعديلها أو إضافة جديد لدلالاتها، أو في وضع جديد لألفاظها بإزاء معانيها، وعلم الكلام لا علاقة لمباحثه بتطور الأحداث ولا أثر لتطور الأحداث فيه، وأما الأحكام الشرعية فإنها معروفة بالمرونة في إطار المقاصد الكلية، فإن التطور لن يضيف للأحكام حكما جديدا فوق الأحكام الخمسة أو السبعة، ولن يزيد في المقاصد الشرعية مقصدا رابعا على الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
أما المحور الثاني الذي ذكر فيه انشغال الفقه بالتدين الفردي، فكتب الفقه فعلا فصلت أمور العبادات والتدين الفردي تفصيلا دقيقا؛ وذلك لأن أغلبها أمور توقيفية، لا يستطيع أحد أن يزيد فيها أو ينقص منها.
أما انشغال الفقه عن أمر الحياة العامة، فهذا وإن كان يريد اهتماما أكثر وعناية أكبر من علماء المسلمين إلا أن تاريخ التأليف الفقهي وتاريخ علماء الإسلام حافل بمؤلفات في هذا المجال، ولم يخل عصر من العصور من التأليف في أمور السياسة الشرعية وقضايا الاقتصاد العام ومسائل العلاقات الخارجية، ابتداء بأبي يوسف في "الخراج" ومحمد بن الحسن في "السير"، والسرخسي في "شرح السير الكبير"، وأبو عبيد في "الأموال"، ويحيى بن آدم في "الخراج"، وابن عقيل في "الفنون"، وأبي المعالي إمام الحرمين في "غياث الأمم"، والماوردي وأبي يعلى في "الأحكام السلطانية"، وابن تيمية في "السياسة الشرعية" و"الحسبة"، وابن القيم في "الطرق الحكمية" و"الإعلام"، وانتهاء بالنهضة الحديثة والمعاصرة حيث عبد الوهاب خلاف ومحمد أبو زهرة وعلي الخفيف وعبد الرحمن تاج ومحمد الصادق عرجون وضياء الدين الريس وحسن البنا وعبد القادر عودة وسيد قطب ومصطفى السباعي ومحمد المبارك والمودودي، وغيرهم.
فلم يتوقف سيل التأليف في هذه المجالات المهمة، ولا أهمل العلماء يوما مثل هذه القضايا الحساسة، ولا وقف الإسلام عاجزا على مدى التاريخ أمام مسألة جديدة ولا حادثة طارئة، إنما كان عنده لكل مشكلة علاج، ولكل حادثة حديث.
أما المحور الثالث فقد انقسم إلى قسمين: القياس والإجماع.
فأما القياس الموروث فقد خلع عليه أيضا صفات لا مسوغ لها مثل: تقليدي، ومحدود، متأثر بالمنطق الصوري، والقياس غير المنتظم...إلخ.
ومع ذلك لم يذكر د. الترابي مثالا واحدا في التاريخ كان للقياس فيه دور، ووقف أمامه عاجزا، فهو أيضا كلام عام غير واضح يحتاج إلى تحقيق.
على أن القياس الذي ينازع فيه د. حسن الترابي هو قياس العلة، ويقول ـ كما نقلنا عنه من قبل ـ: «بدأ القياس في عهد الصحابة والتابعين قياسا حرًّا، كلما رأوا شبيها بين حادث وقع في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكم فيه، وحادث وقع من بعده، كانوا يعدون ذلك الحكم إلى هذه الحادثة».
وهذا الذي ذكره يسمى قياس الشبه، وهذا النوع من القياس لم يعطله العلماء، بل هو حجة عند جمهور الأصوليين، لكن د.الترابي فاته أنه لا يصار إلى قياس الشبه مع إمكان قياس العلة بالإجماع.
فنحن نلجأ إليه عند تعذر معرفة علة حكم الأصل، وإلا فقياس العلة أضبط وأسلم، ولا ينازع فيه أحد من أهل العلم.
ولو افترضنا جدلا أن القياس الموروث لم يعد صالحا لاستيعاب حاجاتنا المعاصرة، فعندنا أصول أخرى تستوعب المستجدات مثل المصالح المرسلة، والاستصحاب، مع العلم أن القياس لا يفهمه ـ فضلا عن أن يستخدمه ـ عوام الناس، إنما يفقهه ويستخدمه أهل الأصول الراسخون في العلم، الذين يستطيعون أن يفعِّلوا القياس الحر.
أما القياس الواسع الذي يدعو إليه الدكتور فهو أكثر اتصالاً بالقواعد الكلية والمقاصد العامة.
وقريب من رأي الدكتور الترابي ذهب الدكتور محمد الدسوقي، لكنه ـ مع دعوته للقياس الفطري الحر ـ نراه يقرر ما يترتب على ذلك، ويحذر من اجتراء غير العلماء على ذلك، فالدعوة إلى التوسع في مفاهيم بعض الأدلة قد ينجم عنها اضطراب في الآراء، بسبب عدم الضبط الدقيق لحدود هذا التوسع، ولأن من ليس أهلا للاجتهاد قد يتخذ منه ذريعة للقول في الدين دون دراسة وفقه، فيكون ضرره وخطره فادحا؛ لأنه يصير الخلاف في الاستنباط خارج دائرة ما يقبل منه ويعد رحمة بالأمة فضلا عن بلبلة الأفكار، وفتنة الضعفاء أو العامة، وشغل الناس بما لا يجديهم في الدين والدنيا.
وتكاد كل الضوابط والقيود التي تحول دون أن يكون ذلك التوسع في مفاهيم تلك الأدلة سبيلا لتباين الآراء تباينا يمزق وحدة الجماعة، ويفت في عضد الأمة، ويغري من ليسوا أهلا للاجتهاد بالجرأة على الفتيا لا تخرج عن دائرة تنظيم الشورى أو الاجتهاد الجماعي، ليقوم بمهمة المراجعة والمتابعة وصولا إلى الرأي الحاسم الذي يجمع عليه العلماء أو جمهورهم.
وعن الإجماع الذي يقرر د. الترابي أن مفهومه قد حدث فيه انحراف بحيث كان الإجماع إجماع عموم المسلمين ثم صار إجماع العلماء فقط نتيجة لضرورة عملية ليس إلا، ويعلل إجماع العوام في الأمور الخاصة أو الاجتهادية بأن يسألوا العلماء وواجبٌ على العلماء إرشادهم وتعليمهم، فهذا كلام لم يقله أحد من أهل العلم، بل لم يقل به أحد من جميع الطوائف ممن تكلم في الأصول بحدوث هذا الانحراف في المفهوم.
وإذا كان العوام سيذهبون إلى العلماء يسألونهم عن أمر ما فمن باب أولى ترك الإجماع للعلماء وقصره عليهم، لا سيما في الأمور الاجتهادية التي تخفى على العوام.
أما الآية التي يستدل بها على أن الإجماع إجماع العموم، فقد قال عنها الغزالي: «الآية ليست نصا في الغرض، بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نوله ما تولى، فكأنه لم يكتف بترك المشاقة حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهى، وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم».
وقد نقل الجصاص أنه «لا يعتد بخلاف من لا يعرف أصول الشريعة، ولم يرتض بطرق المقاييس ووجوه اجتهاد الرأي».
وضرب د. الترابي مثلا للإجماع بالصلاة بالنسبة للعامي، فلا نقول إن بعض المسلمين عوام لا يدركون معاني الصلاة، ومن ثم فلا ينبغي لهم أن يصلوا.
وهذا قياس مع الفارق بداهة لوجوب الصلاة مع العلم والجهل، بينما الإجماع لا يكون إلا مع العلم، بل مع من تمتع بآليات الاجتهاد.
وظاهر من كلام د. الترابي أن هناك تداخلا وخلطا بين الإجماع والشورى، وكما هو معروف أنهما مختلفان من عدة وجوه:
*الشورى ترجع في النهاية إلى رأي القيادة، في حين يرجع الإجماع إلى رأي كل واحد.
*الشورى مختلف في أنها ملزمة أم معلمة، بينما لا يختلف كثير في أن الإجماع حجة قاطعة
ومعمول بها.
*الشورى مأمور بها في القرآن والسنة وهي من أصول النظام السياسي، لكنها ليست مصدرا يستقى منه الأحكام، بخلاف الإجماع.
* الشورى دور من أدوار الإجماع، وآلية من آلياته للوصول إلى رأي بين أهل الذكر.
والذي يقارن محاولة الدكتور محمد الدسوقي حول تجديد مفهوم الإجماع وتطويره يدرك موقع محاولة د. الترابي من الأصالة.
يقرر في البداية أن الإجماع أصل أصيل في الدين، وآيات القرآن وأحاديث النبي صريحة في مشروعية العمل بما وقع عليه الإجماع من المؤمنين.
ويذكر د. الدسوقي أنه يجب أن نُخرج من مفهوم الإجماع ما هو معلوم من الدين بالضرورة فلطال ما أطلقنا عليه إجماعا في تراثنا الفقهي، وإذا كان الأمر يستند إلى آية أو حديث، لا ينسحب عليه المفهوم الأصولي للإجماع؛ لأن كل جيل تلقاه عمن سبقه دون نكير من أحد، وهذا هو الذي لا يجوز لأحد خلافه ويكفر منكره.
وكذلك أخرج د. الدسوقي من الإجماع ما عُرف في ثراثنا بالإجماع السكوتي، ويرى أنه لا يصح أن يسمى إجماعا، فالسكوت ليس دائما آية الموافقة، وجوهر الإجماع يقوم على المحاورة والنقاش العلمي الذي تتبلور من خلاله الحقائق التي تقود المجتمعين إلى رأي فيما يبحثون.
ويقرر د. الدسوقي أن تعريف الإجماع في أدبنا الأصولي يحتاج إلى مراجعة وتطوير؛ حيث إن تعريفه بأنه اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عصر من العصور على حكم شرعي، يعتبر افتراضا لا تشهد له النصوص، ولم يفهمه الجيل الأول؛ حيث كانوا يتشاورون ويقضون بما يجمعون عليه، وما كان إجماعهم إجماعا لكل علماء الصحابة، وإنما كان إجماعا لمن حضر منهم، فما كان أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي يتوقف عن تنفيذ ما وصل إليه حضور علماء الصحابة إلى أن يستشير غيرهم ممن هم منبثون في مختلف أصقاع المسلمين، وبالتالي فإن تقييد صحة الإجماع باتفاق كل المجتهدين في عصر من العصور لا ينهض له دليل ولا تؤيده آثار، ولهذا لم يتحقق هذا الإجماع المفترض في تاريخ الأمة.
وإذا كان هذا الإجماع بما قيده به الأصوليون لم يتحقق في عصر الصحابة فعدم تحققه في عصور من بعدهم أصعب وأشق لاختلاف الديار وتباعد الأوطان، على أنه ليس من اليسير أن يتفق عدد كبير من المجتهدين في عصر واحد على مسألة واحدة، وعليه ـ حتى يكون الإجماع عمليا ومفعَّلا ـ ينبغي أن يكون نعتمد إجماع الجمهور أو الأغلبية.
إذن كلام الدكتور الدسوقي يتلخص في ثلاث نقاط:
الأولى: إخراج الأمور المعلومة من الدين بالضرورة من الإجماع.
الثانية: إخراج ما يسمى بالإجماع السكوتي.
الثالثة: تغيير تعريف الإجماع بأن يصبح إجماع الجمهور أو الأغلبيه من خلال مجمع فقهي.
وهو كلام أدعى أن يُخرج الإجماع من الكلام النظري إلى الكلام العملي والتفاعل مع الواقع.
بينما جاء كلام الدكتور الترابي في هذه المحاولة ـ كما يقول الدكتور علي جمعة ـ "عن" المسألة أكثر من كلامه "في" المسألة، ولعل له عملا آخر تناول فيه المسألة بطريقة أعمق من هذا، خاصة وقد قال في آخر كتابه "تجديد أصول الفقه الإسلامي": «هذه إشارات عابرة ارتجلتها في سياق الحديث عن تجديد أصول الفقه ونظمه ومشكلات نهضته في الحاضر، وأرجو أن يتاح لي مجال أوسع أتناول فقه الأصول ونظمه بمنهج أدق وتحليل أعمق إن شاء الله».
من كتاب: المحاولات التجديدية المعاصرة في أصول الفقه

 
إنضم
22 يونيو 2008
المشاركات
1,566
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
أبوظبي
المذهب الفقهي
الحنبلي ابتداءا
وهذا مقال للمؤلف ... فيه الخلاصة

محاولات غير أصيلة في تجديد أصول الفقه
نقصد بغير الأصيلة هنا باختصار ـ من باب تحرير المصطلحات وتحديد المفاهيم ـ تلك المحاولات التي لا ترتكز على أساسيات هذا العلم كما استقرت أصوله وقواعده على مر القرون، ولا تسير في مظلته، ولا تتحدث تحت سلطانه.
وما أكثر هذه المحاولات، لاسيما من مدعي العلم، الذين ليست لهم دراية أو رواية بمسائل الأصول، إضافة إلى الذين لهم علم به، لكن محاولتهم مع ذلك لم تأت ضمن المحاولات الأصيلة، ونقدم هذه المحاولات في اتجاهين:
الاتجاه الأول
اتجاه يريد أن يهدم الأصول، وينهي هذا العلم، وهو أقرب إلى التبديد منه إلى التجديد، ويمكن أن نسميه "اتجاه الرفض والتغيير"، فهو لا يرتكز في عملية التجديد على أساسيات العلم ذاته.
وهذا الاتجاه موجود عند د. حسن حنفي، ويكاد يوجد عند سعيد عشماوي، وحسين أحمد أمين، وغيرهما.
وسنقتصر منهم على د. حسن حنفي، ولن نقف أمامه طويلا، لأن محاولته - كما أشرنا - لا ترتكز على أساسيات هذا العلم.
والدكتور حنفي ابتداءً واسع الثقافة كثير الاطلاع، له مشروعه الفكري والتجديدي، لاسيما في أصول الدين، لكن موقفه من التراث عموما موقف الثائر المنفلت، أكثر منه موقف المجدد المصلح الذي يسير بالعلم قدُما في ضوء كلياته، فعنده مثلا في علم الكلام يتم التحول (من العقيدة إلى الثورة)، وفي علوم الحكمة (من النقل إلى الإبداع)، وفي علوم التصوف (من الفناء إلى البقاء)، وفي العلوم النقلية (من النقل إلى العقل)، وفي علوم القرآن (من الوحي إلى التاريخ)، وفي علوم الحديث (من نقد السند إلى نقد المتن)، وفي علوم التفسير (من التفسير الطولي إلى التفسير الموضوعي)، وفي علوم السيرة (من الشخص إلى المبدأ)، وفي علوم الفقه (من فقه العبادات إلى فقه المعاملات).
أما في علم أصول الفقه، فيريد أن ينتقل (من النص إلى الواقع)؛ لأن غاية علم الأصول عنده ووظيفته أنه عبارة عن التوجه نحو الواقع من أجل السيطرة عليه‏، عن طريق تنظيم الأفعال الإنسانية فيه، ووضع قواعد للسلوك البشري‏، بحيث نتحرر من النصوص ونصل إلى تحقيق المصلحة كيف كانت.
وقد تناول د. حنفي موضوع تجديد أصول الفقه في كتاب له بالفرنسية حصل به على الدكتوراه من السربون، ولم يترجم إلى الآن، وطبعته بالفرنسية أيضا وزارة الثقافة المصرية وعنوانه (les methoderd, exeglse)، طبع بالقاهرة في 1965م، وقدمته في 250 صفحة، والكتاب مع مراجعه وفهارسه 564 صفحة أخرى غير المقدمة.
إلا أن له كتابا آخر بعنوان (بحوث في علوم: أصول الدين ـ أصول الفقه ـ العقل والنقل)، وهو إصدار رقم (7) ضمن سلسلة موسوعة الحضارة الإسلامية، عبارة عن ثلاثة مقالات جمعهم في كتاب واحد، وقد طبعت بعد ذلك مضمنة في كتابه: "دراسات إسلامية"، نشرته مكتبة الأنجلو المصرية، ولا تغني قراءة المقال الخاص بأصول الفقه في هذا الكتاب بالطبع عن مطالعة المسـألة وقراءتها في دراسته للدكتوراه؛ لأن صلب كلامه عنها في هذه الدراسة، لكن كلامه في هذا المقال لا تخلو من إشارات توضح مراده ورؤيته في التجديد.
بدأ كلامه في هذا المقال بتعريف العلم، وموضوعه وفائدته واستمداده، وأول من صنف فيه، ثم كتب عرضا تاريخيا لمؤلفاته حتى انتهى عند ابن القيم (ت: 751) في كتابه: "القياس في الشرع الإسلامي"، وهو سرد يدل على إلمامه الجيد بتاريخ العلم، ثم قال: «ثم انتهى التأليف في علم أصول الفقه، وتحول إلى كتب جامعية أو أزهرية تكرر القدماء دون أية إضافة جديدة، حتى ظهور (مناهج التفسير: محاولة في علم أصول الفقه باللغة الفرنسية، لمؤلف هذا المقال عام 1385هـ (1965م) معيدا بناء العلم كنظرية في الشعور: الشعور التاريخي، الشعور التأملي، الشعور العملي)».
ويعني بالشعور التاريخي الأدلة الأربعة، والتأكد من صحة النصوص، يقول: «ولما كان علم أصول الفقه منهجا يصف أفعال المكلفين ومقاصدهم، كما يصف الوحي ذاته باعتباره مقصدا، فرض التقسيم الكلامي نفسه ابتداء من الشعور. فأصبح لدينا أولا "الشعور التاريخي" ووظيفته ضمان صحة نصوص الوحي في التاريخ....».
ويبين المراد من الشعور التأملي ووظيفته، فيقول: «وظيفة الشعور التأملي فهم النصوص وتفسيرها، بعد أن تأكد الشعور التاريخي من صحتها وشرعيتها، وهو أهم جزء في علم الأصول؛ لأنه هو الجزء المنهجي الذي بواسطته يتم استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الأربعة؛ لأن الأدلة الأربعة لا مدخل للإنسان فيها».
ويوضح المنطقة التي يعمل فيها هذا الشعور فيقول بأن الشعور التأملي اتجه: «نحو المنظوم والمفهوم والمعقول؛ أي بتحليل الألفاظ والمعاني والعلل».
أما المراد بالشعور العملي عنده ووظيفته فيقول عنه: «بعد تأكد الشعور التاريخي من صحة النصوص، وبعد تأكد الشعور التأملي من صحة الفهم والتفسير، يأتي الشعور العملي أخيرا لتنفيذ الأحكام، وتطبيق الأوامر والنواهي، وتحويل الوحي إلى فعل في العالم، وحركة في التاريخ».
وتحت الشعور التاريخي يتحدث عن الأدلة الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ويقول عند قضية النسخ: «والحقيقة أن النسخ في القرآن يدل على وجود الوحي في الزمان وتغيره طبقا للأهلية والقدرة وتبعيته لمدى الرضى الفردي والجماعي في التاريخ. الوحي ليس خارج الزمان، ثابتا لا يتغير، بل داخل الزمان يتطور بتطوره. ليس هدف الوحي هو مجرد الإعلان عنه كشعار بلا مضمون، أو تحقيق دون وعي بالزمان فيفشل، بل تطبيقه في الزمان ونجاحه في التاريخ طبقا لقدرات الفرد والجماعة».
ويرى أن الأصل الأول والثاني، أي الكتاب والسنة، وحي مكتوب من عند الله، والأصل الثالث والرابع أي الإجماع والقياس وحي غير مكتوب، ثم يقول: «الوحي إذن على درجات، وحي مباشر من الله، وهو الكتاب، ووحي تفصيلي من الرسول بتوجيه من الله، ووحي جماعي من الأمة، فالأمة خليفة الله، ووحي فردي من العقل مستندا إلى وحي الكتاب والسنة والجماعة. الأصلان الأول والثاني يدلان على الوحي المكتوب، والأصلان الثالث والرابع يدلان على الوحي الحي».
وعن الشعور التأملي الذي يعمل في مباحث الألفاظ والمعاني والعلل يقول عن المجمل والمبين: «والحقيقة أن المجمل والمبين يفسحان المجال للجهد البشري من أجل اختيار أحد المعنيين طبقا للظروف وتحقيقا للمصلحة، ويكشفان عن أهمية الواقع وضرورة الاختيار بين المعنيين طبقا لمصالح الأمة».
ويقول عن التأويل: «والحقيقة أن التأويل يكشف أيضا عن إمكانية تكييف نصوص الوحي طبقا لظروف الأمة واحتياجاتها، كما يكشف عن رفض حرفية النصوص والجمود عليها والتضحية بمصالح الأمة».
وفي الأمر والنهي يقول: «والحقيقة أن مبحث الأمر والنهي يدل على بُعد الفعل في الزمان في الوحي، وأن الوحي ما هو إلا منطق للأفعال».
وعن الشعور العملي يتكلم في أحكام الوضع الشرعية الخمسة، وعن مقاصد الشارع الأربعة كما ذكرها الشاطبي، ثم يقول: «فإذا ما تم تنفيذ مقاصد الوحي، ثم تنفيذ الإرادة الإلهية من خلال الإرادة الإنسانية، وأصبح الفعل الإلهي ممتدا في الفعل الإنساني، وأمكن أن يصبح الوحي نظاما مثاليا للعالم من خلال فعل المكلف، وعلى هذا النحو يكون علم أصول الفقه هو علم "التنزيل"، الذي يستنبط الأحكام الشرعية، ويتجه من الله إلى الإنسان، على عكس علوم "التأويل" كما يشرحها الصوفية الذين يريدون الرجوع من الإنسان إلى الله».
وواضح من الكلام أنه يريد أن يتزيا بزي الأصالة من خلال الحديث عن الأدلة الأربعة ومباحث الألفاظ والمعاني، والحديث عن أحكام الوضع والمقاصد الأربعة وغير ذلك.
لكنه يريد أن يتجه نحو الواقع بقوة، وهذا مطلوب، لكن في مظلة أساسيات العلم وتحت سلطانه، أما أن يكون التجديد في الأصول بعيدا عن العلم بحيث نحقق المصلحة أيا كانت، ونكيف النصوص لتحقيقها كما يقول، فهذا ما يرفضه الشرع والعقل.
ونلاحظ خلطا في الكلام عندما جعل للعقل وحيا وللأمة وحيا وللكتاب والسنة وحيا، وهذا كلام لا يليق بمكانة الوحي؛ حيث ينبغي أن تكون الألفاظ عند الحديث في مسائل العقيدة محررة وواضحة.
كما نرى جرأة وغمطا لمن أتى بعد ابن القيم من المجددين في الأصول، وعلى رأسهم الشوكاني، فالعلم عنده ظل يكرر ويقلد منتظرا محاولته "مناهج التفسير" ـ كما يزعم.
ثم ما حاجتنا إلى جعلها نظرية في الشعور، وما علاقة قواعد الأصول ـ وهي عقلية بحتة ـ بالشعور والرمزية، وما الآثار العملية المترتبة على ذلك إلا إسقاط النظرية من أساسها؟ وقبل ذلك كله ما عيوب النظرية الأصولية الموروثة التي أدت في نظره إلى عجز العلم عن اتجاهه للواقع في ضوء قواعده وأسسه؟
ليست محاولات الدكتور حنفي شرا كلها، بل إنها لا تخلو من خير، مثل دعوته في علوم التفسير (من التفسير الطولي إلى التفسير الموضوعي)، وفي علوم السيرة (من الشخص إلى المبدأ)، وفي علوم الفقه (من فقه العبادات إلى فقه المعاملات)، على الرغم من احتياج هذا الكلام إلى توضيح ونقاش ليس هذا موضعه.
لكن محاولته في الأصول ملبسة بالباطل والخلط الشديد الذي يصبح معه مفهوم التجديد غامضا غير واضح.
لقد قال الشيخ علي جمعة عن هذه المحاولة أو هذا الاتجاه عموما: «هو أشبه ما يكون باتجاه الباطنية في التاريخ الإسلامي، حيث يخرج النص عن كل معنى للمردود اللغوي وما عليه تعارف الناس ـ باعتبار اللغة وسيلة لنقل الأفكار ـ إلى شيء يشبه الرمز، بحيث نتحرر من النصوص، ونصل إلى تحقيق المصلحة كيف كانت... ومن التطبيقات العملية لمثل ذلك الرفض والالتزام به ما نراه عند الجمهوريين أتباع محمود طه السوداني، حيث قسموا تقسيمات جديدة لا يعرفها أصول الفقه في التفريق بين السنة والشريعة، وبنوا على ذلك ما تركوا به الصلوات وارتكبوا المنكرات».
الاتجاه الثاني
اتجاه يثور على الأصول الموروثة، ويحوّر مفاهيم الأصول، ويطوعها لكي تتوافق مع الواقع، وتلبي حاجات معاصرة.
وأبرز مثال له محاولة الدكتور حسن الترابي التي تحدث عنها في كتابيه: "تجديد أصول الفقه الإسلامي"، و"تجديد الفكر الديني"، وسوف نطيل في النقل عنه أحيانا؛ حتى تتضح رؤيته في التجديد، وتتركز دعوته حول المحاور الآتية:
المحور الأول: أن أصول الفقه الموجودة لم تعد وافية بالحاجات المعاصرة حق الوفاء، وبالتالي فنحن في حاجة إلى منهج أصولي جديد.
يقول: «لابد أن نقف وقفة مع علم الأصول تصله بواقع الحياة؛ لأن قضايا الأصول في أدبنا الفقهي أصبحت تؤخذ تجريدا، حتى غدت مقولات نظرية عقيمة لا تكاد تلد فقها البتة بل تولّد جدلا لا يتناهى، والشأن في الفقه أن ينشأ في مجابهة التحديات العملية. ولا بد لأصول الفقه كذلك أن تنشأ مع هذا الفقه الحي».
ويتحدث عن التطور المادي الهائل الذي طرح قضايا جديدة تتطلب إجابات لها، يقول: «أدركت الحركة الإسلامية أنها غير مؤهلة تمام التأهيل لأن تجيب على هذه الأسئلة إجابات شافية، وقد بان لها أن الفقه الذي بين يديها مهما تفنن حَمَلَتُه بالاستنتاجات والاستخراجات ومهما دققوا في الأنابيش والمراجعات لن يكون كافيا لحاجات الدعوة وتطلع المخاطبين بها».
ويقول أيضا: «ثم إن العلم البشري قد اتسع اتساعا كبيرا وكان الفقه القديم مؤسسا على علم محدود بطبائع الأشياء وحقائق الكون وقوانين الاجتماع مما كان متاحا للمسلمين في زمن نشأة الفقه وازدهاره. أما العلم النقلي الذي كان متاحا في تلك الفترة، فقد كان محدوداً أيضا مع عسر في وسائل الاطلاع والبحث والنشر بينما تزايد المتداول في العلوم العقلية المعاصرة بأقدار عظيمة. وأصبح لزاما علينا أن نقف في فقه الإسلام وقفة جديدة لنسخر العلم كله لعبادة الله ولعقد تركيب جديد يوحد ما بين علوم النقل التي نتلقاها كتابة ورواية قرآنا محفوظا أو سنة يديمها الوحي ـ وبين علوم العقل التي تتجدد كل يوم وتتكامل بالتجربة والنظر...».
وتحت عنوان: "حاجتنا لمنهج أصولي" يقول: «جنوح الحياة الدينية عامة نحو الانحطاط وفتور الدوافع التي تولد الفقه والعمل في واقع المسلمين أديا إلى أن يؤول علم أصول الفقه ـ الذي شأنه أن يكون هاديا للتفكير ـ إلى معلومات لا تهدي إلى فقه ولا تولد فكرا، وإنما أصبح نظرا مجردا يتطور كما تطور الفقه كله مبالغة في التشعيب والتعقيد بغير طائل».
وفي نفس الصفحة يكمل حديثه قائلا: «وفي يومنا هذا أصبحت الحاجة إلى المنهج الأصولي الذي ينبغي أن تؤسس عليه النهضة الإسلامية حاجة ملحة. لكن تتعقد علينا المسألة بكون علم الأصول التقليدي الذي نلتمس فيه الهداية لم يعد مناسبا للوفاء بحاجتنا المعاصرة حق الوفاء».
المحور الثاني: يرى الدكتور الترابي أن الأصول الفقهية التقليدية الموجودة بين أيدينا لم تهتم إلا بالتدين الفردي الذي يتصل بالعبادات والزواج والطلاق، ولذلك نجد هذه الأمور في مطولات الفقه مفصلة تفصيلا دقيقا بدرجة تجعل الاجتهاد فيها محدودا جدا إن لم يكن مستحيلا، على الرغم من حاجة هذا النوع من الفقه إلى صياغة جديدة تناسب العصر.
يقول: «ولئن كان فقهنا التقليدي قد عكف على هذه المسائل عكوفا شديدا، فإنما ذلك لأن الفقهاء ما كانوا يعالجون كثيرا قضايا الحياة العامة وإنما كانوا يجلسون مجالس العلم المعهودة، ولذلك كانت الحياة العامة تدور بعيدا عنهم ولا يأتيهم إلا المستفتون من أصحاب الشأن الخاص في الحياة، يأتونهم أفذاذا بقضايا فردية في أغلب الأمر».
بينما لم ينشغل فقهنا بالحياة العامة وجوانبها المختلفة ـ كما يقول د. الترابي ـ مثل أمور السياسة وكيف تدور الشورى في المجتمع، وكيف يتبلور الإجماع، وجوانب الحياة الاجتماعية وقضايا الاقتصاد العام وأمور العلاقات الخارجية، مع أن النصوص الشرعية في مجال الحياة العامة أقل عددا وأوسع مرونة وهي نصوص مقاصد أقرب منها إلى نصوص الأشكال.
ومن هنا وجدنا أمور الحياة العامة تسير بعيدا عن المظلة الإسلامية؛ لأن الفقه كان منحسرا عن هذا الواقع، فانحرفت الأمور العامة عن مقتضى الشريعة الإسلامية؛ ولذلك فنحن نحتاج في نشاطنا الفقهي لأن نركز تركيزا واسعا على تلك الجوانب، وعلى تطوير القواعد الأصولية التي تناسبها.
يقول: «إن فقهنا الأصولي القديم بعد نهضة حميدة ـ يقصد عصر الصحابة والتابعين والفقهاء الأئمة ـ آل إلى الجمود العقيم بأثر انحطاط واقع الحياة الدينية نفسها فلم يتطور ولم يولد فقها زاهرا ...».
المحور الثالث: ونهوضا من التردي الذي تعانيه جوانب الحياة العامة من جراء عجز الأصول الفقهية الموروثة ـ في نظر د. الترابي ـ عن مسايرة التطور المادي الهائل، ينبغي اللجوء إلى نوع آخر من القياس وكيفية أخرى للإجماع.
ومن ثم يقرر الحل لذلك قائلا: «وفي هذا المجال العام يلزم الرجوع إلى النصوص بقواعد التفسير الأصولية، ولكن ذلك لا يشفي إلا قليلا لقلة النصوص. ويلزمنا أن نطور طرائق الفقه الاجتهادي التي يتسع فيها النظر بناء على النص المحدود».
ثم يقول: «وإذا لجأنا هنا للقياس لتعدية النصوص وتوسيع مداها فما ينبغي أن يكون ذلك هو القياس بمعاييره التقليدية، فالقياس التقليدي أغلبه لا يستوعب حاجتنا بما غشيه من التضييق انفعالا بمعايير المنطق الصوري التي وردت على المسلمين مع الغزو الثقافي الأول الذي تأثر به المسلمون تأثرا لا يضارعه إلا تأثرنا اليوم بأنماط الفكر الحديث».
فهذا القياس ـ في أدبنا الأصولي كما يرى د. الترابي ـ نمط متحفظ من القياس «يقتصر على قياس حادثة محدودة على سابقة محدودة معينة ثبت فيها حكم بنص شرعي فيضيفون الحكم إلى الحادثة المستجدة. ومثل هذا القياس المحدود ربما يصلح استكمالا للأصول التفسيرية في تبين أحكام النكاح والآداب والشعائر. لكن المجالات الواسعة من الدين لا يكاد يجدي فيها إلا القياس الفطري الحر من تلك الشرائط المعقدة التي وضعها له مناطقة الإغريق واقتبسها الفقهاء الذين عاشوا مرحلة ولع الفقه بالتعقيد الفني».
وفي موضع آخر يقول: «بدأ القياس في عهد الصحابة والتابعين قياسا حرًّا، كلما رأوا شبيها بين حادث وقع في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكم فيه، وحادث وقع من بعده، كانوا يعدون ذلك الحكم إلى هذه الحادثة، ولكن خشية من أن يضل الهوى بهذا القياس غير المنتظم، عطل الناس ذلك القياس الفطري واستعملوا المنطق الصوري التحليلي الدقيق حتى جمدوا القياس في معادلات دقيقة لا تكاد تولد فقها جديدا».
ويوضح د. الترابي طبيعة البديل القياسي الذي سيحل محل القياس المتحفظ الضيق في نظره، فيقول تحت عنوان "القياس الواسع": «ولربما يجدينا أيضا أن نتسع في القياس على الجزئيات لنعتبر الطائفة من النصوص ونستنبط من جملتها مقصدا معينا من مقاصد الدين أو مصلحة معينة من مصالحه ثم نتوخى ذلك المقصد حينما كان في الظروف والحادثات الجديدة».
ثم يقول: «وبذلك التصور لمصالح الدين نهتدي إلى تنظيم حياتنا بما يوافق الدين. بل يتاح لنا ـ ملتزمين بتلك المقاصد ـ أن نوسع صور التدين أضعافا مضاعفة».
أما عن كيفية الإجماع التي يراها د. الترابي فقد تحدث عنها في كتابه تجديد الفكر الديني تحت عنوان "الكلمة للمسلمين والإجماع إجماعهم".
وخلاصة رأيه في ذلك: أن الإجماع أصلا لعموم المسلمين، ولظروف تاريخية معينة ورد عليه بعض الانحراف، وهذه الظروف هي أن أقواما شتى دخلت في الدين ما كانوا يفقهون منه شيئا، وأحاطت بهم ظروف معينة كانت تحول بين استشارة المسلمين لهم، فكيف يستشار المسلمون وهم مئات الألوف وكانوا ينتشرون في أرجاء الأرض ليس بينهم تواصل إلا عن طريق الجمال، ومع ذلك عندما كانت تتيسر للرسول ـ صلى الله علي وسلم ـ الشورى للمسلمين كان يستشيرهم.
لذلك اضطر العلماء أن يجعلوا الشورى بين العلماء وأن يجعلوا الإجماع إجماع العلماء، وليس لهم مستند في ذلك إلا الضرورة العملية التي كانت قائمة يومئذ، فالإجماع في الحقيقة هو إجماع المسلمين.
ويرى د. الترابي أن الآية التي يحتج بها الذين يرون الإجماع حتما تتحدث عن المسلمين لا عن علمائهم: )ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا(. النساء: 115.
وحتى الآيات التي تلزم الإنسان الشورى تجعلها للمؤمنين: )وأمرهم شورى بينهم(. الشورى: 38. فكلمة أمرهم شورى جملة اسمية، مثل الحج عرفة، وبمقتضى اللغة: الحج وعرفة متلازمان، فكذلك الشورى والمسلمون متلازمان، ويعزز ذلك الأحاديث التي تحض على التزام الجماعة وتشدد عل البعد عنهم أو مخالفتهم.
ويقول د. الترابي: «ربما يعترض عليَّ معترض فيقول: أتترك الأمر للغوغاء والعامة يقولون فيه بأهوائهم؟».
ويجيب قائلا: «كلا، بل ينبغي على كل مسلم قبل أن يختار رأيا معينا أن يرجع إلى العلماء منهم، فهم الهداة الذين يدلوننا على الصواب، وفي النهاية فالقرار الذي يلزم المسلم هو لعامة المسلمين وجمهورهم».
ويضرب د. الترابي لذلك مثلا فيقول: «الصلاة مثلا واجبة على كل المسلمين ولا نقول إن بعض المسلمين عوام لا يدركون معاني الصلاة فلا ينبغي لهم أن يصلوا.. لا .. يجب عليك أن تعلمهم وترفع مستوى المسلمين ثقافيا وعلميا.
وفكرة الإجماع هذه يمكن أن يعبَّر عنها في رأيه بفكرة الاستفتاء الحديث، والإجماع غير المباشر وهو نظام النيابة الحديثة أو المجلس البرلماني الذي ينتخبه المسلمون انتخابا حرا يكون هو الخطة الاجتماعية عند المسلمين».
مناقشة هادئة
لا يختلف أحد مع الدكتور الترابي في أن المجتمع يتطور بصورة مذهلة حتى إن المتابع لا يستطيع ملاحقة ما يقذف به كلُّ صباح من مشكلات ومسائل تضع نفسها بين يدي الفقيه تتطلب حلا وتكييفا شرعيا لها، كما لا ينكر أحد أن الإسلام لا بد أن يفي بهذه المتطلبات حق الوفاء، ولا يكون بمعزل عن الواقع حتى لا تنفلت الحياة بعيدا عنه، وتسير على غير هدى.
وقد ضمن الإسلام ذلك تماما بما يتمتع به من سعة في منطقة العفو، وما يحمله من نصوص عامة ومقاصد كلية في الشئون العامة والجوانب الحياتية المختلفة، وهذا في الحقيقة ما يكفل للإسلام ـ باعتباره رسالة خاتمة ـ أن يكون صالحا لكل زمان، ومتناسبا مع كل مكان بما لا يخالف ـ بالطبع ـ أطره الكلية ومقاصده العليا.
لكن الملاحظ أن الدكتور الترابي في المحور الأول حمل حملة لا مسوغ لها على علم الأصول، واتهمه باتهامات لا مظاهر حقيقية لها، فلا يفتأ أن يصفه بالعجز والتقليدية، وأنه لم يعد مناسبا للوفاء بحاجتنا المعاصرة حق الوفاء، وأنه مهما تفنن علماؤه بالاستنتاجات والاستخراجات ومهما دققوا في الأنابيش والمراجعات لن يكون كافيا لحاجات الدعوة وتطلع المخاطبين بها ...إلخ.
وهو كلام يتصف بالعموم من غير تمثيل، فلم يذكر لنا الدكتور الترابي ما العيوب الموجودة في العلم حتى أضحى بهذا العقم، وما أسباب ذلك، وما أمثلته، ولم يذكر المساحة التي ينبغي تغييرها من مسائل العلم، ولا بيّن المساحة التي ينبغي تركها وأثر هذا كله في الفقه والواقع.
لو كان يقصد أن بعض المسائل في كتب الأصول لا ينبني عليها فروع فقهية لكان صحيحا، لكنه عمم في حكمه ولم يوضح المراد، وقد قال الإمام الشاطبي: «كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية».
ثم ما علاقة التطور المادي السريع بقواعد نظرية بحتة وظيفتها: الوصول من خلالها إلى الحكم على الأشياء والتصرفات حكمًا شرعيًا، وما العلاقة المتبادلة بين قواعد أصول الفقه وبين الكشف والاختراع؟ هل يؤثر ذلك على صيغ الأمر والنهي، وما إذا كان النهي فيها وجوبيا أو تخييريا، وما إذا كان النهي فيها للتحريم أو غيره، وما تأثير التكنولوجيا الحديثة والكشف الفضائي وارتياد القمر على استخراج الحكم من آية أو حديث أو قياس على نص أو إجماع؟
إن أصول الفقه علم له استمداده من علوم ثلاثة: علم اللغة العربية بفروعه المختلفة، وعلم الكلام، وعلم الأحكام الشرعية؛ فمسائل اللغة نقلية؛ بمعنى أنها أنشئت واحترقت عند إنشائها، فلا دخل لنا في تعديلها أو إضافة جديد لدلالاتها، أو في وضع جديد لألفاظها بإزاء معانيها، وعلم الكلام لا علاقة لمباحثه بتطور الأحداث ولا أثر لتطور الأحداث فيه، وأما الأحكام الشرعية فإنها معروفة بالمرونة في إطار المقاصد الكلية، فإن التطور لن يضيف للأحكام حكما جديدا فوق الأحكام الخمسة أو السبعة، ولن يزيد في المقاصد الشرعية مقصدا رابعا على الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
أما المحور الثاني الذي ذكر فيه انشغال الفقه بالتدين الفردي، فكتب الفقه فعلا فصلت أمور العبادات والتدين الفردي تفصيلا دقيقا؛ وذلك لأن أغلبها أمور توقيفية، لا يستطيع أحد أن يزيد فيها أو ينقص منها.
أما انشغال الفقه عن أمر الحياة العامة، فهذا وإن كان يريد اهتماما أكثر وعناية أكبر من علماء المسلمين إلا أن تاريخ التأليف الفقهي وتاريخ علماء الإسلام حافل بمؤلفات في هذا المجال، ولم يخل عصر من العصور من التأليف في أمور السياسة الشرعية وقضايا الاقتصاد العام ومسائل العلاقات الخارجية، ابتداء بأبي يوسف في "الخراج" ومحمد بن الحسن في "السير"، والسرخسي في "شرح السير الكبير"، وأبو عبيد في "الأموال"، ويحيى بن آدم في "الخراج"، وابن عقيل في "الفنون"، وأبي المعالي إمام الحرمين في "غياث الأمم"، والماوردي وأبي يعلى في "الأحكام السلطانية"، وابن تيمية في "السياسة الشرعية" و"الحسبة"، وابن القيم في "الطرق الحكمية" و"الإعلام"، وانتهاء بالنهضة الحديثة والمعاصرة حيث عبد الوهاب خلاف ومحمد أبو زهرة وعلي الخفيف وعبد الرحمن تاج ومحمد الصادق عرجون وضياء الدين الريس وحسن البنا وعبد القادر عودة وسيد قطب ومصطفى السباعي ومحمد المبارك والمودودي، وغيرهم.
فلم يتوقف سيل التأليف في هذه المجالات المهمة، ولا أهمل العلماء يوما مثل هذه القضايا الحساسة، ولا وقف الإسلام عاجزا على مدى التاريخ أمام مسألة جديدة ولا حادثة طارئة، إنما كان عنده لكل مشكلة علاج، ولكل حادثة حديث.
أما المحور الثالث فقد انقسم إلى قسمين: القياس والإجماع.
فأما القياس الموروث فقد خلع عليه أيضا صفات لا مسوغ لها مثل: تقليدي، ومحدود، متأثر بالمنطق الصوري، والقياس غير المنتظم...إلخ.
ومع ذلك لم يذكر د. الترابي مثالا واحدا في التاريخ كان للقياس فيه دور، ووقف أمامه عاجزا، فهو أيضا كلام عام غير واضح يحتاج إلى تحقيق.
على أن القياس الذي ينازع فيه د. حسن الترابي هو قياس العلة، ويقول ـ كما نقلنا عنه من قبل ـ: «بدأ القياس في عهد الصحابة والتابعين قياسا حرًّا، كلما رأوا شبيها بين حادث وقع في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكم فيه، وحادث وقع من بعده، كانوا يعدون ذلك الحكم إلى هذه الحادثة».
وهذا الذي ذكره يسمى قياس الشبه، وهذا النوع من القياس لم يعطله العلماء، بل هو حجة عند جمهور الأصوليين، لكن د.الترابي فاته أنه لا يصار إلى قياس الشبه مع إمكان قياس العلة بالإجماع.
فنحن نلجأ إليه عند تعذر معرفة علة حكم الأصل، وإلا فقياس العلة أضبط وأسلم، ولا ينازع فيه أحد من أهل العلم.
ولو افترضنا جدلا أن القياس الموروث لم يعد صالحا لاستيعاب حاجاتنا المعاصرة، فعندنا أصول أخرى تستوعب المستجدات مثل المصالح المرسلة، والاستصحاب، مع العلم أن القياس لا يفهمه ـ فضلا عن أن يستخدمه ـ عوام الناس، إنما يفقهه ويستخدمه أهل الأصول الراسخون في العلم، الذين يستطيعون أن يفعِّلوا القياس الحر.
أما القياس الواسع الذي يدعو إليه الدكتور فهو أكثر اتصالاً بالقواعد الكلية والمقاصد العامة.
وقريب من رأي الدكتور الترابي ذهب الدكتور محمد الدسوقي، لكنه ـ مع دعوته للقياس الفطري الحر ـ نراه يقرر ما يترتب على ذلك، ويحذر من اجتراء غير العلماء على ذلك، فالدعوة إلى التوسع في مفاهيم بعض الأدلة قد ينجم عنها اضطراب في الآراء، بسبب عدم الضبط الدقيق لحدود هذا التوسع، ولأن من ليس أهلا للاجتهاد قد يتخذ منه ذريعة للقول في الدين دون دراسة وفقه، فيكون ضرره وخطره فادحا؛ لأنه يصير الخلاف في الاستنباط خارج دائرة ما يقبل منه ويعد رحمة بالأمة فضلا عن بلبلة الأفكار، وفتنة الضعفاء أو العامة، وشغل الناس بما لا يجديهم في الدين والدنيا.
وتكاد كل الضوابط والقيود التي تحول دون أن يكون ذلك التوسع في مفاهيم تلك الأدلة سبيلا لتباين الآراء تباينا يمزق وحدة الجماعة، ويفت في عضد الأمة، ويغري من ليسوا أهلا للاجتهاد بالجرأة على الفتيا لا تخرج عن دائرة تنظيم الشورى أو الاجتهاد الجماعي، ليقوم بمهمة المراجعة والمتابعة وصولا إلى الرأي الحاسم الذي يجمع عليه العلماء أو جمهورهم.
وعن الإجماع الذي يقرر د. الترابي أن مفهومه قد حدث فيه انحراف بحيث كان الإجماع إجماع عموم المسلمين ثم صار إجماع العلماء فقط نتيجة لضرورة عملية ليس إلا، ويعلل إجماع العوام في الأمور الخاصة أو الاجتهادية بأن يسألوا العلماء وواجبٌ على العلماء إرشادهم وتعليمهم، فهذا كلام لم يقله أحد من أهل العلم، بل لم يقل به أحد من جميع الطوائف ممن تكلم في الأصول بحدوث هذا الانحراف في المفهوم.
وإذا كان العوام سيذهبون إلى العلماء يسألونهم عن أمر ما فمن باب أولى ترك الإجماع للعلماء وقصره عليهم، لا سيما في الأمور الاجتهادية التي تخفى على العوام.
أما الآية التي يستدل بها على أن الإجماع إجماع العموم، فقد قال عنها الغزالي: «الآية ليست نصا في الغرض، بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نوله ما تولى، فكأنه لم يكتف بترك المشاقة حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهى، وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم».
وقد نقل الجصاص أنه «لا يعتد بخلاف من لا يعرف أصول الشريعة، ولم يرتض بطرق المقاييس ووجوه اجتهاد الرأي».
وضرب د. الترابي مثلا للإجماع بالصلاة بالنسبة للعامي، فلا نقول إن بعض المسلمين عوام لا يدركون معاني الصلاة، ومن ثم فلا ينبغي لهم أن يصلوا.
وهذا قياس مع الفارق بداهة لوجوب الصلاة مع العلم والجهل، بينما الإجماع لا يكون إلا مع العلم، بل مع من تمتع بآليات الاجتهاد.
وظاهر من كلام د. الترابي أن هناك تداخلا وخلطا بين الإجماع والشورى، وكما هو معروف أنهما مختلفان من عدة وجوه:
*الشورى ترجع في النهاية إلى رأي القيادة، في حين يرجع الإجماع إلى رأي كل واحد.
*الشورى مختلف في أنها ملزمة أم معلمة، بينما لا يختلف كثير في أن الإجماع حجة قاطعة
ومعمول بها.
*الشورى مأمور بها في القرآن والسنة وهي من أصول النظام السياسي، لكنها ليست مصدرا يستقى منه الأحكام، بخلاف الإجماع.
* الشورى دور من أدوار الإجماع، وآلية من آلياته للوصول إلى رأي بين أهل الذكر.
والذي يقارن محاولة الدكتور محمد الدسوقي حول تجديد مفهوم الإجماع وتطويره يدرك موقع محاولة د. الترابي من الأصالة.
يقرر في البداية أن الإجماع أصل أصيل في الدين، وآيات القرآن وأحاديث النبي صريحة في مشروعية العمل بما وقع عليه الإجماع من المؤمنين.
ويذكر د. الدسوقي أنه يجب أن نُخرج من مفهوم الإجماع ما هو معلوم من الدين بالضرورة فلطال ما أطلقنا عليه إجماعا في تراثنا الفقهي، وإذا كان الأمر يستند إلى آية أو حديث، لا ينسحب عليه المفهوم الأصولي للإجماع؛ لأن كل جيل تلقاه عمن سبقه دون نكير من أحد، وهذا هو الذي لا يجوز لأحد خلافه ويكفر منكره.
وكذلك أخرج د. الدسوقي من الإجماع ما عُرف في ثراثنا بالإجماع السكوتي، ويرى أنه لا يصح أن يسمى إجماعا، فالسكوت ليس دائما آية الموافقة، وجوهر الإجماع يقوم على المحاورة والنقاش العلمي الذي تتبلور من خلاله الحقائق التي تقود المجتمعين إلى رأي فيما يبحثون.
ويقرر د. الدسوقي أن تعريف الإجماع في أدبنا الأصولي يحتاج إلى مراجعة وتطوير؛ حيث إن تعريفه بأنه اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عصر من العصور على حكم شرعي، يعتبر افتراضا لا تشهد له النصوص، ولم يفهمه الجيل الأول؛ حيث كانوا يتشاورون ويقضون بما يجمعون عليه، وما كان إجماعهم إجماعا لكل علماء الصحابة، وإنما كان إجماعا لمن حضر منهم، فما كان أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي يتوقف عن تنفيذ ما وصل إليه حضور علماء الصحابة إلى أن يستشير غيرهم ممن هم منبثون في مختلف أصقاع المسلمين، وبالتالي فإن تقييد صحة الإجماع باتفاق كل المجتهدين في عصر من العصور لا ينهض له دليل ولا تؤيده آثار، ولهذا لم يتحقق هذا الإجماع المفترض في تاريخ الأمة.
وإذا كان هذا الإجماع بما قيده به الأصوليون لم يتحقق في عصر الصحابة فعدم تحققه في عصور من بعدهم أصعب وأشق لاختلاف الديار وتباعد الأوطان، على أنه ليس من اليسير أن يتفق عدد كبير من المجتهدين في عصر واحد على مسألة واحدة، وعليه ـ حتى يكون الإجماع عمليا ومفعَّلا ـ ينبغي أن يكون نعتمد إجماع الجمهور أو الأغلبية.
إذن كلام الدكتور الدسوقي يتلخص في ثلاث نقاط:
الأولى: إخراج الأمور المعلومة من الدين بالضرورة من الإجماع.
الثانية: إخراج ما يسمى بالإجماع السكوتي.
الثالثة: تغيير تعريف الإجماع بأن يصبح إجماع الجمهور أو الأغلبيه من خلال مجمع فقهي.
وهو كلام أدعى أن يُخرج الإجماع من الكلام النظري إلى الكلام العملي والتفاعل مع الواقع.
بينما جاء كلام الدكتور الترابي في هذه المحاولة ـ كما يقول الدكتور علي جمعة ـ "عن" المسألة أكثر من كلامه "في" المسألة، ولعل له عملا آخر تناول فيه المسألة بطريقة أعمق من هذا، خاصة وقد قال في آخر كتابه "تجديد أصول الفقه الإسلامي": «هذه إشارات عابرة ارتجلتها في سياق الحديث عن تجديد أصول الفقه ونظمه ومشكلات نهضته في الحاضر، وأرجو أن يتاح لي مجال أوسع أتناول فقه الأصول ونظمه بمنهج أدق وتحليل أعمق إن شاء الله».
من كتاب: المحاولات التجديدية المعاصرة في أصول الفقه

 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
بارك الله فيك
 
إنضم
17 يناير 2011
المشاركات
27
التخصص
أصول الفقه
المدينة
صنعاء
المذهب الفقهي
الشافعية
رد: المحاولات التجديدية المعاصرة في أصول الفقه ( دراسة تحليلية )

كتاب رائع
وتلخيص رائع أيضاً
والأكثر روعة جهدكم الدؤوب في توصيل كل ذلك الينا..
بارك الله فيكم
وجزاكم بكل مسرة وهناء
 
أعلى