العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

المنهج الأصولي بين ابن حزم وابي الحسن القصاب

إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه

مقدمة


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه بلغ الرسالة وأدى الأمانة..فاللهم اجزه كفاء ما نصر وعلم...

وصل اللهم على الآل الكرام والصحب العظام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد :

فإن الله تعالى بعث لهذه الأمة نبيا دلها على أقوم السبل وأرشدها إلى أهدى الطرق فأنقذها بذلك من براثن جهل كانت تعيش فيه وأغلال شرك كانت تحيا به , فعزز جانبها وخيفت شوكتها ..ثم انتقل النبي الكريم إلى جوار الله تعالى إذ كان حقا على كل إنسان ان يموت.. قال تعالى : كل نفس ذائقة الموت وما انتقل  حتى حذرنا أمورا ورغبنا في أخرى فكان مما حذرنا منه : الإبتداع والتباغض والتفرق وكان مما رغبنا فيه الإتباع والتواد والإتحاد..وهي مجموعة في قوله عليه السلام : "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه"1 فإن الإعتصام بالكتاب والسنة واتباع ما دلا عليه من الأمور كلها سبيل هدى وطريق رشاد فما تركا شيئا يؤدي إلى النار إلا حذرا منه وما من شئ يؤدي إلى الجنة إلا رغبا فيه , وفي هذا المعنى يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا ان تميلوا بالناس يمينا وشمالا2..

وقد ظهر قوم مالوا بالناس يمينا وشمالا وسلكوا بهم اسوأ الطرق فضلوا وأضلوا وهم يحسبون أنهم على شئ وقد خاب ما حسبوا , يتسترون بظاهر من الكتاب وقد انطوت قلوبهم على المروق من الدين والإستفراد بالرأي دون الوحي فنشأت عنهم الفرق الضالة , فجنوا أوزارا في معاشهم وما زالوا يجنونها بعد مماتهم ..

وما دخل الخلط على هؤلاء واضرابهم إلا من جهة فساد منهجهم العلمي الذي أدى بهم إلى العذاب في الآجل والزراية في العاجل , وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن سبب اهتمامه الشديد بالأصول فكان من جوابه أن علة تفرق الأمة وتشتتها هو اختلافها في الأصول , فكان العمل على إثبات صحة أصول أهل الحق وتزييف اصول أهل الباطل من آكد الواجبات...

وإني محاول في ما يلي من هذه الوريقات أن أبرز المنهج الأصولي عند اثنين من خواص أهل السنة والجماعة الذابين عن دين الله , المحاربين لأهل العناد والشقاق, المنكصين لأعلام أهل النزاع في الدين والإفتراق: ابو محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي وأبو الحسن محمد بن علي الكرجي .

ومكانة كل واحد منهما لا تخفى إلا على متعصب – ولا حيلة لنا معه- ...

وأبو محمد بن حزم غني عن التعريف – والمعرف لا يعرف- أما أبو الحسن فلا نعرف عنه إلا اسمه وأسماء بعض من تصانيفه التي فقدت أجمعها إلا نكت القرآن , أما شيوخه فلا توجد لأغلبهم ترجمات و وهذا أمر لايضره أبدا فكل إنسان يحاسب لوحده , وما دخل فلان أو علان فيه ؟ وكل يشهد له علمه وابو الحسن أوحد عصره في الفنون جميعها وشهد له بذلك الذهبي رحمه الله ...

لذلك فإني لن أخصص فصلا لترجمة كل منهما بل اشرع في المقصود واسال الله تعالى العون والتوفيق والسداد .

وخطة بحثي كالتالي:

تمهيد : في تاريخ أصول أهل الظاهر

الفصل الأول : موقف الإمامين من أساسي اصول أهل الظاهر :

تمهيد :

المطلب الأول : ابن حزم

المطلب الثاني : ابن علي

المطلب الثالث : في المقارنة بينهما

الفصل الثاني : موقف الإمامين من الأدلة المتفق عليها عند الجمهور:

المطلب الأول : الأدلة عند الجمهور. وفيه مسائل:

المسألة الأولى : الأدلة عندأبي حنيفة

المسألة الثانية : الأدلة عند مالك

المسألة الثالثة : الأدلة عند الشافعي

المسألة الرابعة : الأدلة عند أحمد

المطلب الثاني : الأدلة عند ابن حزم

المطلب الثالث : الأدلة عند ابن علي

المطلب الرابع : في المقارنة بين المذاهب الثلاثة

الفصل الثالث : في أوجه الإتفاق والإختلاف بين منهجي الإمامين.

خاتمة : ألخص فيها أهم النتائج التي أرجو أن تكون صحيحة ومحررة.




هذا وإني لأشكر الله تعالى على نعم وآلاء لا زالت تترى واحدة بعد اخرى , واساله ان يديمها علينا بمنه وكرمه .

كما أشكر كل من استفدت منه – وشكرهم لا يوفى في كلمتين- منهم اساتذتي ومؤلفو الكتب والمشايخ في دارة اهل الظاهر وأخص بالذكر من بينهم – وكلهم مستحق للشكر- مولانا فضيلة الشيخ الأستاذ محمد الريحان التميمي , واقول له : تقبل شكر وعرفان هلالي يتمنى أن يرد لكم عظيم الصنائع في وقت نتمنى أن لا يطول ...

كما اشكر المشايخ في ملتقى المذاهب الفقهية وخاصة فضيلة الشيخ الأستاذ سيدي فؤاد هاشم وفضيلة الشيخ عبد الحميد الكراني...








تمهيد :






* المسار التاريخي للمنهج الأصولي الظاهري
:











إنني أعتقد أن فهم المسار التاريخي لكل مذهب ومنهج هو أول خطة منهجية غاية في الصحة , تؤدي –بإذن الله- إلى تصور الموضوع تصورا جيدا ...

وفائدة التصور الجيد تتمثل في التوصل إلى نتائج عادلة محررة أو قريبة من ذلك , ولا يخفى أن غاية كل بحث هو الوصول إلى الحقائق 3..

وأنا لا أدعي أنني جيد التصور لموضوعي ولا ادعي نتائجي ستكون محررة ولكننا نحاول ومن أخطأ مرة سيصيب مرة اخرى ...




*************​


يرجع بعض الدارسين نشأة المذهب الظاهري إلى الإمام داود بن علي الأصفهاني رضي الله عنه ويقولون هو أول من انتحل القول بالظاهر وممن قال بهذا القول – ولعله أولهم- الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في تاريخ بغداد حيث يقول :" وهو أول من أظهر انتحال الظاهر ونفى القياس في الأحكام قولا واضطر إليه فعلا فسماه دليلا"4 وتوبع على هذا القول من طرف العديد من أهل العلم –متابعة تقليد- إذ كانت الخصومة بين أهل الظاهر زمن ابن حزم وأهل المذاهب في أوجها فلم يكن هناك مجال للإنصاف والبحث الحر إلا في القليل النادر ..

وهذا الكلام لا يصمد أمام حقائق البحث وهذا ما انتبه إليه الدكتور نور الدين الخادمي –فيما يبدو- فغير العبارة المتداولة وقال : "إن العمل بالظاهر باعتباره مذهبا فقهيا واتجاها من اتجاهات التعامل مع الألفاظ والنصوص فهما وتنزيلا , وباعتباره مندرجا ضمن مدرسة أصولية لها أعلامها وخصائصها, إن العمل بالظاهر حسب هذا الإعتبار يكاد المؤرخون والباحثون يجمعون على ان مؤسسه الأول هو الإمام داود بن علي الأصفهاني "5 . فالذي يظهر من كلام الدكتور أنه يفرق بين الظاهرية ك"مذهب" لها أعلامها والظاهرية ك" منهج" .., وهذا ما يدل عليه كلام ابن حزم رحمه الله :"وكان حدوث الرأي في قرن الصحابة , مع ان كل من روي عنه في ذلك شئ من الصحابة فهو متبرئ منه , غير قاطع به ...ثم حدث القياس في القرن الثاني قال به بعضهم وأنكره سائرهم وتبرؤوا منه ...ثم حدث الإستحسان في القرن الثالث ...ثم حدث التعليل الوالتقليد في القرن الرابع.."6. فالظاهرية كمنهج له جذوره الممتدة إلى عصر الصحابة إذ كان هو المنهج السائد للضرورة المنطقية التي تقول الآتي : بعد انتقال المصطفى إلى جوار ربه  لم تظهر حاجة إلى قياس ولا إلى غيره فإن الزمان لا يتغير بين ليلة وأخرى ولا حتى عشر سنوات, فكان الناس على الأمر الأول : الكتاب والسنة وفق لسان العرب إذا عدم تفسير من النبي عليه السلام, ثم بعد مرور السنوات ظهرت وقائع جديدة لكنها لا تخرج عما كان والعصر الواحد يكون له طابع واحد في الغالب فمن بلغه النص حكم به ومن لم يبلغه إما سكت وإما قال برأيه دون أن يلزم غيره به لأن الراي هو أن يحكم المفتي بما يراه أعدل واحوط وأحسن7 و الصحابة مجمعون على فساد القول بالرأي وبعضهم لربما كان يرى جواز القول به حال الضرورة...

ثم ظهر القياس لما كثرت الحوادث واحتاج الحكم عليها إلى قانون يضبط الأحكام – وكان قليلا حسب ابن حزم ومنعدما حسب القصاب بين الصحابة- لكنه بدأ يكثر في التابعين وخاصة اهل العراق لأسباب موضوعية منها العجمة والخلفية الحضارية وكثرة الوضع وقلة السنن واشتراط شروط للعمل بهذه النصوص أدى إلى اطراح الكثير منها...فمنطق الأمور يسوغ العمل بالقياس والحال كما وصفت..

والخلل هنا هو خلل تصوري أدى إلى خلل تصديقي : فالتصور القاضي باشتراط شروط لقبول الأخبار والتصور القاضي بوجود حوادث لا نص لها هو الموقع للفقهاء في القياس وغيره...

لكل ما سبق فإني أقول أن عدم القول بالقياس والرأي كان هو الأمر الأول ولا شك أن لكل تيار طائفة من المخلصين له وبما أن هذا التيار كان يرى أن هذا هو ما كان عليه النبي عليه السلام وعصر الخلافة الأولى فإنهم قالوا : لا نزيد على ذلك لأن الله تعالى قال  اليوم أكملت لكم دينكم وهذا هو ما كان عليه داود الأصبهاني فهو امتداد لمن سبقه ولم يكن لوحده على هذا الراي بل كان معه آخرون كثر على رأسهم اصحاب داود والإمام النبيل ابن أبي عاصم والإمام البخاري وقبلهم الشعبي وعدد لا يحصى...

فالقول بأن داود أول من ابتدع القول بالظاهر لا يسنده دليل من عقل ولا نقل , على انني أزيد فأقول غن حقائق أخرى تعضد ما قلته :

القياس عمل ووسيلة لاستنطاق دليل شرعي ظاهر-كذا قال الحذاق- وهو متأخر عن الدليل فإنك تنظر في منطوق هذا الدليل ابتداء ثم تنظر في وسائل أخرى متأخرة عنه فأهل الظاهر قالوا : النصوص كافية وهو مروي عن غير واحد منهم البخاري وعليه فلا حاجة لأية وسيلة أبدا ...

هذا بالإضافة إلى ان ذم الرأي والقياس والإبتداع مروي عن عدد لا يستهان به من الصحابة والتابعين , ومن خرج بعض اجتهاداتهم على أنه عمل بالقياس غير مسلم أبدا , ولذلك تجد الإمام أبا الحسن القصاب صنف كتابا اسماه "شرح النصوص" بين فيه أن أحدا من الصحابة والتابعين لم يقس وكذلك فعل ابن حزم في عدد من القضايا وربما صنف غيرهما من اهل الظاهر في هذه المسألة , ووجه قولي ظاهر فإن الإمام قد يكون بنى مسألته على أصل غير الأصل الذي ظن هذا الفقيه أنه قد بناه عليه ولذلك تجد الإمام الزركشي عاب على الجويني طريقته في استنتاج مذهب الشافعي في اصول الفقه من الفروع فيقول :" وهذا خطأ في نقل المذاهب فإن الفروع تبنى على الأصول ولا تبنى الصول على الفروع فلعل صاحب المقالة لم يبن مسائله على هذا الأصل وإنما بناها على أدلة خاصة "8 وهذا المنهج الذي عابه الزركشي على الجويني هو نفسه الذي ينبغي ان يعاب على من صنع مثله مع فروع الصحابة والتابعين...

لكن ينبغي أن نطرح على أنفسنا سؤالا مهما : لماذا قيل في داود أنه صاحب مذهب ؟ ولم يقل ذلك في غيره من أهل الظاهر المعاصرين له ؟

إنني لا املك إجابة على هذا السؤال إلا أن يقال : إن داود اشتهر بالقول بالظاهر لكثرة مناظراته واهتمامه البالغ بالناحية الصولية النظرية عكس ائمة أهل الظاهر الذين كانوا متفرغين لجمع الحديث الكارهين لهذا التشقيق الأصولي . ولهذا الرأي وجاهته إذا علمنا ان أهل الحديث متهمون أيضا بقلة الفقه وهذه فرية كبيرة ساعد على ترسخها في الأذهان انعدام تصانيف فقهية على نمط الفقهاء وانشغالهم الشديد بالأسانيد والرجال...

كما يمكن أن يقال أن داود هو أول من اصل أصول أهل الظاهر ودونها في الكتب ونصرها بالدليل وتجمع حوله أنصار أيدوه واعجبوا بطريقته فنسبهم أهل المذاهب إليه ليقولوا هذا مذهب رابع ..



***


الفصل الأول :





موقف الإمامين ابن جزم وابن علي من أسس البناء الأصولي الظاهري :




تمهيد

موقف الإمام ابن علي.

موقف الإمام ابن حزم.

في المقارنة بين رأييهما.​

*********


تمهيد
:
ينبغي التمييز في العلم بين المبادئ وماتنبني عليه المبادئ , وبالتالي فإن الواجب هو فهم أسس بناء التصورات والآراء قبل البحث في الخلاف..

وقد علم أن أهل الظاهر بنوا مذاهبهم على ثلاث أسس9 وهي :

فهم العقل.

ظاهر النص.

اطراح ما عدا اليقين.




أولا-فهم العقل :

الفعل العقلي على نوعين : فهم العقل ثم حكم العقل10 .

أما فهم العقل فهو مطلق الإدراك : أن تدرك الشئ بما هو عليه في الوجود وهو حجة عند أهل الظاهر يقول الإمام ابن حزم :" فقد صح أن المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها وصح أن العقل إنما هو مميز بين صفات الأشياء الموجودات وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الأمور الكائنات وتمييز المحال منها"11 وقال :" وإنما في العقل الفهم عن الله تعالى لأوامره ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على تعديه"12

على ان بعض أهل العلم نسب إلى اهل الظاهر القول بإبطال حجة العقل 13 وهو قول لم نجد له دليلا إلى الساعة وموقف أبي محمد واضح جدا فقد عقد فصلا كبيرا وقويا في الرد على من أنكر موجبات العقل وأنكر فهمه.

أما حكم العقل المستقل فباطل في الشرعيات صحيح في العاديات ودليل بطلانه في الشرع عند أهل الظاهر ما قاله ابن حزم :" وأما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم أو أن العقل يوجد عللا موجبة لكون ما أظهر الله الخالق تعالى في هذا العالم من جميع أفاعيله الموجود فيه من الشرائع وغير الشرائع فهو بمنزلة من أبطل موجب العقل جملة"14 .

ولايبعد ان يكون الإمام ابن داود الأصفهاني قد نفى حجة العقل في العاديات وذلك أن الأستاذ أبو منصور نسب-إذا صحت هذه النسبة- إليه إبطال القياس في الشرعيات والعقليات معا فيكون بذلك قد وافق من قال بأن المعارف ضرورية في إبطالهم القياس في العقليات15

لكن العجب أن الإمام ابن حزم رحمه لم ينقل عن أبي بكر رايه هذا – وهو الخبير باهل الظاهر وكانت بين أيديه كتبهم- وكان من عادته أن يعرج على رأي من خالفه من اهل الظاهر وخاصة داود وابنه أو يقول وهو مذهب بعض أصحابنا16...

أما حكم العقل المنطلق من أوائل المسلمات في استثمار نصوص الشرع للوصل إلى حكم ما فهذا في حقيقته حكم شرعي وهو صحيح , يقول أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري :" وأما حكمه: فهو معرفته الاستدلالية، فضرورة الفهم عن الله بالعقل لا بالتقليد مطلب شرعي؛ لأن الله أمرنا باستعمال عقولنا، وما أوجبته ضرورة العقل وترتب على تركه محال شرعي بمنطوق الشرع، فهو حكم شرعي"17.

ويضرب الشيخ حفظه الله مثالا يتجلى به هذا المعنى فيقول : "خذ مثال ذلك: قولنا: تستجلب المصلحة الكبرى بالمفسدة الصغرى ) فهذا دليل عقلي؛ لأن الشرع لم يأت نصاً بهذه البديهة، ولكنها حكم شرعي؛ لأن مقتضاها مقتضى الشرع على حسب فهم العقل، والدليل على ذلك أنه لا بد من أحد أمرين لا ثالث لهما:

1- أن نترك المصلحة الكبرى لأدنى ضرر: وهذا يخالف الشرع؛ لأنه كلفنا واجبات ليس فيها ما هو متمحض للمصلحة الخالصة، بريء من أدنى ضرر، فلو لم تستجلب المصلحة الكبرى بالضرر الأدنى لتعطل الشرع، وهذا محال.

2- أن نستجلب المصلحة الكبرى بالضرر الأدنى: وهذا هو المتعين، وهكذا كل ضرورات العقل التي يجر تركها إلى محال تعتبر دليلاً شرعياً إذا تعلقت بمسائل الشرع"18.

فالحاصل أن فهم العقل هو فهم للخطاب الشرعي على ما عليه وتعقله على مراد الله تعالى , أما حكم العقل الصحيح فيتجلى في استصدار حكم شرعي أسسه انبنت على فهم الدليل بواسطة عقلية تميز بين المحال والممكن والممتنع والدور والتسلسل وقانون عدم التناقض ...ولك على هذا مثال غاية في الوضح من كلام الإمام أبي الحسن القصاب رحمه الله تعالى إذ يقول : "واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون" هو والله أعلم حض على سبيل الفلاح وبلغه بكثرة ذكره, لا ان حد الكثير مفروض بلوغه لقيام الدليل على إعواز معرفة حد غير محدود فلما اكثر المرء من ذكر الله كان أزيد لفلاحه واجدر لنجاحه واقرب إلى النجاة من عذاب ربه , ولا تلحق به المعصية إلا في وقت لايذكره –بتة- ولا يحذر نظره عند معصية أو الإهتمام ببلية وهذا غير ممكن فيمن يقيم الصلوات الخمس ويؤذن ويتلو القرآن"19

فقوله رحمه الله " لقيام الدليل على إعواز معرفة حد غير محدود" دليل عقلي توصل من خلاله إلى القول بأنه "حض على سبيل الفلاح وبلغه بكثرة ذكره"








ثانيا-ظاهر النص :


وهذا المبدأ هو اساس من اسس الفقه الظاهري إن لم يكن لبابه كما يقول العلامة أبو زهرة20 رحمه الله وفيما يلي التوضيح :

قال أبو محمد في كلام واضح :"أصل مذهبنا أن الأخذ بظاهر القرآن والحديث الصحيح حق"

إن الأخذ بالظواهر قضية مشتركة بين أهل الظاهر ومن سواهم وهي قضية مبنية على مسألة ان اللفظ حقيقة في اصل الوضع ولو لم يكن كذلك ما تفاهم اي أحد مع أحد , لكن الإشكال في تجاوز الظاهر إلى ما عداه من التأويل فقال أهل الظاهر لا نأول ما لم يقم دليل من كتاب او سنة او إجماع على هذا التأويل فإن قام صرنا إليه , وقال غيرهم بل حقائق التأويل ثابتة في لغة العرب بصيغ متعددة ومن أنكر ذلك فقد كابر ألا ترى إلى المحب يقول : رايت شمسا أطلت وهو لا يقصد إلا محبوبته ...فيرد عليهم ابن حزم بأن المجاز هو ايضا من الظواهر "وذلك لأن نقل الألفاظ من معانيها الأصلية إلى معان أخرى بما يسمى مجازا هو نقل واضح يدرك بظاهر من اللفظ , إما بدليل بين من العقل أو بدليل من الشرع" 21

يقول الإمام ابن حزم رحمه الله :" التأويل نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه وحكم لذلك النقل بأنه باطل"22

يقول ابن عقيل الظاهري :"الظاهر عند ابن حزم : ظاهر عقلي وهو ما لايحتمل العقل غيره من القضايا .

وظاهر نصي وهو قسمان :

نص بالإسم : كالنص على ان للأم الثلث إذا لم يكن وارث غير الأبوين .

نص بالمعنى وهو ما يطلق عليه أيضا (الدليل) وهو لوازم العقل واللغة كالنص على أن للأب الباقي : إذا لم يكن وارث غير الأبوين."23

ويحسن أن أنقل هنا ما يوضح القول في الظاهر المعنوي (الدليل) من كلام الإمام ابن حزم رحمه الله : " ومثل قوله تعالى { يوصيكم لله في أولادكم للذكر مثل حظ لأنثيين فإن كن نسآء فوق ثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها لنصف ولأبويه لكل واحد منهما لسدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه لثلث فإن كان له إخوة فلأمه لسدس من بعد وصية يوصي بهآ أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من لله إن لله كان عليما حكيما } وقد تيقنا بالفعل الذي به علمنا الأشياء على ما هي عليه أن كل معدود فهو ثلث وثلثان فإذا كان للأم الثلث فقط وهي والأب وارثان فقط فالثلثان للأب وهذا علم ضروري لا محيد عنه للعقل ووجدنا ذلك منصوصا على المعنى وإن لم ينص على اللفظ"24

وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن الدليل لا علاقة له بالقياس كما زعمه كما قال ابن الخطيب رحمه الله25 في معرض ترجمته لداود بن علي رحمه الله وهذا ما قرره العلامة أبو زهرة رحمه الله بل يقول إنه لايوجد أثر للرأي بعد التتبع لفروع الظاهرية في المحلى 26.

ومعنى الأخذ بالظاهر أن نسلم لما فهم من النص بمنطوقه ابتداءا ولا يصرف عن ظاهره إلا بدليل من مطاع (كتاب-سنة) ولا يخصص إلا بدليل من مطاع أيضا ولا يعمم إلا بدليل .

وإن القياس هو تعميم لدليل شرعي وقد أبطله أهل الطاهر لأنه تعميم لا يشهد لصحته نص من كتاب ولا سنة بل النصوص شاهدة على إبطاله يقول ابن حزم رحمه الله "{من} كان مستسهلا لمخالفة ظاهر ما يأتيه عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه و سلم بلا دليل فهو فاسق عاص بهذه النية فقط غير عاص فيما فعل لأنه لم يخطىء في ذلك فإن فعل ذلك باتفاق دون قصد إلى خلاف ما بلغه من الظواهر عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فلا إثم عليه البتة والقياس وقول من دون النبي صلى الله عليه و سلم بغير نص ولا إجماع والرأي كل ذلك خطأ ولم يكن قط حقا البتة "27







ثالثا- الأخذ بالبيقين واطراح ما عداه من الظنون:

وهذا المبدأ من آكد أركان مذهب أهل الظاهر بل هو مفتاح مذهبه28 ووجه الأهمية البالغة لهذا الأصل أنه انبنى عليه عدة اصول أخر أذكرها فيما يلي :

1-الأخذ بالظواهر : لأنها يقين , بل هي القدر المتيقن وما وراء الظواهر من تأويلات تبقى ظنونا ما لم يقم عليها دليل آخر.

2- الأخذ بالإستصحاب : لأنه يقين أيضا .

3- اعتبار البرهان : باعتباره أسا اليقين وسبل الوصول إليه.

4- الأخذ بإجماع الصحابة فقط: لأن إجماعهم يقطع به اما من سواهم فلا يمكن لعوامل محسوسة لكل عاقل.

5- اعتبار أن خبر الواحد يفيد اليقين : ودليل غفادته اليقين أدلة الكتاب والسنة.

6- رد القياس والتعليل : لأنها ظنون لم يقم عليها دليل 29 .

7- رد الإستقراء الناقص : لإمكان تخلف بعض أفراده فهو لا يفيد اليقين 30

يقول أبو محمد :" قال تعالى { وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا }

فصح بنص كلام الله تعالى الذي لا يعرض عنه مسلم أن الظن هو غير الحق وإذ هو غير الحق فهو باطل وكذب بلا شك إذ لا سبيل إلى قسم ثالث وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"31 .

وقال أبو الحسن القصاب رحمه الله :" وقوله : يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا دليل على ان الظن لا يجوز استعماله في حال من الأحوال , إذ ما لايغني من الحق ليس بحق, وضد الحق من الباطل"32.

قلت : مذهب أهل الظاهر كما هو واضح أن الظن لا مكان له في الشرعيات وأن الله تعالى أمرنا بالتيقن مما نقول لأن الظن لايغني من الحق شيئا  قال الدكتور وميض العمري :"فقوله تعالى "شيئا" نكرة عامة تتناول أدنى شئ فهي تدل على التوكيد."33.




وقد اعترض بعض أهل العلم على أهل الظاهر وقالوا : إنه في كثير من الأحيان ما يستدل أهل الظاهر على مسألة بما يظنونه ظاهرا والظاهر خلافه 34 .

ووحاول بعض الباحثين أن يحل معقد الإشكال فقال : إن الظاهرية لما يقولون بأن الظواهر تفيد القطع فإنهم حينئذ ينظرون إلى يجدونه في أنفسهم من الإطمئنان لا إلى ذات الدليل .ومن خالفهم فقد نظر إلى ذات الدليل لا إلى ما يجده من نفسه 35.




أما عن معنى الظاهر فقد قال ابن حزم رحمه :" والنص هو اللفظ الوارد في القران أو السنة المستدل به على حكم الأشياء وهو الظاهر نفسه"36.

*********************


وهذا الموضوع يحتاج تحريرا ونظرا كبيرا سأحاول المشاركة بنصيب يسير منه في ما يلي من المشاركات...



_______________________الهوامش____________________ ____


1 - رواه مالك في الموطأ وهو من بلاغاته رحمه الله لكن له ما يشهد له عند مسلم وأحمد وغيرهما.

2 - الجامع لإبن أبي زيد القيرواني المالكي رحمه الله ص 119

3 - يعبرون ب : استكناه الحقيقة أو استبطان الحقيقة وتجنبت هذه العبارات عملا بنصيحة شيخنا.

4 - تاريخ بغداد 8/ 374

5 - الدليل عند الظاهرية لنور الدين الخادمي ص 26

6 - ص 4 وما بعدها من النسخة المحققة على يد الشيخ ابن تميم وهي أدق من تحقيق سعيد الأفغاني رحمه الله.

7 - السابق

8 - سلاسل الذهب للزركشي ص91

9 - انظر على سبيل المثال التجديد والمجددون في اصول الفقه ص 171 - 182

10 - المصادر المرفوضة عند أهل الظاهر لابن عقيل الظاهري

11 - الإحكام ج1ص 30

12 - الإحكام ج1 ص31

13 - البحر المحيط - المسودة

14 - الإحكام ج1 ص30

15 - إرشاد الفحول ج2 ص 93

16 - على سبيل المثال : ج2 ص 173 – ج2 ص 201 – ج2 ص 174

17 - المصادر المرفوضة عند أهل الظاهر ص 30

18 - السابق

19 - نكت القرآن ج 4 ص 299

20 - ابن حز م ص 387 بواسطة التجديد والمجددون ص 171

21 - ابن حزم لأبي زهرة ص 377 بواسطة التجديد والمجددون في اصول الفقه ص 172

22 - الإحكام ج1 ص 43

23 - نواذر ابن حزم ج2 ص 256 بتصرف

24 - الإحكام ج1 ص 66- 67

25 - تاريخ بغداد 8/ 374

26 - ابن حزم لأبي زهرة ص 486 بواسطة التجديد والمجددون في أصول الفقه ص 178

27 - الإحكام ج6 ص 300

28 - التجديد والمجددون ص 182

29 - التجديد والمجددون في اصول الفقه ص 182

30 - التقريب لحد المنطق ص 60

31 - الإحكام ج 4 ص 562

32 - نكت القرآن ج 1 ص 590

33 - تمكين الباحث من الحكم بالنص بالحوادث.

34 - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ج 13 ص 112

35 - التجديد والمجددون في أصول الفقه ص 184 - 185

36 - الإحكام ج1 ص
 
إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه
وقد اعترض بعض أهل العلم على أهل الظاهر وقالوا : إنه في كثير من الأحيان ما يستدل أهل الظاهر على مسألة بما يظنونه ظاهرا والظاهر خلافه 34 .

ووحاول بعض الباحثين أن يحل معقد الإشكال فقال : إن الظاهرية لما يقولون بأن الظواهر تفيد القطع فإنهم حينئذ ينظرون إلى يجدونه في أنفسهم من الإطمئنان لا إلى ذات الدليل .ومن خالفهم فقد نظر إلى ذات الدليل لا إلى ما يجده من نفسه 35.




أما عن معنى الظاهر فقد قال ابن حزم رحمه :" والنص هو اللفظ الوارد في القران أو السنة المستدل به على حكم الأشياء وهو الظاهر نفسه"36.

وأما الظاهر عند المتكلمين فسفصله الإمام أبو الوليد الباجي تفصيلا بديعا فيقول :" واما الظاهر فهو ما سبق إلى فهم سامعه معناه من لفظه ولم يمنعه من العلم به من جهة اللفظ مانع.

وهو على ثلاثة أضرب : ظاهر بالوضع وظاهر بالعرف وظاهر بالدلالة.

فأما الظاهر بالوضع : فهو كل لفظ وضع في اللغة بمعنى واستعمل فيه على حسب ما وضع له كأوامر الشرع ونواهيه , مثل قوله "فاقتلوا المشركين.." وقوله :" لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم" مما ظاهره الوجوب , فهذا النوع إذا ورد حمل على موضوعه في اللغة ولا يجوز العدول عنه إلا بدليل.

وأما الظاهر بالعرف : فعلى ضربين : ظاهر بعرف اللغة وظاهر بعرف الشرع.

فأما الظاهر بعرف الشرع فهي الألفاظ التي هي في أصل اللغة موضوعة بجنس من الأجناس , ثم وردت في الشرع لمعنى من ذلك الجنس بعينه و مثل قوله تعالى :)أقيموا الصلاة..( , أصل الصلاة في اللغة الدعاء ثم ورد في الشرع عبارة عن دعاء مخصوص يقترن بركوع وسجود وكقوله :)كتب عليكم الصيام..( هو في أصل اللغة عبارة عن كل إمساك ثم ورد في الشرع عبارة عن معنى مخصوص في وقت مخصوص ’ والحج عبارة عن القصد في أصل اللغة , ثم ورد في الشرع عبارة عن وقوف وطواف وقصد إلى موضع مخصوص , وما اشبه ذلك, فهذا إذا ورد حمل على عرفه في الشرع , ولا يجوز العدول به عما وضع له في عرف الشرع إلا بقرينة ودليل.

وأما الظاهر بعرف اللغة والإستعمال فهو كقوله تعالى :)أو جاء أحد منكم من الغائط..( أصل الإتيان من الغائط في كلام العرب , المجئ من المطمئن من الأرض على اي وجه كان لقضاء حاجة أو غيرها, ثم جرى العرف باستعماله عند العرب لكل من جاء من ناحية قضاء الحاجة حتى شهر ذلك وعرف به واستعمل فيه مع الإطلاق , فيجب أن يحمل عليه إلا أن يدل دليل على ان المراد به غيره.

وأما الظاهر بالدلالة : فهو أن يكون اللفظ موضوعا لمعنى , إلا أن الدليل قد قام على انه أريد به غير ذلك المعنى مثل قوله تعالى :) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء( فهذا لفظه لفظ الخبر , إلا ان الدليل قد قام على ان المراد به والأمر , لأنا لو جعلناه لوقع بخلاف بمخبره لأنا نرى من المطلقات من لا تتربص , وخبر الله لا يقع بخلاف مخبره , فثبت أنه أريد به الأمر "[4]

وبما أن الظاهر هو ما تبادر إلى الذهن ابتداءا فإن التفاوت يكون في تعيينه من جهة الشخص ومدى اطلاعه على الأدلة وحسن تحريره واستدلالاته.. لا من جهة اللفظ , فإن ظاهر اللفظ كما قال الباجي رحمه الله هو "ما سبق إلى فهم سامعه معناه من لفظه ولم يمنعه من العلم به من جهة اللفظ مانع" أو هو كل لفظ- كما تقول الحنفية- أو كلام ظهر المعنى المراد به للسامع بصيغته من غير توقف على قرينة خارجية أو تأمل"[5].

وهذا عكس ما قاله الباحث فإن التفاوت في تعيينه يكون بحسب المواهب اللغوية والعقلية والشرعية للناظر فقط لا من جهة الدليل نفسه . وكذلك فإن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من انه في كثير من الأحيان ما يذهب أهل الظاهر إلى ان مرادا ما من النص هو الظاهر ويكون الظاهر خلافه إنما هو راجع إلى ملكة الناظر العقلية والنقلية كما سبق وقلت وليس إلى ذات الدليل وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام نفسه [6] , ولا أظن أن معترضا سيعترض على هذا إلا إن طعن في نقل اللغة وغير ذلك مما قاله العلامة الرازي رحمه الله.

وهذا ما يوضحه قول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى :" وهكذا نقول نحن اتباعا لربنا عز و جل بعد صحة مذاهبنا لا شكا فيها ولا خوفا منه أن يأتينا أحد بما يفسدها ولكن ثقة منا بأنه لا يأتي أحد بما يعارضها به أبدا لأننا ولله الحمد أهل التخليص والبحث وقطع العمر في طلب تصحيح الحجة واعتقاد الأدلة قبل اعتقاد مدلولاتها حتى وفقنا ولله تعالى الحمد على ما ثلج اليقين وتركنا أهل الجهل والتقليد في ريبهم يترددون وكذلك نقول فيما لم يصح عندنا حتى الآن فنقول مجدين مقرين إن وجدنا ما هو أهدى منه اتبعناه وتركنا ما نحن عليه وإنما هذا في مسائل تعارضت فيها الأحاديث والآي في ظاهر اللفظ ولم يقم لنا بيان الناسخ من المنسوخ فيها فقط أو في مسائل وردت فيها أحاديث لم تثبت عندنا ولعلها ثابتة في نقلها فإن بلغنا ثباتها صرنا إلى القول بها إلا أن هذا في أقوالنا قليل جدا والحمد لله رب العالمين"[7].

فواضح من كلام ابن حزم رحمه الله أنه لا يقطع إلا فيما لم يبلغه فيه خبر النسخ او راو مجروح لم يعرف بخير جرحه وهو في كل هذا يبقى على الصل المقطوع به وهو اليقين في حالته تلك فإن استجد مستجد صار إليه.

وقد يقول قائل إن هذا المخصص للظاهر قد اسقط الظاهر الذي تبادر ابتداء للناظر فنقول بل لم يسقطه البتة فما زال الظاهر ظاهرا ولكن طرأ ما أوجب مخالفة هذا الظاهر . فالظاهر الأول يقيني وبالمخصص انتقلنا إلى يقين آخر ابطل الأول .





--------------------------------------------------------------------------------

[1] - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ج 13 ص 111 وما بعدها.

[2] - التجديد والمجددون في أصول الفقه ص 184 - 185

[3] - الإحكام ج1 ص

[4] - المنهاج في ترتيب الحاجاج لأبي الوليد الباجي ص 15-16-17

[5] - أصول الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي ج1/ 317

[6] - مجموع الفتاوى ج13/ 121

[7] - الإحكام ج 1 ص 23
 
أعلى