العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

سؤال: هل توجد أمثلة لرجوع الصحابة إلى التابعين في مسألة من المسائل؟

انضم
3 نوفمبر 2022
المشاركات
1
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أحمد
التخصص
الفقه وأصوله
الدولة
باكستان
المدينة
فيصل آباد
المذهب الفقهي
الحنبلي
هل توجد أمثلة لرجوع الصحابة إلى التابعين في مسألة من المسائل؟
 
انضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,687
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
هل توجد أمثلة لرجوع الصحابة إلى التابعين في مسألة من المسائل؟
فهذا السُّؤال الحثيث يأتي من مدينة "فيصل آباد" بدولة "باكستان" من أخينا الفاضل أبي أحمد صهيب مختار نور عبد السلام.
فالسَّلام عليك ورحمة الله وبركاته، وإليك الجواب من جوار بيت الله الحرام، من مكَّة المكرَّمة.

وقد كان سؤالك دقيق جداً، بارك الله فيك، وقد أحسنت السُّؤال، فالموضوع لطيفٌ، كما أَنَّ فيه فوائد تربويَّة، وأخرى منهجيَّة.
ولا يخفى أَنَّ الأصل أَنَّ الصَّحابة -رضوان الله عليهم- كانوا هم المرجع في الفتيا والبيان، والتَّابعون يأخذون عنهم، لكن وردت أمثلةٌ نادرةٌ لرجوع بعض الصَّحابة -رضي الله عنهم- إلى بعض كبار علماء التَّابعين -رحمهم الله- إِمَّا لعدم حضور النَّصِّ عند الصَّحابيِّ، أو لتخصُّص التَّابعيِّ في باب معيَّنٍ، أو لعلمٍ بلغ التَّابعيَّ ولم يبلغ الصَّحابي، أو لتعليم الصَّحابيِّ تلاميذه على الفتيا والاستئناس بمقدرتهم، والاطمئنان على نموِّ حصيلتهم في العلم والفقه؛ وهذه الأمثلة تذكرها كتب الآثار، وسجَّلتها طبقات المحدِّثين، وسأذكر بعض الأمثلة التي وردت في كتب الآثار والتَّراجم:
١. رجوع ابن عمر إلى -ابنه- سالم بن عبدالله:
كان عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- إذا سئل عن مسألة ولم يحضرها النَّصًّ، يقول: «سلوا سالماً»، إشارةً إلى ابنه سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطَّاب (من كبار التَّابعين)، فقد كان أعلم النَّاس بحديث أبيه، وبأحاديث نافع مولى ابن عمر. ذكره الذهبي في سير أعلام النُّبلاء.
التَّعليق: هذا ليس رجوعاً في معنى التَّعلُّم المحض، بل إقرارٌ بتميُّز التَّابعي (سالم) في حفظ فقه أبيه، وكأنَّ الصَّحابي يُحيل عليه؛ لزيادة الضبط.

٢. رجوع أبي هريرة -رضي الله عنه- إلى -صهره: زوج ابنته- الفقيه التَّابعي: سعيد بن المسيّب (ت:94هـ):
ذكر ابن سعد في الطَّبقات أَنَّ أبا هريرة -رضي الله عنه- كان يقول: «ما أعلم أحداً أعلم بفُتيا من سعيد بن المسيّب». وقد روي أَنَّه أحاله في بعض مسائل الطَّلاق إلى سعيد.
التَّعليق: سعيد بن المسيّب (ت:94هـ) كان يُلقّب: "أعلم النَّاس بقضاء عمر"، فكان الصَّحابة بالمدينة يقرُّون بمرجعيَّته، حتَّى مع وجود أبي هريرة نفسه.
وهنا لطيفةٌ؛ والشَّيء بالشَّيء يذكر؛ ولتمام الفائدة؛ ولتكتمل الصُّورة في وفور علم التَّابعين؛ ولترسيخ هذه الفائدة لدى طلبة العلم؛ أنقلها هنا؛ وهي مصوغةٌ في بيتين من منظومة سُلَّم الوصول إلى علم الأصول للإمام الفقيه الأصوليِّ إبراهيم بن مطير الحكمي (ت: 959هـ)، والبيتان هما:

إلَّا مَرَاسِيْلَ الفَتَى سَعِيْدِ … فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ المَسْنُوْدِ
لأَنَّهَا تُتُبِّعَتْ فَوُجِدَتْ … مُسْنَدَةً عَنْ صِهْرِهِ فَاعْتُمِدَتْ
الشَّرح والتَّحليل:
المراد بالفتى سعيد: سعيد بن المسيّب (ت:94هـ) سيِّد التَّابعين.
المراسيل: هي الأحاديث التي يرويها التَّابعي الكبير مباشرةً عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بلا ذكر للصَّحابي.
والمعنى: أنَّ مراسيل سعيد بن المسيّب لها خصوصيَّة؛ فقد تتبَّعها الأئمَّة فوجدوها متَّصلة الأسانيد؛ ذلك أَنَّ أكثرها عن صهره أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ لأَنَّه زوَّجه ابنته-؛ فكان كثير النَّقل عنه؛ ولذلك كانت معتبرة، حتَّى قال الإمام الشَّافعي في الرِّسالة: «مراسيل سعيد عندنا حُجَّة»؛
ولهذا استثنيت من قاعدة ردِّ المراسيل؛ فعدُّوها قريبةً من المسند.

٣. رجوع ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- إلى كعب الأحبار:
ورد أَنَّ عبدالله بن عبَّاس -رضي الله عنهما- كان يسأل كعب الأحبار (من كبار التَّابعين من أهل الكتاب الذين أسلموا) عن بعض أخبار بني إسرائيل، ويستفتيه فيما لا نصَّ فيه. ذكره ابن حجر في الإصابة.
التَّعليق: هذا من باب الاستفادة من علمه السَّابق بكتب أهل الكتاب، وكان ابن عبَّاس يميِّز الصَّحيح من الباطل فيما ينقله.


٤. رجوع بعض الصَّحابة إلى محمَّد بن سيرين (ت:110هـ):
قال ابن سعد في الطَّبقات: كان أنس بن مالك -رضي الله عنه- يستفتي محمَّد بن سيرين في مسائل البيوع والمعاملات.
التَّعليق: هذا يُظهر أَنَّ الصَّحابيَّ قد يرجع للتَّابعيِّ فيما توسَّع فيه من دقائق فقه المعاملات، خاصَّة مع طول حياة أنس بن مالك بالبصرة.


٥. رجوع ابن عمر -رضي الله عنهما- إلى نافع مولاه (ت:117هـ):
كان عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: «كلُّ ما يقول هذا -يعني نافعا- عنِّي فهو عنِّي» الذَّهبي، السِّير.
التَّعليق: نافع مولى ابن عمر من كبار التَّابعين، صار أوثق النَّاس في فقه ابن عمر، حتَّى كان ابن عمر يجيز الرُّجوع إليه فيما ينقل عنه.


٦. رجوع أنس بن مالك -رضي الله عنه- إلى الحسن البصري (ت:110هـ):
روى ابن سعد في الطَّبقات: أَنَّ أنس بن مالك -رضي الله عنه- كان يقول: «سلوا الحسن؛ فإِنَّه أعلم بما تسألون».
التَّعليق: الحسن البصري كان إمام البصرة وفقيهها، مع عظيم زهده وورعه، فكان أنس يشهد له بالفضل، ويرجع النَّاس إليه.


٧. رجوع أبي هريرة -رضي الله عنه- إلى شريح القاضي (ت:78هـ):
ذكر ابن عبدالبرِّ في الاستيعاب أَنَّ أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: «أقضانا شريح»، وكان يُحيل في بعض المسائل القضائيَّة إليه.
التَّعليق: شريح بن الحارث الكندي (ت:78هـ) تابعيٌّ جليل؛ ولي القضاء لعمر وعثمان وعلي، وكان الصَّحابة يعترفون له بعلوِّ الكعب في القضاء.


٨. رجوع بعض الصَّحابة إلى عطاء بن أبي رباح (ت:114هـ):
قال عطاء: «أدركتُ ثلاثمائة من الصَّحابة، ما من مسألة تُشكل على أحدهم إِلَّا سألني عنها» الذَّهبي، في السِّير.
التَّعليق: عطاء (ت:114هـ) كان مفتي الحرم، وأقرَّ له الصَّحابة بالعلم؛ حتَّى صاروا يرجعون إليه في مناسك الحجِّ خاصة.

٩. رجوع جابر بن عبدالله إلى مجاهد بن جبر (ت:104هـ):
كان جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- يسأل مجاهداً عن تفسير القرآن، ويستفيد منه؛ فقد قال مجاهد: «عرضت المصحف على ابن عبَّاس، أوقفه عند كلِّ آية، وأسأله عنها». ثُمَّ صار جابر يُثني على علم مجاهد في التَّفسير، ينظر: الطَّبقات.
التَّعليق: هذا من شواهد أَنَّ الصَّحابيَّ قد يرجع للتَّابعيِّ في علمٍ توسَّع فيه.

١٠. رجوع ابن عبَّاس إلى طاوس بن كيسان (ت:106هـ):
قال طاووس: «كنتُ جالساً مع ابن عبَّاس، فسُئل عن مسألة، فقال: أفتهم يا طاووس» الذَّهبي، في السِّير.
التَّعليق: يدلُّ على ثقته بعلم طاووس، وإقراره بأَنَّ عنده ما يسُدُّ مسدَّ فتواه.


الخلاصة:
أَنَّ الأصل أَنَّ التَّابعين يأخذون عن الصَّحابة -رضوان الله عليهم-؛ إِلَّا أَنَّه وردت صورٌ نادرةٌ من رجوع الصَّحابة للتَّابعين؛ إِمَّا لزيادة الضَّبط، كما حدث مع سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطَّاب، أو للرُّسوخ في فقه معيَّنٍ كما حصل مع سعيد بن المسيّب، أو لعلمٍ مخصوص لم يتوفَّر للصَّحابيِّ كما جرى لابن عبَّاس مع كعب الأحبار.
وكما سبق فقد عُرف من التَّابعين الذين رَجَع إليهم الصَّحابة، أو أحالوا عليهم في مسائل علميَّة، أو فقهيَّة جماعة من الأعلام، من أبرزهم: محمَّد بن سيرين (ت:110هـ)؛ الذي كان أنس بن مالك -رضي الله عنه- يرجع إليه في مسائل البيوع والمعاملات. ونافع مولى ابن عمر (ت:117هـ)؛ الذي كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يُقرُّ روايته، ويفوِّض من يسأله إليه. والحسن البصري (ت:110هـ)؛ الذي كان أنس بن مالك -رضي الله عنه- يشهد له بالعلم، ويُقرُّ له بالفضل، ويأمر بالرُّجوع إليه. وشريح القاضي (ت:78هـ)؛ الذي كان أبو هريرة -رضي الله عنه- يُحيل إليه في دقائق القضاء، وبيان أحكامه. وعطاء بن أبي رباح (ت:114هـ)؛ الذي أطبق النَّاس على مرجعيَّته في المناسك؛ حتَّى كان الصَّحابة -رضوان الله عليهم- يرجعون إليه في تفاصيل الحجِّ. ومجاهد بن جبر (ت:104هـ)؛ الذي استفاد منه جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- في التَّفسير. وطاوس بن كيسان اليماني (ت:106هـ)؛ الذي كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يأذن له بالفتيا بين يديه، ويشهد بتمكُّنه.
وهذه النُّقول عن رجوع الصَّحابة -رضوان الله عليهم- إلى التَّابعين -رحمهم الله- ليس هو الأصل، لكنَّه واقعٌ عند الحاجة؛ فقد وقع في أبوابٍ متفرقة من العلم، في: الفقه، والتَّفسير، والقضاء، والمناسك، وغيرها من أبواب العلم؛ وهو مبنيٌّ على ثقة الصَّحابة بفضل التَّابعين، وبيان تخصُّصهم، وضبطهم للعلم.
كما أَنَّها تبرز التَّواضع العلميَّ لأصحاب رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وتداخل طبقات الرِّواية والفتيا، وتعكس اعتراف الصَّحابة -رضوان الله عليهم- بالفضل، وتُظهِر كيف انتقل العلم بسلاسةٍ من الصَّحابة إلى التَّابعين.
وهذه الأمثلة التي ذكرت وغيرها ممَّا يمكن أن يُضاف من رجوع الصَّحابة إلى التَّابعين في المسائل العلميَّة تصلح أن تكون موضوعاً لرسالة علميَّة أو موسوعةٍ تراثيَّةٍ في بابها؛ لما تحويه من قيمة عظيمة: من حيث تقويم التُّراث الإسلاميِّ، وبيان مراتب الاجتهاد، ومناهج النَّقد.
وممَّا يمكن ذكره من القيمة البحثيَّة العلميَّة لهذه الأمثلة، ما يلي:
1. أَنَّها توفِّر نموذجاً علميَّاً لرصد التَّفاعل بين الصَّحابة والتَّابعين، فيجمع إلى الدِّراسة النَّقليَّة؛ تحليل المنهجيَّة، ودراسة الأسباب وراء الرُّجوع، وبيان السِّياق التَّاريخي.
2. أَنَّها تبرز تواضع كبار الصَّحابة، بل واعترافهم بتميُّز التَّابعين، وهو بابٌ غنيٌّ للنِّقاش في الدِّراسات الإسلاميَّة.
3. أَنَّها ترصد نموَّ الحركة الشَّرعيَّة الفقهيَّة في العصر الأَوَّل الإسلاميِّ، وتمهِّد لفهمٍ أعمق للتَّأصيل والنَّقل الفقهيِّ.


اللَّهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله الطَّيِّبين، وصحابته النَّقلة النَّابهين، وعلى التَّابعين النَّابغين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وعنَّا معهم يا أكرم الأكرمين.
وكتبه أبو أسامة
في مكَّة المكرَّمة
6 / 3 / 1447هـ
الموافق 29-8-2025م
 
أعلى