العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مشهد تنبؤي في القرآن الكريم في سورة الروم

محم فهيم كيال

:: متابع ::
انضم
7 مارس 2025
المشاركات
2
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبدالله
الدولة
ألمانيا
المدينة
هامبورغ
مشهد تنبؤي في القرآن الكريم في سورة الروم

قراءة تأملية في قوله تعالى ﴿ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله﴾


في سورة الروم، يورد القرآن مشهدًا تنبؤيًا مثيرًا:

﴿الٓمٓ (1) غُلِبَتِ ٱلرُّومُ (2) فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ (3) فِي بِضۡعِ سِنِينَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ (4) بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (5) وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ (6) ﴾.

ظاهريًا، تشير هذه الآيات إلى نبوءة قرآنية تحققت تاريخيًا حين انتصر الروم البيزنطيون على الفرس الساسانيين بعد هزيمة مدوية. وقد فرح المسلمون بذلك لأن الروم كانوا أهل كتاب، في مقابل الفرس الوثنيين. التفاسير المعروفة ترى أن "نصر الله" يشير إلى غلبة الروم على الفرس، وهو ما تحقق فعلاً بعد أقل من عشر سنوات. لكن التأمل الدقيق في النص، وفي دقة الألفاظ القرآنية، يكشف لنا بعدًا أعمق وألصق بالمقاصد الإيمانية.


الفرق بين "الغلبة" و"النصر" في القرآن الكريم

حين نتتبع مواضع كلمة "نصر" في القرآن الكريم، نجدها تكاد تكون مقصورة على:

نصر الله لعباده المؤمنين

أو طلب المؤمنين للنصر الإلهي

أو نصر الله لرسله

قال تعالى ﴿إن ينصركم الله فلا غالب لكم﴾ [آل عمران: 160]

وقال ﴿ولينصرن الله من ينصره﴾ [الحج: 40]

وقال ﴿وما النصر إلا من عند الله﴾ [آل عمران: 126]

وقال ﴿إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم﴾ [محمد: 7]



في حين أن "الغلبة" قد تُنسب لأهل الحق أو للباطل، وهي تعني مجرد التفوق أو السيطرة المؤقتة، لا النصر بمعناه الرباني.

قال تعالى ﴿غُلِبَتِ الروم﴾ [الروم: 2]

وقال ﴿فغُلِبوا هنالك وانقلبوا صاغرين﴾ [الصافات: 180]

وهذا يقود لتساؤل محوري:

إذا كانت "الغلبة" هي ما تحقق للروم، فلماذا يقول الله تعالى بعد ذلك في الآية الكريمة: "ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله﴾؟

فما المقصود هنا "نصر الله"؟ ولمن أُعطي؟


المصدر اللغوي:

من حيث اللغة هناك فرق بين كلمة " نصر" وكلمة "غلب"، ففي لسان العرب (ابن منظور): مادة "نصر" تحمل دلالة الدعم الإلهي والانتصار في الحق، بينما "غلب" قد تعني مجرد التفوق.


متى غلبت الروم؟ ومتى نصر الله المؤمنين؟ التـأريخ الزمني للحادثتين

بحسب المؤرخين:

غُلِبَت الروم عام 614م على يد الفرس.

ثم انتصر الروم على الفرس في معركة نينوى 627م (راجع: الطبري، تاريخ الرسل والملوك؛ Will Durant, The Story of Civilization).

في مثل ذاك الوقت وقع صلح الحديبية سنة 6 هـ / 628 م، (قد يكون فارق الزمن أسابيع أو شهور قليلة)، الذي وصفه سبحانه وتعالى في سورة الفتح بـالنصر العزيز، فقال تعالى:

﴿إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا... وينصرك الله نصرًا عزيزًا﴾ [الفتح: 1–3]

وكذلك يشهد لهذه المزامنة التأريخية حديث أبي سفيان وهرقل، الحديث المشهور في صحيح البخاري (كتاب بدء الوحي، رقم 7):

قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه،

وهذا يرجح أن اللقاء كان بعد صلح الحديبية (راجع: ابن حجر، فتح الباري).

هذه المزامنة تسمح بتأويل جديد، وهو أن الآية ﴿ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله﴾، قد تشير إلى نصر المؤمنين الحقيقي في الحديبية، لا فقط إلى غلبة الروم.

تأمل ختامي

إذا تأكد أن "نصر الله" في السياق القرآني لا يُعطى إلا للمؤمنين، فإن فرح المؤمنين لم يكن فقط بانتصار الروم (وهم ليسوا مؤمنين بالقرآن)، بل كان بتزامن ذلك مع نصر الله الحقيقي لعباده المؤمنين.

وهنا تظهر دقة التعبير القرآني وما فيها من النبوءة

ومما يؤكد هذا المعنى ورود ذكر وعد الله في الآية التي تلتها، حيث جاء فيها عن إنجاز وعد الله، فقال تعالى: ﴿وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ﴾، [الروم: 6] ولا شك أن المقصود ليس وعد الله تعالى للروم بنصرهم على الفرس، وإنما بوعده تعالى بنصرة رسله والذين آمنوا، فقال تعالى في نهاية سورة الروم، آية 60، ﴿ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين﴾، وفي سورة غافر، آية 51، قال تعالى ﴿إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد﴾.

المراجع

  • القرآن الكريم – سور الروم، آل عمران، الفتح، الحج، غافر
  • صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، حديث أبي سفيان وهرقل
  • فتح الباري (ابن حجر) – شرح الحديث المذكور
  • تاريخ الطبري، حوادث بداية القرن السابع الميلادي
  • لسان العرب (ابن منظور)، مادة "نصر" و"غلب"
  • المجلد المتعلق ببيزنطة والفرس، Will Durant, The Story of Civilization
  • ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تفسير سورة الروم
  • القرطبي، الجامع لأحكام القرآن – نفس
 
أعلى