رد: المرسل بين المحدثين والفقهاء، بين المتقدمين والمتأخرين
السلام عليكم
بارك الله فيكم ونفع بكم،،
الانقطاع الظاهر (المُرسل من الأخبار)
يُقسّم الحنفية الانقطاع في الحديث إلى قسمين:
-القسم الأول/ الانقطاع الظاهر. ويَعْنون به المُرسل من الأخبار، وذلك أربعة أنواع:
النوع الأول/ ما أرسله الصحابي.
النوع الثاني/ ما أرسله أهل القرن الثاني والثالث.
النوع الثالث/ ما أرسله العدل في كل عصر.
النوع الرابع/ ما أُرسل من وجهٍ واتصل من وجهٍ آخر.
-القسم الثاني/ الانقطاع الباطن. ويَعْنون به الانقطاع من حيث المعنى، وهو نوعان:
النوع الأول/ انقطاع بالمعارضة. ويظهر بالعرض على الأصول، فإذا خالف شيئًُا من ذلك كان مردودًا منقطعًا وذلك أربعة أنواع:
الأول/ ما خالف كتاب الله.
الثاني/ ما خالف السنة المعروفة.
الثالث/ ما شذَّ من الحديث فيما اشتهر من الحوادث وعمَّت به البلوى.
الرابع/ ما يعرض عنه الأئمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثاني/ انقطاع لنقصان وقصور في الناقل. وله أربعة أنواع:
الأول/ خبر المستور.
الثاني/ خبر الفاسق.
الثالث/ خبر الصبي العاقل والمعتوه والغافل والمتساهل.
الرابع/ خبر صاحب الهوى.
وراجع: كشف الأسرار (3/ 20- 28)، وأصول السرخسي (1/ 359)، والتلويح على التوضيح (2/ 12)، وشرح المنار (2/ 643).
وأما الانقطاع لدى المُحدثين: فمعناه/ وجود سقط في الإسناد، وتتنوع تسميته باعتبار عدد ومكان السقط، فإذا كان السقط من أول السند من تصرف مصنف سُمِّي معلقًا، وإذا كان من آخر السند فوق التابعي سُمِّي مُرسلًا، وإن كان السقط باثنين فصاعدًا مع التوالي فهو المعضل، وإن كان بواحد أو اثنين أو أكثر بشرط عدم التوالي فهو المنقطع. وللمحدثين نظرة أخرى للانقطاع من حيث وضوحه وخفاؤه؛ فالواضح يُدرك بعدم التلاقي بين الراوي وشيخه بكونه لم يُدرك عصره، وأما الخفي فيُسمونه المدلَّس؛ وهو أن يروي الراوي عمَّن لقيه وسمعه ما لم يسمعه منه موهمًا أنه سمعه منه، أو عمن لقيه ولم يسمع منه موهمًا أنه لقيه وسمع منه، كأن يقول: عن فلان أو أن فلانًا، وأما إذا روى عمَّن عاصره ولم يلقه فيسمونه المرسل الخفي.
وبعد عرض تقسيم المحدثين والحنفية للانقطاع -إجمالًا-، وبعقد المقارنة بينهما تظهر الأمور التالية:
1- الانقطاع عند الحنفية يشمل الإسناد والمتن، وأما عند المحدثين فيختص بالإسناد وهو ما يقابل الانقطاع الظاهر عند الحنفية.
2- اتفاق نظرة الحنفية والمحدثين في جعل المرسل من أقسام المنقطع -وإن كانا يختلفان في تعريفه وحكمه-.
3- لا يُعرف عند المحدثين تقسيم الحنفية للانقطاع إلى ظاهر وباطن وإنما المعروف عندهم تقسيمه إلى ظاهر وخفي.
4- الانقطاع بالمعارضة من القواعد التي تفرد بها الحنفية، ولهم فيها تفصيلات وتفريعات، وأما المحدثون فقد تعرضوا لما يشبه ذلك في مبحثي الشذوذ والعلة ولكن بمعانٍ أخرى غير التي يقصدها الحنفية.
5- الانقطاع لنقصان وقصور في الناقل يبحث عند المحدثين في مباحث الطعن في ضبط وعدالة الراوي وليس في الانقطاع.
6- يُقسم المحدثون الانقطاع في السند إلى أنواع كثيرة سُمِّي كل نوع منها بلقب، وأما عند الحنفية فالكل يطلق عليه منقطعًا أو مُرسلًا.
وبعد بيان نقاط الاتفاق والاختلاف في منهجي الحنفية والمحدثين في الانقطاع؛ يحسن بنا أن نشرع في بيان الانقطاع الظاهر (المرسل عند الحنفية) وهو مقصود الطرح.
-الانقطاع عند المحدثين:
الانقطاع مأخوذ من القطع، وهو لغةً/ فصل شئ عن شئ قطعته فانقطع، ضط الوصل والاتصال.
والمقصود به عند المحدثين/ وقوع سقط في سلسلة الإسناد. وهو يشمل عدة أنواع باعتبار مكان وعدد السقط من الإسناد.
النوع الأول: المنقطع.
تعريفه: هو ما سقط من إسناده راوٍ واحد قبل الصحابي في موضع واحد أو مواضع متعددة بحيث لا يزيد الساقط في كل منها على واحد، وألا يكون الساقط في أول السند.
وهذا التعريف جعل المنقطع مباينًا لسائر أنواع الانقطاع؛ حيث يخرج بقولهم واحد المعضل وبما قبل الصحابي المرسل وبشرط ألا يكون الساقط أول السند خرج المعلق.
وقد كان المتقدمون يُطلقون المنقطع على كل ما لم يتصل على أي وجهٍ كان الانقطاع، وإليه ذهب الفقهاء والخطيب وابن عبدالبر وغيرهم من المحدثين، وعليه يكون المنقطع أصلًا عامًّا يندرج تحته أنواع الانقطاع، كما كانوا يُطلقون المرسل بمعنى المنقطع. راجع: تدريب الراوي (1/ 207)، والإرشاد للنووي ص(84)، وعلوم الحديث لابن الصلاح ص(56)، ونزوهة النظر ص(80)، ومنهج النقد في علوم الحديث ص(367).
مثاله: ما رواه أبو داود في سننه (178) عن إبراهيم التيمي عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّلَهَا ولم يتوضأ. وهذا منقطع في موضع واحد، قال أبو داود: وهو مرسل -أي منقطع- إبراهيم التيمي لم يسمع عائشة.
مثال آخر/ ما رواه الترمذي في سننه حديث(1542) وقال: غريب وليس إسناده بمتصل. وابن ماجه في سننه (2598) من طريق الحجاج بن أرطأة عن عبدالجبار بن وائل عن أبيه قال: استكرهت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد وأقامه على الذي أصابها. وهذا منقطع في موضعين، قال البخاري: الحجاج بن أرطأة لم يسمع من عبدالجبار بن وائل، وعبدالجبار بن وائل لم يسمع من أبيه.
النوع الثاني: المعضل.
تعريفه لغةً: من قولهم أعضله، أي أعياه.
اصطلاحًا: هو ما سقط من إسناده اثنان أو أكثر في موضع واحد.
كقول مالك وغيره من أتباع التابعين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويُسمَّى منقطعًا كما سبق يُسمى مُرسلًا عند الفقهاء وغيرهم.
مثاله: ما رواه مالك في الموطأ (1636) أن معاذ بن جبل قال: آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت رجلي في الغَرْزِ أن قال: (أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل). وبين مالك ومعاذ أكثر من راويين فهو معضل. راجع: تدريب الراوي (1/ 211)، والإرشاد للنووي ص(85)، وعلوم الحديث لابن الصلاح ص(95)، ونزهة النظر ص(80)، ومنهج النقد في علوم الحديث ص(278).
والمعضل والمرسل عند الحنفية سواء؛ لأن المرسل عندهم أن يترك الراوي الواسطة التي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تصل لاثنين وأكثر. راجع: التحصيل ص(32).
النوع الثالث: المعلق.
تعريفه: هو ما حُذف من مبتدأ سنده سواء كان المحذوف واحدًا أو أكثر على سبيل التوالي ولو إلى آخر السند.
وقد سُمَّيَ معلقًا؛ لأنه بحذف أوله صار كالشئ المقطوع عن الأرض الموصول من الأعلى بالسقف مثلًا، ويجتمع المعلق والمعضل فيما إذا حذف من مبتدأ السند اثنان أو أكثر، ويفترقان إذا وقع الحذف لاثنين فصاعدًا في غير أول السند فإنه يُسمى معلقًا.
مثاله: ما رواه البخاري في صحيحه (2) قال: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: أحب الدين إلى الله الحنفية السمحة.
مثال آخر/ ما رواه البخاري (10) قال: قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.
مثال آخر/ ما رواه البخاري (5) قال: قال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: الله أحق أن يُستحى منه من الناس.
مثال آخر/ ما رواه الترمذي (42) قال: وروى رشدين بن سعد وغيره عن الضحاك ابن شرحبيل عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة.
وحكم المعلق أنه مردود مثل حكم المنقطع للجهل بحال المحذوف، إلا أن يقع في كتاب التُزِمَتْ صحته كصحيح البخاري ومسلم فإن لها أحكامًا خاصة بها. راجع: تدريب الراوي (1/ 219)، والإرشاد ص(88)، وعلوم الحديث ص(67)، ونزهة النظر ص(88)، ومنهج النقد في علوم الحديث ص(374).
النوع الرابع: المدلَّس.
تعريفه لغة: التدليس مشتق من الدلس بالتحريك، وهو اختلاط الظلام بالنور، سُمِّي بذلك لما فيه من الخفاء والتغطية. وقد قسم المحدثون التدليس إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول/ تدليس الإسناد.
تعريفه: هو أن يروي الراوي عمن لقيه وسمعه ما لم يسمعه منه موهمًا أنه سمعه منه، أو عمن لقيه ولم يسمع منه موهمًا أنه لقيه وسمع منه.
كأن يقول: عن فلان، أو ان فلانًا قال كذا، أو قال فلان، أو حدَّث فلان، ونحو ذلك مما يوهم بالسماع ولا يُصرح به، وقد يكون بينهما واحد وقد يكون أكثر.
مثاله: ما رواه أبو عوانه عن الأعمض عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلان في النار ينادي: يا حنان يا منان). قال أبو عوانة: قلت للأعمش: سمعت هذا من إبراهيم؟ قال: لا، حدثني به حكيم بن جبير عنه. فقد دلس الأعمش الحديث عن إبراهيم، فلما استُفسر بيَّن الواسطة بينهما.
وحكم المدلس تدليس الإسناد: فما رواه المدلس بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المنقطع مردود، وما رواه بلفظ مبين للاتصال نحو: سمعت وحدثنا وأخبرنا فهو متصل؛ وهذا لأن التدليس ليس كذبًا، وإنما هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل، فإذا زال الاحتمال كان الإسناد متصلًا، وما كان في الصحيحن عن المدلسين بـ "عن" محمول على ثبون سماعه من جهة أخرى.
القسم الثاني/ تدليس الشيوخ.
تعريفه: هو أن يروي عن شيخ حديثًا سمعه منه فيُسميه أو يُكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يُعرف.
مثاله: أن الحارث بن أبي أسامة روى عن الحافظ أبي بكر عبدالله بن محمد بن عبيد بن سفيان الشهير بابن أبي الدنيا، والحارث أكبر منه فدلسه مرة قال: عبدالله بن عبيد، ومرة قال: عبدالله بن سفيان، ومرة قال: أبو بكر بن سفيان، فكان يدلس اسمه؛ لأنه أصغر منه.
وحكم هذا القسم في الكراهة أخف من القسم السابق؛ لأن الحفاظ يمكنهم تعيين هذا الراوي حتى في هذه الحالة، إلا أن ذلك يُعَرِّض الشخص المروي عنه للتضييع إذا لم يُتَوَصَّلْ لتعيينه، وذلك يَجُرُّ إلى ضياع الحديث المروي أيضًا. راجع: تدريب الراوي (1/ 217- 223)، وفتح المغيث (1/ 189- 207)، ونزهة النظر ص(81)، وعلوم الحديث ص(61- 73(، والإرشاد ص(85- 92(، ومنهج النقد في علوم الحديث ص(351- 380).
النوع الخامس: المرسل الخفي.
تعريفه: ما رواه الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه ولم يلقه.
وهو نوع من الحديث المنقطع إلا أن الانقطاع فيه خفي؛ لأن المعاصرة بين الراويين توهم اتصال السند بينهما، والفرق بين المدلس والمرسل الخفي أن التدليس يختص بمن روى عمن لقيه، فأما إن عاصره ولم يلقه فهو المرسل الخفي.
مثاله: ما رواه الترمذي في العلل الكبير ص(194) حديث(345) من طريق يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم، وإذا أحلت على ملئ فاتبعه، ولا تبع بيعتين في بيعة). فهذا إسناد ظاهره الاتصال يونس بن عبيد عاصر نافعًا إلا أنه لم يسمع منه. قال الباخري: ما أرى يونس بن عبيد سمع من نافع. وراجع: تدريب الراوي (1/ 195)، وعلوم الحديث لابن الصلاح ص(288)، والإرشاد ص(1922)، ونزهة النظر ص(82)، ومنهج النقد في علوم الحديث (386).
النوع السادس: المرسل.
تعريفه لغةً: أصل المرسل من قولهم أرسلت كذا إذا أطلقته ولم تمنعه، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِريِنَ..) [مريم: 83]. فكأن المرسِل أطلق الإسناد ولم يقيده براوٍ معروف.
اصطلاحًا: هو قول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فَعَل كذا، سواء كان التابعي كبيرًا أو صغيرًا.
اتفق أهل العلم من المحدثين وغيرهم أن قول التابعي الكبير الذي لقي كثيرين من الصحابة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا، يُسمَّى مرسلًا.
مثاله: ما رواه مسلم (3958) بسنده عن سعيد بن مسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المزابنة والمحاقلة.
أما إذا قال الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وأشباههم من أصاغر التابعين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالمشهور -عند من خص المرسل بالتابعين- أنه مرسل كما إذا قاله التابعي الكبير، وحكى ابن عبدالبر أن قومًا لا يسمونه مرسلًا؛ بل يسمونه منقطعًا لكون أكثر روايتهم عن التابعين.
مثاله: ما رواه أبو داود عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف). وراجع: المراسيل ص(177) باب(47) حديث(11).
أما إذا انقطع الإسناد قبل الصحابي فكان من رواته من لم يسمعه ممن فوقه فاختلفوا في تسميته مرسلًا، فقال الحاكم وغيره من أهل الحديث: لا يُسمَّى مرسلًا، قالوا: والمرسل مختص بالتابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان الساقط واحدًا سُمِّي منقطعًا، وإن كان اثنين فأكثر سُمِّي معضلًا ومنقطعًا أيضًا، والمعروف في الفقه وأصوله أن كل ذلك يُسمَّى مرسلًا، وبه قطع الخطيب البغدادي قال: إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال رواية التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الاختلاف إنما هو العبارة والاصطلاح. اهـ.
واستعمال المرسل بمعنى المنقطع شائع في كلام المحدثين المتقدمين؛ كأبي داود السجستاني (178) قال: وهو مرسل إبراهيم التيمي لم يسمع عائشة. وكأبي عيسى الترمذي (14) قال: وكلا الحديثين مرسل الأعمش عن أنس وابن عمر. وكأبي عبدالرحمن النسائي (170) قال: ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلًا. يثِير إلى الانقطاع بين إبراهيم التيمي وعائشة.
حكم المرسل:
حكمه -عندهم-/ حكم الحديث الضعيف وهو عدم الاحتجاج به، والدليل على ضعفه أن المحذوف مجهول الحال؛ لأنه يحتمل أن يكون غير صحابي، وإذا كان كذلك فإن الرواة حدَّثوا عن الثقات وغير الثقات، فإذا روى أحدهم حديثًا وأرسله لعله أخذه عن غير ثقة. وإن اتفق أن يكون المرسل لا يُروى إلا عن ثقة فالتوثيق مع الإبهام غير كافٍ، وسقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه هو الذي استقرَّ عليه مذهب جماهير المحدثين وتداولوه في تصانيفهم، وحكاه ابن عبدالبر عن جماعة أصحاب الحديث.
قال ابن عبدالبر في التمهيد (1/ 5- 6): الحجة في رد الإرسال ما أجمع عليه العلماء من الحاجة إلى عدالة المخبر عنه، وأنه لا بد من معرفة ذلك، فإذا حكى التابعي عمن لقيه لم يكن بد من معرفة الواسطة؛ إذ قد صحَّ أن التابعين أو كثيرًا منهم رووا عن الضعيف وغير الضعيف، فهذه النكتة عندهم في رد المرسل؛ لأن مرسله يمكن أن يكون سمعه ممن يجوز نقله وعمن لا يجوز، ولا بد من معرفة عدالة الناقل فَبَطُلَ لذلك الخبر المرسل للجهل بالواسطة. اهـ. [بتصرف].
وقال مسلم في مُقدمة صحيح مسلم مع النووي (1/ 132): والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة. اهـ.
وقال ابن أبي حاتم في المراسيل ص(7): سمعت أبي وأبا زُرعة يقولان: لا يُحتج بالمراسيل ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة. اهـ.
وقد حكى العلائي عن جماعة كثيرين من أئمة الجرح والتعديل؛ كيحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني وغيرهم، أنهم يفرقون بين من عُرِف من عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة فيقبلون مرسله، وبين مَن عُرِف أنه يرسل عن كل أحدٍ سواء كان ثقةً أو ضعيفًا فلا يقبلون مرسله، ووصفه العلائي كما في جامع التحصيل ص(37- 38) بأنه أرجح الأقوال في المسألة وأعدلها.
ثم قال بعد حكايته لأقوال العلماء في المرسل ص(86): وأما القول المُختار وهو أن من عُرِف من عادته أنه لا يرسل إلا عن عدل موثوق به مشهور بذلك فمرسله مقبول، ومن لم يكن عادته ذلك فلا يقبل مرسله، وهذا القول أعدل المذاهب وبه يحصل الجمع بين الأدلة المتقدمة من الطرفين، فإن قبول الصدر الأول لكثير من المراسيل لا يمكن إنكاره، وقد صدر من جماعة منهم كثيرين ردٌّ لكثير من المراسيل أيضًا، فيُحمل قبولهم عند الثقة بمن أرسل منهم أنه لا يرسل إلا عن عدل موثوق به، وردهم عند عدم ذلك. اهـ.
مراسيل الصحابة:
هذا كله في غير مرسل الصحابة أما مرسلهم، وهو ما رواه ابن عباس وابن الزبير وشبههما من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يسمعوه منه فحكمه حكم المتصل؛ لأن الظاهر روايتهم عن الصحابة والصحابة كلهم عدول.
مثاله: ما رواه أحمد في مسنده (1/ 227)، والترمذي (3539) وقال: حسن صحيح. عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب فأتته قريش وآتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده وعند رأسه مقعد رجل، فقام أبو جهل فقد فيه، فقالوا: إن ابن أخيك يقع في آلهتنا. قال: ما شأن قومك يشكون؟ قال: (يا عم أريدهم على كلمة واحدة، تدين لهم بها العرب، وتؤدي العجم إليهم الجزية). قال: ما هي؟ قال: (لا إله إلا الله). فقاموا فقالوا: أجهل الآلهة إلهًا واحدًا؟!.
وهذا بلا شك لم يسمعه ابن عباس؛ لأن هذه الحادثة كانت في السنة التي ولد فيها، فقد ولد ابن عباس قبل الهجرة بثلاث سنين، وهي السنة التي توفى فيها أبو طالب، ولا بد أن يكون سمعه من كبار الصحابة الذي شاهدوا هذه الحادثة.
مثال آخر/ ما رواه البخاري (2) عن عائشة في بدء نزول الوحي، وهو مما لم تشهده عائشة رضي الله عنها؛ إذ كان هذا قبل ولادتها ولا بد أن تكون سمعته من غيرها.
قال البراء بن عازب: ليس كلنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لنا ضيعة وأشغال ولكن الناس لم يكونوا يُكذبون يومئذ فيحدث الشاهد الغائب. وراجع: الكفاية (385- 386).
وحكى الخطيب البغدادي وغيره عن بعض العلماء أنه لا يحتج به كمرسل غيرهم إلا أن يقول: لا أروي إلا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي؛ لأنه قد يروي عن غير صحابي، وهذا مذهب أبي إسحاق الإسفراييني الشافعي، والصواب المشهور أنه يُحتج به مطلقًا؛ لأن روايته عن غير الصحابة نادرة وإذا رووها يبيِّنوها. وانظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص(51)، والإرشاد للنووي ص(79)، وتدريب الراوي (1/ 195)، ومنهج النقد في علوم الحديث ص(369)، ونزهة النظر ص(79).
شروط قبول المرسل عند الشافعي:
مذهب الإمام الشافعي هو قبول المرسل من كبار التابعين بشرط الاعتبار في الحديث المرسل والراوي المرسل.
أما الاعتبار في الحديث فهو أن يعتضد بواحدٍ من أربعةِ أمورٍ:
1- أن يروى مسندًا من وجه آخر.
2- أو يروى مرسلًا بمعناه عن راوٍ آخر لم يأخذ عن شيوخ الأَوَّلِ، فيدل ذلك على تعدد مخرج الحديث.
3- أو يوافقه قول بعض الصحابة.
4- أو يكون قد قال به أكثر أهل العلم.
وأما الاعتبار في راوي المرسل فأن يكون الراوي إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولًا ولا مرغوبًا عنه في الرواية. وراجع: الرسالة للشافعي ص(461- 467)، ومنهج النقد في علوم الحديث ص(371).
فالمرسل عند الإمام الشافعي إذا أسند من وجه آخر دلَّ ذلك على صحته، وهذا مما اعترض الحنفية فيه على الإمام الشافعي، فقيل: غذا أُسند المرسل من وجه آخر: فإما أن يكون سند هذا المتصل مما تقوم به الحجة أو لا، فإن كان مما تقوم به الحجة فلا معنى للمرسل هنا ولا اعتبار به؛ لأن العمل إنما هو بالمسند لا به، وإن كان المسند مما لا تقوم به الحجة لضعف رجاله، فلا اعتبار به حينئذ إذا كنت لا تقبل المرسل؛ لأنه لم يعضده شئ.
وجواب هذا: أن مراده ما إذا كان طريق المسند مما تقوم بها الحجة، وقولهم لا معنى للمرسل حينئذ ولا اعتبار به، فجوابه: ليس كذلك من وجهين/
أحدهما؛ أن المرسل يُقوَّى بالمسند ويتبين به صحته، ويكون فائدتهما حينئذ الترجيح على مسند آخر يعارضه لم ينضم إليه مرسل ولا شك أن هذه فائدة مطلوبة.
ثانيهما؛ أن المسند قد يكون في درجة الحسن وبانضمام المرسل إليه يقوي كل منهما بالآخر، ويرتقي الحديث بهما إلى درجة الصحة، وهذا أمر جليل أيضًا ولا ينكره إلا مَن لا مذاق له في هذا الشأن.
والمرسل عند الشافعي أيضًا إذا عضده مرسل مثله بسند آخر غير سند الأول، فإنه حينئذ يقوى، ولكنه يكون أنقص درجة من المرسل الذي أُسند من وجه آخر. وقد اعترض الحنفية أيضًا فيه على الإمام الشافعي، وقالوا: هذا ليس فيه إلا أنه انضم غير مقبول عنده إلى مثله، فلا يفيدان شيئًا، كما إذا انضمت شهادة غير العدل إلى مثلها.
وجوابه أيضًا بمثل ما تقدم: أنه بانضمام أحدهما إلى الآخر قوى الظن أن له أصلًا، وإن كان كلٌّ منهما لا يُفيد ذلك بمجرده، وهذا كما قيل في الحديث الضعيف الذي ضعفه من جهة قلة حفظ راويه وكثرة غلطه، لا من جهة اتهامه بالكذب، إذا روى مثله بسند آخر، نظير هذا السند في الرواة، فإنه يرتقي بمجموعهما إلى درجة الحسن؛ لأنه يزول عنه حينئذ ما يخاف من سوء حفظ الرواة ويعتضد كل منهما بالآخر. راجع: جامع التحصيل للعلائي ص(41)، والإرشاد ص(81)، وكشف الأسرار (3/ 3).
-المرسل عند الحنفية:
سبق أن الحنفية يُقسمون الانقطاع إلى قسمين: ظاهر، وباطن. وأنهم يَعْنون بالانقطاع الظاهر المُرسل من الأخبار.
تعريفه: هو أن يترك الراوي الواسطة التي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذا عرَّفه ابن ملك في شرح المنار ص(647).
وذلك على أربعةِ أنواع:
النوع الأول/ ما أرسله الصحابي.
وقد اتفق الحنفية مع المحدثين على قبول مراسيل الصحابة؛ لأنهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروونه عن رسول الله مطلقًا يحمل على أنهم سمعوه منه أو من أمثالهم، وهم كانوا أهل الصدق والعدالة.
وقد ادعى البزدوي في أصوله مع شرحه (3/ 3)، والنسفي في المنار مع شرحه ص(647)، وابن الحنبلي في قفو الأثر ص(67) الإجماع على قبول مراسيل الصحابة، ونفى السرخسي في أصوله (1/ 359) الخلاف فيه بين العلماء، ويَرِد عليهم ما حُكي عن أبي إسحاق الإسفراييني وطائفة يسير من القول بعدم قبول مراسيل الصحابة. وراجع: جامع التحصيل للعلائي ص(47)، والنكت لابن حجر (2/ 571).
النوع الثاني/ إرسال القرن الثاني والثالث.
وقد اتفق الحنفية على قبول مرسل أهل القرن الثاني والثالث، لثبوت عدالتهم بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري (3651)، ومسلم (6635) عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
فلو يفرقوا بين إرسال الصحابة والتابعين وأتباعهم؛ لأن عدالتهم جميعًا تثبت بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خص الإمام مالك وجمهور أصحابه قبول المرسل بالتابعين فيما أرسلوه على اختلاف طبقاتهم، وهو قول أحمد في رواية، وكل من يقبل المرسل من المحدثين. وراجع: جامع التحصيل ص(34)، والتمهيد (1/ 2).
وقد أطلق القول بقبول مراسيل القرن الثاني والثالث البزدوي والنسفي ووافقهما شارحا كتابيهما -راجع: كشف الأسرار (3/ 2)، وشرح المنار ص(647)-، فلم يذكروا جميعًا سوى أنها مقبولة عندهم، لم يزيدوا عليه شيئًا.
وممن صرح بذلك ابن الحنبلي فقال كما في قفو الأثر ص(67): والمختار في التفصيل قبول مرسل الصحابة إجماعًا، ومرسل أهل القرن الثاني والثالث عندنا -أي الحنفية- مطلقًا. اهـ.
وتبعه على ذلك التهانوي فقال كما في قواعد في علوم الحديث ص(139): وبهذا عُلم أن كون الراوي يرسل عن الثقات وغيرهم جرح في مرسل من هو دون القرون الثلاثة، وأما أهل القرون الثلاثة فمُرسلهم مقبول عندنا مطلقًا. اهـ.
وذهب أبو بكر الجصاص إلى أن مراسيل القرن الثاني والثالث مقبولة بشرط أن يكون المرسل غير معروف بالإرسال عن غير الثقات، يقول الجصاص في الفصول في الأصول (3/ 145): والصحيح عندي وما يدل عليه مذهب أصحابنا أن مرسل التابعين وأتباعهم مقبول ما لم يكن الراوي ممن يرسل الحديث عن غير الثقات، فإن من استجاز ذلك لم تقبل روايته لا لمسند ولا لمرسل. اهـ.
ثم أكد على أن ما صححه هو مذهب أبي حنيفة فقال كما في المصدر السابق (3/ 146): والصحيح عندي وما يدل عليه مذهب أصحابنا أن مرسل التابعين وأتباعهم مقبول ما لم يظهر منهم ريبة، وكذلك كان مذهب أبي حنيفة، فإن الذي لا شك فيه أن مراسيل غير العلماء والموثوق بعلمهم ودينهم ومن يعلم أنه لا يرسل إلا عن الثقات-غير مقبول. اهـ.
ووافقه السرخسي على ذلك فقال كما في أصوله (1/ 361): وأصح الأقاويل في هذا ما قاله أبو بكر الرازي: أن مرسل من كان من القرون الثلاثة حجة ما لم يُعرف منه الرواية مطلقًا عمن ليس بعدل ثقة، ومرسل من كان بعدهم لا يكون حجة إلا من اشتهر بأنه لا يروي إلا عمن هو عدل ثقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد للقرون الثلاثة بالصدق والخيرية، فكانت عدالتهم ثابتة بتلك الشهادة ما لم يتبين خلافهم، وشهد على من بعدهم بالكذب بقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يفشو الكذب) -يُشير إلى ما رواه الترمذي (2318) عن عمر بن الخطاب مرفوعًا قال: (أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى يحلف الرجل ولا يُستحلف، ويشهد الشاهد ولا يُستشهد). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه-. فلا تثبت عدالة من كان في زمن شهد على أهله بالكذب إلا برواية من كان معلوم العدالة يعلم أنه لا يروي إلا عن عدل. اهـ.
ومذهب الحنفية على ما رجحه الجصاص والسرخسي يشبه قولمن فرق من المحدثين مَن عُرف من عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة فيقبل مرسله، وبين مَن عُرف أنه يرسل عن كل أحد سواء كان ثقةً أوضعيفًا فلا يقبل مرسله، وهو ما اعتبره العلائي كما في جامع التحصيل ص(38) أرجح الأقوال وأعدلها، والفرق بينهما أن قول الجصاص يقبل المرسل ما لم يعرف الراوي بالإرسال عن غير الثقات، وقول المحدثين يتوقف عن قبول المرسل حتى يعلم أن الراوي لا يروي إلا عن ثقة.
يقول أبو الحسنات اللكنوي في ظفر الأماني بشرح مختصر الجرجاني ص(351): ويشترط عند محققي هذا المذهب كون المرسل من أهل القرون الثلاثة التي شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيريتها وإفشاء الكذب بعدها، وكون المرسل ثقة، وكونه متحريًا لا يرسل إلا عن الثقات، فإن لم يكن في نفسه ثقة، أو لم يكن محتاطًا في روايته، فمرسله غير مقبول بالاتفاق. اهـ.
وما رجحه الجصاص والسرخسي من قبول مرسل التابعين وأتباعهم بشرط أن يكون المرسل غير معروف بالرواية عن غير الثقات؛ هو الأقرب لمنهج الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فقد كان يقبل الإرسال من ناس عرفهم، وعم عنده في مقام من الثقة لا يتطرق الريب إليه، فقبول المرسلات ممن روى عنهم أبو حنيفة ليس دليلًا على أنه يجيز قبول المرسلات بإطلاق، فلا بد أن يكون قد لاحظ أن يكون التابعي أو تابع التابعي منا لثقات الذين يؤخذ عنهم، ولا يروون إلا عن الثقات، فلا يأخذون عن ضعيف، ولا يكون فيمن يتلقون عنهم من لا يكون ثقةً يطمأن إليه ويؤخذ عنه، ولا يصح حينئذ أن يقال عن أبي حنيفة أنه يعتبر كل مرسل من تابعي أو تابع تابعي حجة من غير قيد ولا شرط.
ويظهر أن قبول المرسل من الأخبار كان أمرًا شائعًا في عصر أبي حنيفة كما صرح بذلك الإمام أبو داود صاحب السنن في رسالته لأهل مكة ص(32)، كما يظهر أن الإرسال كان هو الكثير بين التابعين قبل أن يكثر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن سيرين كما عند مسلم (27)، والترمذي (4340): لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم. فاضطر العلماء إلى الإسناد ليعرف الراوي فيعرق حاله. وراجع: أبو حنيفة لأبي زهرة ص(264).
طبقة الحديث المرسل:
اختلف القائلون بقبول المرسل في طبقته؛ فمنهم من بالغ فيه حتى قال هو أعلى من المسند وأرجح منه؛ لأن من أسند الحديث فقد أحالك على إسناده والنظر في أحوال رواته والبحث عنهم، ومن أرسل منهم حديثًا مع علمه ودينه وإمامته وثقته فقد قطع لك على صحته وكفاك النظر فيه، وهذا قول كثير من الحنفية منهم عيسى بن أبان كما حكاه عنه البزدوي في أصوله (3/ 2)، واختاره بعض المالكية فيما حكى ابن عبدالبر عنهم في التمهيد (1/ 3).
وقال آخرون/ لا فرق بين المرسل والمسند؛ بل هما سواء في وجوب الحجة والاستعمال، وهو قول محمد بن جرير الطبري، وأبي الفرج المالكي، وأبي بكر الأبهري أحد أئمة المالكية أيضًا، وأبي بكر الجصاص من الحنفية -كما في الفصول في الأصول (3/ 150) وهو خلاف ما حكاه عنه العلاء في جامع الأصول-، وعند هؤلاء أنه متى تعارض مدلول حديثين وأحدهما مرسل والآخر مسند فلا ترجيح بالإسناد على الإرسال بل بأمر آخر، وهو غلو قريب من الذي قبله.
وقال أكثر المالكية والمحققون من الحنفية؛ كأبي جعفر الطحاوي بتقديم المسند على المرسل عند التعارض، وإن المرسل وإن كان يحتج به ويوجب العمل ولكنه دون المسند، لتحقق المعرفة برواة المسند وعدالتهم دون رواة المرسل، ولا شك أن رواية من عُرِفت عدالته أَوْلَى ممن لا يعرف عدالته ولا نفسه. وراجع: جامع التحصيل ص(34)، وظفر الأماني ص(351)، وكشف الأسرار (3/ 3).
النوع الثالث/ ما أرسله العدل في كل عصر.
ويقصدون به إرسال من دون القرون الثلاثة، وقد اختلف الحنفية فيه، فقبله أبو الحسن الكرخي، ولم يفرق بين المراسيل من سائر الأعصار، وقال: يقبل إرسال كل عدل في كل عصر؛ لأن العلة التي توجب قبول مراسيل القرون الثلاثة وهي العدالة والضبط تشمل سائر القرون. ولم يقبله عيسى بن أبان إلَّا ممَّن كان من أئمة الدين مشهورًا بقبول أهل العلم لمرسله كما قبلوا مسنده.
يقول عيسى بن أبان: مَنْ أرسل من أهل زماننا -توفي عيسى بن أبان سنة 221هـ كما في تاريغ بغداد (11/ 157) فهو من أهل القرن الثالث- حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان من أئمة الدين وقد نقله عن أهل العلم فإن مرسله مقبول كما يقبل مسنده، ومن حمل عنه الناس الحديث المسند ولم يحملوا عنه المرسل فإن مرسله عندنا موقوف. اهـ. وراجع: كشف الأسرار (3/ 3)، وشرح المنار (644)، وأصول السرخسي (1/ 361).
قال الجصاص في الفصول في الأصول (3/ 145- 146): ففرق في أهل زمانه بين من حمل عنه أهل العلم المرسل دون من لم يحملوا عنه إلا المسند، والذي يعني بقوله: حمل الناس. قبولهم لحديثه لا سماعه، فإن سماع المرسل وغير المرسل جائز.. فأما مراسيل من كان في القرن الرابع من الأمة فإني كنت أرى بعض شيوخنا يقول: إن مراسيلهم غير مقبولة؛ لأنه الزمان الذي روى عنه النبي صلى الله عليه وسلم: أن الكذب يفشو فيه، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم للقرن الأول والثاني والثالث بالصلاح والخير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني الذي بُعِثْتُ فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب) -وقد سبق تخريجه-.. فإذا كان الغالب على أهل الزمان الفساد والكذب لم نقبل فيه إلا خبر من عرفناه بالعدالة والصدق والأمانة. اهـ.
وقد عاب العلائي كما في جامع التحصيل ص(33) على من قَبِلَ مرسل من تأخر زمنه على عصر التابعين ووصفه بأنه توسع غير مرضي، بل باطل مردود بالإجماع في كل عصر على اعتبار الأسانيد والنظر في عدالة الرواة وجرحهم، ولو جَوز قبول مثل هذا لزالت فائدة الإسناد بالكلية، وبَطُلت خصيصة هذه الأمة، وسقط الاستدلال بالسنة على وجهها.
أدلة قبول المرسل:
استدل الحنفية على قبول المرسل بأدلة نقلية وإجماعية واستدلالية.
أولًا/ الأدلة النقلية.
استدلوا بعموم الآيات الموجبة لقبول خبر الآحاد؛ منها قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى..) [البقرة: 159]. وغيرها من الآيات الدالة على وجوب العمل بأخبار الآحاد، ولم يختلف حكم دلالتها في وجوب العلم بالمسند دون المرسل؛ لأن التابعي إذا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم كيت وكي، فقد بيَّن وترك الكتمان فيلزم قبوله بظاهر الآية، وكذلك قوله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِيتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ..) [التوبة: 122]؛ فدل على أن الطائفة من التابعين إذا رجعت إلى قومها فقالت: أنذركم ما قال النبي صلى الله عليهوسلم وأحذركم مخالفته، قد لزمهم قبول خبرها، كما دلَّ على لزوم خبر الصحابي إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وراجع: الفصول في الأصول (3/ 147).
وقد أجاب العلائي كما في جامع التحصيل ص(66) عن استدلالهم بهذه الآيات بأن ليس فيها شئ عمومه لفظي؛ بل هي أفعال مطلقة لا عموم لها، والمطلق يصدق امتثاله بالعمل به في صورة، وإن سلم عمومها من جهة المعنى وعدم التفرقة كما ذكروه؛ فهي مخصوصة بالرواية عن المجهول العين اتفاقًا، كما إذا ذكر الراوي شيخه، وقال: لا أعلم عدالته أو سكت عنه بالكلية، وقلنا بالراجح: إن مجرد رواية العدل عن الراوي ليست تعديلًا له، وإنما خصت بهذه الصورة للجهالة، والجهالة في صورة المرسل أتم؛ لأن فيه جهالة العين والصفة؛ ولأن من لا يُعرف عينه كيف تعرف صفته من العدالة، بخلاف تلك الصورة فإن فيها جهالة الصفة فقد، فإذا خصت بتلك الصورة لزم تخصيصها في صورة الإرسال بطريق الأَوْلَى. وراجع: كشف الأسرار (3/ 3)، وأصول السرخسي (1/ 360).
ثانيًا/ الأدلة الإجماعية.
أما الإجماع فمن وجهين:
الوجه الأول/ اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على قبول المرسل، فإنهم اتفقوا على قبول روايات عبدالله بن عباس مع أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلا بضعة عشر حديثًا، وروايات النعمان بن بشير ولم يسمع إلا حديث: (إن في الجسد مضغة) -أخرجه البخاري (52)، ومسلم (4178)-. ولما أرسل هؤلاء وقَبِلَ الصحابةُ مراسيلَهم، ولم يُرْوَ عن أحد منهم إنكار ذلك، وتفحص أنهم رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة أو بغير واسطة، صار ذلك إجماعًا منهم على جاوز ذلك ووجوب قبوله، لا فرق بين صحابي يرسل وتابعي يرسل؛ لأن عدالتهم تثبت بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا، خصوصًا إذا كان الإرسال من وجوه التابعين؛ مثل عطاء بن أبي رباح من أهل مكة، وسعيد بن المسيب من أهل المدينة وبعض الفقهاء السبعة؛ ومثل الشعبي والنخعي من أهل الكوفة، وأبي العالية والحسن من أهل البصرة، ومكحول من أهل الشام، فإنهم كانوا يرسلون ولا يظن بهم إلا الصدق.
الوجه الثاني/ أن من زمان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يرسلون من غير تحاشٍ ولا امتناع وَملئوا الكتب من المراسيل، ولم يرووا أن أحدًا من الأمة أنكر عليهم ذلك، ولم يزل العلماء من سلفهم وخلفهم يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وقال فلان كذا، ولو كان المرسل مردودًا لامتنعوا عن روايته ولم يُقَروا عليه، فكان ذلك إجماعًا منهم على قبوله، فإن المراسيل جُمعتْ فبلغت قريبًا من خمسين جزءًا، (وهذا تشنيع عليهم، فإنهم سَمُّوا أنفسهم أصحاب الحديث، وانتصبوا لحيازة الأحاديث والعمل بها، ثم ردوا منها ما هو أقوى أقسامها مع كثرته، فكان هذا تعطيلًا للسنن وتضييعًا لها لا حفظًا لها). وراجع: كشف الأسرار (3/ 3)، وأصول السرخسي (1/ 360). [قُلت: والكلام بين القوسين أعلاه لا معنى له لما سبق من رد عليه جملة ولما سيأتي.]
وزعم محمد بن جرير الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل، ولم يأتِ عنهم إنكاره ولا عن أحدِ الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين، كأنه يعني أن الشافعي أول من أَبَى قبول المرسل. وراجع: الفصول في الأصول (3/ 149)، والتمهيد (1/ 4).
وقال أبو داود السجستاني في رسالته لأهل مكة ص(32): وأما المراسيل فقد كان أكثر العلماء يحتجون بها فيما مضى؛ مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي، حتى جاء الشافعي فتكلم في ذلك وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره. اهـ.
وقد رد العلائي بأن دعوى الإجماع في ذلك باطل قطعًا، إلا في عصر الصحابة زمن النبوة وبعدها بيسير حين لم يخالط الصحابة غيرهم؛ وذلك لا يرد على من لم يحتج بالمرسل؛ لأنهم قائلون بقبول مراسيل الصحابة لأن الصحابة كلهم عدول، وأما بعد ما كثر التابعون وانتشرت رواياتهم بين الصحابة المتأخرين وغيرهم، فلا يمكن دعوى إجماع سكوتي على قبول المرسل فضلًا عن غيرها.
واستدل على ذلك بما رواه مسلم (21) من طريق مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس ما لي أراك لا تأذن لحديثي، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع. فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف.
فهذا ابن عباس لم يقبل مراسيل بُشَيْرِ بن كعب، وهو من ثقات التابعين الجلة الذين لم يتكلم فيهم أحد واحتج به البخاري في صحيحه، فكيف بغيره؟!.
وروى مسلم أيضًا (27) عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعتْ الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم.
وروى الخطيب البغدادي في الكفاية ص(391)، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص(6)، والترمذي (4397) من طريق عُتبة بن أبي حكيم: أنه كان عند إسحاق بن أبي فروة وعنده الزهري فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الزهري: قاتلك الله ما أرجأك ألا تسند حديثك، تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة.
وفي صحيح مسلم (34) عن عبدان قال: سمعت عبدالله بن المبار يقول: الإسناد عندي من الدين، ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء.
وعن إبراهيم بن عيسى الطالقاني قال: قلت لعبدالله بن المبار: يا أبا عبدالرحمن الحديث الذي جاء: إن من البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك. قال: فقال عبدالله: يا أبا إسحاق عمن هذا؟ قال: قلت له: من حديث شهاب ابن خراش. فقال: ثقة عمن؟ قال: قلت: عن الحجاج بن دينار. قال: ثقة عمن؟ قال: قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، ولكن ليس في الصدقة اختلاف.
فعدم قبول ابن عباس لمرسل بشير بن كعب، وإنكار الزهري على إسحاق بن أبي فروة وإنكار عبدالله بن المبارك على مرسل الحجاج بن دينار، ينقض دعوى الإجماع على قبول المرسل.
يقول العلائي في جامع التحصيل ص(70): ولاحاصل أن إنكار أهل ذلك العصر للإرسال، وردهم للمرسل موجود في صور كثيرة فلا إجماع حينئذ، ولا يمكن طرد اتفاق الصدر الأول من الصحابة بعد ذلك؛ لما أشار إليه ابن عباس وابن سيرين وغيرهما من الفرق بينهم وبين من بعدهم، لوجود الأهواء والكذب بعد الصدر الأول، ثم إن هذا القول من ادعاء الاتفاق معارض بما نقله مسلم عن غيره -كما في مقدمة صحيحه (1/ 132)- مقررًا لكلامه: المرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة. وقول محمد بن جرير: لم يزل العمل بالإرسال وقبوله حتى حدث بعد المائتين القول برده. مردود بقول من رده قبل المائتين؛ كالأوزاعي وشعبة والليث بن سعد وعبدالرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم. اهـ.
ثالثًا/ الأدلة الاستدلالية.
وأما المعقول فذكروا وجوهًا عديدة منها:
الوجه الأول/ إن الراوي إذا روى الحديث مرسلًا فقد قطع بشهادته على النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر، وكفى من بعده مؤنة البحث والتفتيش عن الراوي، وإذا وصل السند فقد أحال على الواسطة وبَرِئ من عهدته؛ فالجزم من الراوي بصحة الحديث فيما أرسله أظهر منه فيما أسنده، فكان المرسل أقوى، ولا أقل من أن يكونا على السواء، أو يكون المرسل أنزل درجة من المسند ولكنه مما يحتج به.
[قُلت: وقد سبق الرد على ذلك وبيان ما فيه من تضييع لمقصود العلم بالإسناد وفائدته وإبطال لهذا الفن بكلام لم يصدر من أهله.]
الوجه الثاني/ أن عدالة الراوي وأمانته يمنعانه أن يشهد على النبي صلى الله عليه وسلم بخبر ويكون راويه غير ثقة ولا حجة، فلا يستجيز أن يجزم بالحديث إلا بعد صحته عنده، وإلا يلزم أن يكون فاسقًا مردود الرواية، لكونه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا بصيغة الجزم، وهو لا يعلم ثبوته أو لا يغلب ثبوته على ظنه؛ فالقول برد المرسل يلزم منه القدح في الراوي وذلك باطل؛ لأن الإرسال لو كان مقتضيًا للقدح في المرسِل لم يقبل الأئمة من الراوي شيئًا مما أسنده إذا كان قد روى مراسيل وخصوصًا إذا أكثر منها، وقد اتفقت الأمة على قبول خلق كثير من الرواة مع كثرة ما أرسلوه وذلك يستلزم قبول مراسيلهم، ولا انفكاك عن واحد من الأمرين؛ القدح في الراوي أو قبول مرسله.
ومن الدليل على هذين الوجهين، وأن الراوي الثقة كان لا يرسل لحديث إلا بعد صحته عنده، ما رواه ابن عبدالبر في التمهيذ (1/ 37) عن الأعمش قال: قلت لإبراهيم النخعي: إذا حدثتني فأسند فقال: إذا قلت لك قال عبدالله فقد حدثني جماعة عنه، وإذا قلت لك حدثني فلان وفلان عن عبدالله فهو الذي حدثني.
وقال الحسن البصري: كنت إذا اجتمع لي أربعة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تركتهم وأسندته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العلائي في جامع التحصيل ص(76): لم أجده مسندًا؛ بل هو في كتب الحنفية منقطعًا. اهـ.
والجواب عن ذلك إجمالًا: أن الأخبار كلها متضمنة أمور الدين إما العلمية وإما العملية، وما كان بهذا السبيل فلا يجوز قبوله من كل أحد؛ بل لا بد فيه من اعتبار العدالة والتيقظ بالاتفاق؛ ولهذا قال محمد بن سيرين وغيره من الأئمة: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. أخرجه مسلم (26).
وإذا كان كذلك فلا بد من تحقق العدالة عند المروي له؛ لأن الرواية أداء شرع إليه وإلزام يتصل به، فهو كالشهادة إنما تعتبر عدالة الشهود عند الحاكم؛ لأنهم يؤدون إليه الشهادة، ولا تثبت عدالته عند المروي له حتى يعرف بعينه وصفته، ولا يكفي ذلك كونه عدلًا عند الراوي له مع إبهام اسمه، حتى لو قال الراوي: حدثني ثقة ولم يسمه لم يكن ذلك كافيًا في حق المروي له، إلا أن يكون ذلك القائل مجتهدًا، والمكتفي بذلك مقلد له فيجوز؛ كأصحاب الشافعي فيما يقول فيه أخبرني الثقة وأخبرني من لا أتهم ونحو ذلك، أما أنه ينتهض ذلك بمجرده حجة على خصمه فلا؛ إذ من الجائز أنه لو سماه لاطلع فيه غيره على ما يقتضي جرحه، ولم يكن ظهر لمن وثقه، بخلاف ما إذا سماه باسمه ووثقه، فإن المروي له وغيره إذا بحث عنه فلم يجد فيه جرحًا اطمأن إلى توثيقه ولزم العمل بخبره.
وأما الجواب تفصيلًا: فقولهم في الوجه الأول: إن المرسِل قد قطع بإرساله الشهادة على النبي صلى الله عليه وسلم بخبره. جوابه: المنع؛ إذ لا سبيل إلى القطع إلا في الخبر المتواتر، وأما خبر الواحد فلا يفيد إلا الظن؛ بل لو صرح المرسِل للحديث بذلك، وقال: أقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، لزم تأويل قوله وصرفه عن ظاهره، وإلا كان كذبًا ويعود عليه بالجرح، وإذا تعين تأويل معنى الإرسال فعلى قولهم يكون معناه: أظن أو يغلب على ظني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، وعلى قول المانعين لصحة المرسل يكون معناه: سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، وليس إضمار الأول بأقل من إضمار الثاني، وعلى تقدير إيراده المعنى الثاني فليس فيه جزم بالخبر؛ بل لو صرح بذلك، وقال: إني سمعت أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، لم يكن فيه جزم بالمروي ولا تعديل لمن أرسل عنه.
وقولهم: كَفَى المرسِل بإرساله مَنْ بَعْدَهُ مؤنةَ البحث والتفتيش عن الراوي. فجوابه: أن الأمر ليس كذلك، ولا تنتهض الحجة بمجرده؛ بل لا بد من معرفة ذلك لراوي ولو صرح بتوثيقه، فإذا لم يجد فيه لغيره جرحًا مؤثرًا فحينئذٍ تقوم الحجة به، وما لم يعرفه فتجويز كونه مجروحًا ممكن، وإذا احتمل لم يثبت خبره. فإن قيل: لو كان مجروحًا لبينه ولم يجزم بخبره. فجوابه: أنه ربما لم يظهر له جرحه لقلة ممارسته حديثه، وعند معرفته باسمه يظهر لغيره ذلك.
وبهذا يخرج أيضًا الجواب عن الوجه الثاني، وهو أنه لو لم يكن عدلًا عنده لكان بجزمه بالرواية عنه فاسقًا، لإثباته خبره وهو لا يغلب ثبوته على ظنه وتعديله من ليس عدلًا؛ فالجواب: أنه لا يلزم ذلك؛ لأنه لم يُكَلَّفْ إلا بما ظهر له، وقد يظهر لغيره خلاف ذلك ويترجح على تعديل هذا، كما قد وقع للزهري مع إمامته في إرساله عن سليمان ابن أرقم لظنه تعديله، وهو ضعيف متروك لا يحتج به، ومثل هذا كثير جدًّا، فلا تلازم بين الأمرين كما قالوا؛ بل لو صرَّح الراوي بتعديل شيخِه لِمَا ظهر له منه، ووجدنا غيره قد جرحه جرحًا مؤثِّرًا، لم يَعُدْ ذلك على الراوي الموثِّق بالجرح؛ لأنه إنما وَثَّق بحسب ظنه واجتهاده، فكذلك إذا جزم بالخبر وصححه، واطَّلع غيره فيه على علة قادحة فيه، قُدِّمت على تصحيح ذاك ما عدا تصحيح الشيخين؛ لاتفاق الأمة على تلقي ذلك منها بالقبول؛ فغاية الأمر أن المرسِل صرح بتصحيح ما أرسله وتعديل شيخه، ومع الإبهام لا يثبت ذلك ما لم يعرف الراوي، وينظر هل فيه جرح مؤثر أم لا، والذي يبين هذا كله أن كثيرًا من المراسيل المتقدمة فُتِّش عنها فوُجدت عن ضعيف في الرواية.
وقولهم: إن الراوي لا يرسِل الحديث إلا بعد جزمه بعدالة من أرسل عنه. مجرد دعوى لا دليل عليها سوى ما ذكروا من لزوم فسق ذلك الراوي، وقد تبين أنه ليس بلازم، ثم إن المشاهَد يشهد بخلاف ذلك، ويعارضه أيضًا كلام أئمة هذا الفن.
روى عاصم الأحول عن ابن سيرين قال: لا تأخذوا بمراسيل الحسن ولا أبي العالية، فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث. أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 171)، والخطيب البغدادي في الكفاية (1/ 392).
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان قال: ربما حدثت الحسن بالحديث ثم أسمعه بعد يحدث به، فأقول: من حدثك يا أبا سعيد؟ فيقول: ما أدري غير أني سمعته من ثقة. فأقول: أنا حدثتك به. أخرجه ابن عبدالبر في التمهيد (1/ 57)، وراجع تهذيب الكمال (6/ 121). فهذا الحسن يرسل عن علي بن زيد وهو متكلم فيه كثيرًا -رجاع ترجمته في تهذيب الكمال (20/ 434)، وتوثيقه إياه بحسب ظنه. وقال ابن عون: قال بكر المزني للحسن وأنا عنده: عمن هذه الأحاديث التي تقول فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: عنك وعن ذا. وراجع: تهذيب التهذيب (2/ 235).
وهذا كله يرد ما ذكروه عن الحسن أنه قال: كنت إذا اجتمع لي أربعة نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تركتهم وقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. مع أنه لا يوجد مسندًا؛ بل هو في كتبهم هكذا منقطعًا.
وأما ما ذكروه عن إبراهيم النخعي فهو صحيح، رواه شعبة عن الأعمش عنه، وكذلك قال أحمد بن حنبل: مرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها. وأشار البيهقي إلى أن هذا إنما يجئ فيما جزم به إبراهيم النخعي عن ابن مسعود وأرسله عنه؛ لأنه قيد فعله ذاك، فأما غيرها فإنا نجده يروي عن قوم مجهولين لا يروي عنهم غيره، مثل هني بن نويرة، وجذامة الطائي، وقرضع الضبي، ويزيد بن أوس.. وغيرهم.
وراجع: جامع التحصيل ص(73- 80).
الوجه الثالث/ لو لم يكن المرسل حجة لم يكن الخبر المُعَنعن حجة؛ لأن الراوي أيضًا أرسله بالعنعنة ولم يصرح بالسماع ممن فوقه، ولااحتمال الذي ذكرتموه في الخبر المرسل قائم بعينه في المعنعن، واحتمال لقاء المعنعن شيخه وسماعه منه ليس بدون احتمال ثقة الواسطة المحذوف وعدالته.
والجواب عنه: أن الراوي الذي يطلق لفظة "عن" إما أن يكون لم يعرف بتدليس أو عُرف به، فإن لم يُعرف بتدليس وكان لقاؤه لشيخه ممكنًا أو ثبت لقاؤه له على اختلاف القولين لمسلم والبخاري؛ فلفظة "عن" محمولة على الاتصال، وليس للانقطاع وجه ولا للواسطة احتمال؛ لأن الظاهر سماعه لذلك من شيخه، والأصل السلامة من وصمة التدليس، فلا يقاس المرسل على هذا مع ظهور الفرق بينهما، وإن كان ذلك الراوي معروفًا بالتدليس، فما رواه عن شيخه بلفظ "عن" أو غيرهما مما لم يصرح فيه بالسماع منه حكمه حكم المرسل سواء، فمَن قَبِل المرسل مطلقًا قبله، ومن رده رد هذا أيضًا ولا فرق، ومن فرق في المرسل بين من كان لا يرسل إلا عن عدل فقبله، وبين من يروي عن كل ضرب فلا يحتج بمرسله، يقول كذلك في التدليس، فمن عُرف منه أن لا يدلس إلا عن ثقة؛ كسفيان بن عيينة قُبِلَ ما قال فيه "عن" واحتجَّ به، ومن عُرف بالتدليس عن الضعفاء كابن إسحاق وبقية وأمثالهما لم يحتج من حديثه إلا بما قال فيه: حدثنا وسمعت، وهذا هو الراجح في البابين. راجع: جامع التحصيل ص(73)، والأصول في الفصول (3/ 153)، وأصول السرخسي (1/ 361).
قال ابن عبدالبر في التمهيد (1/ 30- 31): قالوا: لا نقبل تدليس ال‘مش؛ لأنه إذا وُقِّف أحال على غير ثقة، إذا سألته عمن هذا؟ قال: عن موسى بن طريف وعباية بن ربعي والحسن بن ذكوان. وقالوا: نقبل تدليس ابن عيينة؛ لأنه إذا وُقِّف أحال على ابن جريج ومعمر ونظائرهما. اهـ.
الوجه الرابع/ إذا وجب على المستفتي قبول قول المفتي فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى بناءً على ظاهر علمه وعدالته، فيجب على العالم قبول ما يرسله الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظًا، بناءً أيضًا على ظاهر عدالته وصدقه وأمانته.
والجواب عنه: أن المستفتي العامي ليس من أهل النظر فلا فائدة له من الوقوف على مستند المفتي؛ لأنه مقلد محض [وقد أجمعوا على أنه لم يزل أهل العلم يستفتون فيفتون من غير إبداء المستند- كما في الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 226)، والمعتمد لأبي حسين البصري (2/ 934- 935)، والموافقات للشاطبي (4/ 292- 293)، وغيرهم.]، وإنما اختلفوا في أنه هل يجب عليه البحث عن الأعلم فيقلده، أو لا يجب عليه ذلك ويكتفي بظاهر العلم والانتصاب للفتوى والإفادة وهو الذي عليه العمل [فإنما خلافهم على التحري والاجتهاد في سؤال الأعلم والأورع، والراجح الذي عليه الجمهور أن له سؤال من يشاء وتقليده بشراطة عدم تتبع الرخص والتخيير بالتشهي على تفصيل يطول]، بخلاف من يحتج بالخبر، فإنه يجب عليه الفحص عن روايته وبذل الجهد في الكشف عنهم، حتي يتبين له منهم ما يقتضي قيام الحجة بخبرهم، وكل ذلك مفقود فيمن لم يعرف عينه كما تقدم، فلا يقاس أحد البابين بالآخر. وراجع: جامع التحصيل ص(73)، والفصول في الأصول (3/ 154).
الوجه الخامس/ أن الحاكم إذا حكم بشهادة عدلين وأسجل بهما ولم يسمهما لم يجز لأحد الاعتراض على حكمه لأجل تسمية الشهود، فكذلك هنا لا اعتراض على الراوي في تركه تسمية شيخه.
والجواب عنه: بالفرق أيضًا بين المقامين، بأن الحاكم ليس له أن يحكم إلا بعد ثبوت عدالة الشاهدين عنده بطريقه المعتبرة، والراوي لا يجب عليه أنه لا يروي إلا عن ثقة؛ بل أطبق الرواة في كل عصر على الرواية عن الضعفاء، فتارة يبينون حال الضعيف عند الرواية كما قال الشعبي: حدثني الحارث الأعور وكان كاذبًا. وراجع: جامع التحصيل ص(73)، والفصول في الأصول (3/ 152)، وأصول السرخسي (1/ 362). والغالب أنهم يكتفون بما يعرفه أهل الفن من حاله، فإذا أرسل عن أحد لم يكن حكم ذلك المرسل كالحاكم الذي لم يعين الشهود للفرق بينهما. راجع: مقدمة صحيح مسلم (51).
النوع الرابع/ ما أُرسل من وجه واتصل من وجه آخر.
إذا رُوي الحديث مرسلًا ثم رُوي متصلًا، أو رُوي موقوفًا ثم رُوِي مرفوعًا، فإن الوصل والرفع حينئذٍ يكونا زيادة على الإرسال والوقف، فإذا كانت هذه الزيادة من ضعيف لم تقبل اتفاقًا، أما إذا كانت من ثقة فقد اشتهر أنها تقبل مطلقًا، والصحيح أنها مقبولة ما لم تكن منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة، وهذا يدفعنا إلى الكلام عن حكم زيادة الثقات وأنواعها وشروط قبولها.
وزيادة الثقة: هي ما يتفرد به الثقة في رواية الحديث من لفظة أو جملة في السند أو المتن. وعلى ذلك فالزيادة قسمان:
القسم الأول/ زيادة في السند. ومنها ما يكثر من اختلاف الرواة في وصل الحديث وإرساله وكذا رفعه ووقفه.
وقد ذهب أكثر أهل الحديث إلى ترجيح رواية الإرسال على الوصل وترجيح رواية الوقف على الرفع، وحُكي عن بعضهم أن الحكم للأكثر، وعند بعضهم للأحفظ.
والراجح الذي عليه المحققون من أئمة الحديث هو ترجيح الوصل على الإرسال والرفع على الوقف، إذا كان راويهما حافظًا متقنًا ضابطًا، سواء كان المخالف له واحدًا أو جماعة أحفظ أم لا.
قال الخطيب البغدادي في الكفاية ص(411): وهذا القول هو الصحيح عندنا؛ لأن إرسال الراوي للحديث ليس بجرح لمن وصله ولا تكذيب له، ولعله أيضًا مسند عند الذين أرسلوه لغرض أو نسيان، والناسي لا يقضب على الذاكر، وكذلك حال رواي الخبر إذا أرسله مرة ووصله أخرى لا يضعف ذلك أيضًا؛ لأنه قد نسي فيرسله ثم يذكر بعد فيسنده، أو يفعل الأمرين معًا عن قصد منه لغرض له فيه.
وقال ابن الصلاح في علوم الحديث ص(72): الحكم في كل ذلك لما زاده الثقة من الوصل والرفع؛ لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيًا فالمثبت مقدم عليه؛ لأنه علم ما خفي عليه. اهـ.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (1/ 32): إذا رواه بعض الثقات الضابطين متصلًا وبعضهم مرسلًا، أو بعضهم موقوفًا وبعضهم مرفوعًا، أو وصله هو أو رفعه في وقت وأرسله أو وقفه في وقت، فالصحيح الذي قاله المحققون من المحدثين وقاله الفقهاء وأصحاب الأصول وصححه الخطيب البغدادي: أن الحكم لمن وصله أو رفعه سواء كان المخالف له مثله أو أكثر أو أحفظ؛ لأنه زيادة ثقة وهي مقبولة. اهـ.
والحكم بقبول الوصل والرفع ليس على إطلاقه، فقد تظهر للمحدث قرائن قوية تجعله يرجح الإرسال أو الوقف، كما يتبين ذلك من مراجعة أحكامهم الجزئية.
يقول العلائي: كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي؛ بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في كل حديث حديث. اهـ. وراجع: النكت على ابن الصلاح لابن حجر (2/ 64)، وراجع تدريب الراوي (1/ 221)، والإرشاد ص(91)، وفتح المغيث (1/ 199)، ومنهج النقد في علوم الحديث ص(424).
هذا مذهب المحدثين في تعارض الوصل والإرسال، وتعارض الرفع والوقف، أما الحنفية فلا تعارض عندهم أصلًا بين الوصل والإرسال؛ لأنهما سواء عندهم، أما الرفع والوقف فالحكم عندهم للرفع ويَرَوْن أن رواية الوقف مؤكدة لرواية الرفع.
يقول الجصاص في الفصول في الأصول (3/ 178- 179): وإذا روى بعض الصحابة حديثًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم روى ذلك الحديث عن ذلك الصحابي موقوفًا عليه، فإن ذلك عندنا غير مفسد لرواية من رواه مرفوعًا؛ بل هو مما يؤكد روايته التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم يوجب تأكيد روايته، ويكون دليلًا على أنه رآه ثابت الحكم غير منسوخ. اهـ.
ثم عاب على المحدثين؛ حيث يرجحون باعتبار الحفظ دون النظر إلى اعتبارات أخرى، وقد علمت أن الراجح عند المحدثين خلاف ذلك.
يقول الجصاص في الفصول (3/ 179): وقوم من أصحاب الحديث يصنفون الرواة فيجعلونهم طبقات، فإذا روى رجل من أهل الطبقة العليا حديثًا قبلوا عليه زيادة من هو في طبقته، ولم يقبلوا عليه زيادة من هو دون طبقته، وكذلك إذا أسند رجل من أهل الطبقة العليا حديثًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه رجل ممن هو دون طبقته كان عندهم مسندًا، وإن وقفه من كان من أهل الطبقة العليا على الصحابي ورفعه من هو في طبقة دونها كان ذلك عندهم موقوفًا ولم يكن مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك يقولون فيما يرسله واحد ويسنده آخر على هذا الاعتبار، ولا يعتبرون معارضتها للأصول ودلائلها، وإنما يصححون الروايات بالرجال فحسب، ولم نعلم أحدًا من الفقهاء يعتبر في قبول أخبار الآحاد اعتبارهم. اهـ. وراجع: كشف الأسرار (3/ 7)، وأصول السرخسي (1/ 364)، وشرح المنار ص(646).
القسم الثاني/ الزيادة في المتن: وهي أن يروي أحد الرواة زيادة لفظة أو جملة في متن الحديث لا يرويها غيره.
وتنقسم الزيادة في المتن إلى ثلاثةِ أنواعٍ:
النوع الأول/ أن تخالف الزيادة ما رواه الثقات بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى، وهذه حكمها الرد، ويُسمى حديث راوي هذه الزيادة المخالفة لراوية من هو أوثق منه بالشاذ، وقد سبق ذكر شروط الصحة ومنها أن لا يكون الحديث شاذًّا.
يقول الحافظ ابن حجر في نزهة النظر ص(67): واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقًا من غير تفصيل، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذًّا، ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه، والعجب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح وكذا الحسن. والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين.. اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ولا يُعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة. اهـ.
النوع الثاني/ أن لا يكون فيه منافاة أو مخالفة أصلًا لما رواه غيره، فهذه تقبل بالاتفاق كما قال الخطيب، سواء كانت من الراوي نفسه بأن رواه مرة ناقصًا ومرة فيه تلك الزيادة، أو رواه هو فيه تلك الزيادة وغيره بدونها؛ لأنها بمثابة خبر منفصل تفرد به الراوي فيقبل منه. راجع: تدريب الراوي (1/ 222).
النوع الثالث/ ما يقع بين هاتين المرتبتين كأن يرد الحديث بصيغة العموم أو الإطلاق ويأتي اللفظ الزائد بما يخصص العموم أو يقيد الإطلاق.
وهذا القسم يشبه القسم المردود من حيث اختلاف الحكم، ويشبه القسم المقبول من حيث إنه لا منافاة بينهما ولا يلزم من قبول الزيادة رد الرواية الأخرى، وهذا القسم لم يصرح ابن الصلاح بحكمه، وصحح النووي قبوله.
وأما الحنفية فقد فرق أبو بكر الجصاص في الفصول في الأصول (3/ 177) بين ما إذا كانت الزيادة في حديث اتحد مخرجه وبين حديث اختلف مخرجه، فأما الزيادة في الحديث مع اتحاد المخرج فمقبولة وتعمل في الرواية الأخرى بتخصيص العام وتقييد المطلق، أما الزيادة مع اختلاف المخرج فمقبولة أيضًا ولكنها لا تعمل في الرواية الأخرى ويستعمل الخبران، ويحمل الخبر المطلق على إطلاقه ويبقى العام على عمومه.
وذكر الكمال ابن الهمام في التقرير والتحبير (2/ 293- 295) تفصيلًا آخر يعتمد على احتاد مجلس السماع وتعدده وحال السامعين معه: فإذا انفرد الثقة بزيادة وعُلم اتحاد المجلس، ومن معه لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة لم تُقبل؛ لأن غلطه وَهُمْ كذلك أظهر من غلطهم؛ لأن تطرق الغلط والسهور إليه أَوْلَى من احتمال تطرقه إليهم، وإن كان مثلهم يغفل عن مثلها، فالجمهور من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين وهو المختار تُقبل، وعن أحمد في رواية وبعض المحدثين لا تقل، فإن تعدد المجلس أو جهل تعدده قُبِلَ المزيد اتفاقًا.
ثم ذكر أن إطلاق قبول الزيادة يقتضي قبول الزيادة المخالفة، ويسلك الترجيح على هذا التفصيل الذي ذكره الجصاص، من حيث اتحاد المخرج وعدمه.
وذكر هذا التفصيل أيضًا ابن الحنبلي فقال: ذهب بعض أصحاب الحديث إلى رد الزيادة مطلقًا ونقل عن معظم أصحاب أبي حنيفة.
والمختار عند ابن الساعاتي وغيره من الحنفية كما في قفو الأثر ص(61- 62): أنه إذا انفرد العدل بزيادة لا تخالف، كما لو نقل أنه صلى الله عليه وسلم دخل البيت فزاد: وصلى، فإن اختلف المجلس قُبِلَتْ باتفاق، وإن اتحد وكان غيره قد انتهى في العدد إلى حد لا يتصور غفلتهم عن مثل ما زاد لم تقبل، وإن لم ينتهِ فالجمهور على القبول خلافًا لبعض المحدثين وأحمد في رواية، وإن جهل حال المجلس فهو بالقبول أَوْلَى مما إذا اتحد بذلك الشرط، وأما إذا كانت الزيادة مخالفة فالظاهر التعارض.
-ويُمكن تلخيص هذا التفصيل في النقاط التالية:
1- تقبل الزيادة إذا كانت لا تخالف، أو اختلف مجلس السماع، أو جُهل حال المجلس، أو كان المخالفون يغفلون عن مثل هذه الزيادة.
2- لا تقبل الزيادة إذا اتحد المجلس، أو كان الخالفون لا يتصور غفلتهم عن الزيادة.
3- إذا كانت الزيادة مخالفة فالظاهر التعارض فيسلك الترجيح.
ذكر الجصاص في الفصول في الأصول (3/ 177) عن الكرخي: أنه كان يذهب إلى أن راوي الحديث إذا كان واحدًا، ثم اختلف الرواة عنه في زيادة ألفاظه ونقصانها، أن الأصل هو ما رواه الذي ساقه بزيادة وأن النقصان إنما هو إغفال من بعض الرواة؛ وذلك لأنه لما كان رواي الخبر واحدًا، لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك مرتين، ذكر في إحداها الزيادة ولم يذكرها في الأخرى، فلم يجز إثبات ذلك؛ لأن فيه إثبات خبر الشك من غير رواية. اهـ.
وذلك نحو ما روى أبو داود (3511)، والنسائي (4648) من طريق محمد بن الأشعث بن قيس الكندي عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان).
وروى الحديث ابن ماجه (2186)، والدارمي في سننه (2/ 325) من طريق عبدالرحمن بن مسعود عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة والبيع قائم بعينه، فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع). فزاد فيه: (والبيع قائم بعينه). وجاءت هذه الزيادة عند الدارقطني في سننه (3/ 20) بلفظ: (والسلعة كما هي لم تستهلك).
فقبل الحنفية هذه الزيادة لاتحاد مخرج الحديث واعتبروها أصل الرواية، وما جاء من حذف في الرواية الأخرى إغفال من بعض رواته.
وأما إذا روى الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين أو ثلاثة أو أكثر، فكان في ظاهر الحال دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك في أوقات مختلفة، وفي بعض ألفاظ الرواة زيادة، فالزيادة مقبولة والخبر المطلق أيضًا محمول على إطلاقه؛ وذلك نحو ما روي عن عبدالله بن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين -رواه البخاري (1503، 1504)، ومسلم (2325، 2329) بزيادة لفظة "من المسلمين" من طريق مالك والضحاك بن عثمان وعمر بن نافع ثلاثتهم عن نافع عن ابن عمر، ورواه البخاري (1511، 1512) ومسلم (2326) بدون هذه الزيادة من طريق عبيدالله بن عمر وأيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر. وقد قبل المحدثون هذه الزيادة وذكروها مثالًا لزيادة الثقة القبولة في النوع الثالث من الزيادة في المتن-.
وروى جماعة غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أدوا صدقة الفطر على كل حر وعبد صغير وكبير) -رواه بهذا اللفظ الطحاوي في مشكل الآثار (4/ 29) عن ثعلبة بن أبي صغير عن أبيه، وأصله في سنن أبي داود (1619). وممن روى الحديث بغير هذه الزيادة من الصحابة أبو سعيد الخدري عند البخاري (1506) ومسلم (2330- 2332) وابن عباس عند النسائي (1591). ومما يؤيد حديث ابن عمر ما رواه الترمذي (676) من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعًا: (ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم). وقال: حسن غريب-. ولم يذكر فيه "من المسلمين" فهذان الخبران كلُّ واحدٍ منهما غير الآخر، فهما مستعملان جميعًا، ولا يجوز حمل المطلق على الخبر المقيد بشرط الإسلام؛ لأن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال هذا مرة وهذا مرة. وراجع: الفصول في الأصول (3/ 177- 178). ولأجل ذلك أوجب الحنفية أن يؤدي المسلم صدقة الفطر عن عبده الكافر. وراجع: الهداية وشروحها: نصب الراية (2/ 500)، والعناية (2/ 288)، وفتح القدير (2/ 288)، وبدائع الصنائع (2/ 70).
وذهب البزدوي إلى أنا لنطلق لا يحمل على المقيد في هذين الحديثين لورودهما في سبب الحكم، فأحد النصين جعل الرأس المطلق سببًا والآخر جعل رأس المسلم سببًا، ولا مزاحمة، أي لا تنافي في الأسباب؛ إذ يجوز أن يكون لشئ واحد أسباب متعددة شرعًا وحسًّا على سبيل البدل؛ كالملك والموت، وإذا انتفت المزاحمة وجب الجمع، فإن قيل: إذا لم يحمل المطلق على المقيد أدى إلى إلغاء المقيد فإن حكمه يفهم من المطلق، ألا ترى أن حكم العبد المسلم يستفاد من إطلاق اسم العبد في صدقة الفطر كما يستفاد حكم الكافر، وإذا كان كذلك لم يبق في ذكر المقيد فائدة.
وأُجيب عن ذلك: بأن الأمر ليس كذلك، فإنَّ قَبْلَ ورود المقيد يعمل به من حيث إنه مطلق، وبعد وروده يعمل به من حيث إنه مقيد، وفيه فائدة وهي: أن يكون المقيد دليلًا على الاستحباب والفضل، أو على أنه عزيمة والمطلق رخصة، وجوز ذلك متى أمكن العمل بها جميعًا، واحتمال الفائدة قائم لا يجعل النصان نصًّا واحدًا، كيف والحمل يؤدي إلى إبطال صفة الإطلاق على وجه لم يبق معمولًا، وعدم الحمل لا يؤدي إلى إبطال شئ فكان أَوْلَى. وراجع: كشف الأسرار (2/ 295). وراجع: وأصول السرخسي (1/ 257).
يقول الكمال ابن الهمام في فتح القدير (2/ 288): فإن الإطلاق في العبد في الصحيح يوجبها في الكافر، والتقييد في الصحيح أيضًا بقوله: (من المسلمين) لا يعارضه؛ لما عرف من عدم حمل المطلق على المقيد في الأسباب؛ لأنه لا تزاحم فيها، فيمكن العمل بهما، فيكون كل واحد من المقيد والمطلق سببًا بخلاف ورودهما في حكم واحد، وكل من قال بأن إفراد فرد من العام لا يوجب التخصيص، يلزمه أن يقول: إن تعليق حكم بمطلق ثم تعليقه بعينه بمقيد لا يوجب تقييد ذلك المطلق بأدنى تأمل، نعم إذا لم يكن العمل بهما صير إليه ضرورة.
مثال آخر/ روى البخاري (335)، ومسلم (1191) عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أُعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل..).
وروى مسلم في صحيحه (1193) عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فُضلنا على الناس بثلاث: جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجُعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء). وذكر خصلة أخرى.
جاءت رواية الحديث الأُولى بلفظ العموم فأفادت جواز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض، وجاءت الزيادة في الحديث الثاني فخضت ذلك بالتراب.
وقد قبل المحدثون هذه الزيادة؛ ولذلك خص الشافعية جواز التيمم بالتراب -راجع: المجموع (2/ 245)، وأما الحنفية قياسًا على ما قرره الجصاص في التقرير والتحبير (1/ 285) وهو أن الزيادة إذا كانت في حديثين اختلف مخرجهما تُقبل، ولكن لا تعمل في الحديث الآخر بتقييد ولا تخصيص ويعمل بالحديثين جميعًا، فقد قالوا بجواز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض.
ومن جهة أخرى يرى الكمال ابن الهمام أن ذلك لا يعد تخصيصًا، وتوهم أنه تخصيص خطأ؛ لأنه إفراد فرد من العام؛ لأنه ربط الحكم العام نفسه ببعض أفراده والتخصيص إفراد الفرد من حكم العام فليس بمخصص على المختار.
يقول صاحب الهداية: ويجوز التيمم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى بكل ما كان من جنس الأرض؛ كالتراب والرمل والحجر والجص والنورة والكحل والزرنيخ. وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بالتراب والرمل. اهـ. وراجع: الهداية وشروحها: نصب الراية (1/ 228)، وفتح القدير (1/ 128)، والعناية (1/ 128). وراجع: المبسوط (1/ 108)، وأحكام القرآن للجصاص (2/ 546).
وبعد هذا العرض للانقطاع الظاهر عند المحدثين والحنفية، يُمكن ذكر أهم نتائجه في النقاط التالية:
1- الانقطاع بجميع أنواعه عند المحدثين من الضعيف المردود، وعند الحنفية لا يقدح الانقطاع الظاهر في صحة الحديث بخلاف الانقطاع الباطن.
2- المرسل عند المحدثين يختص بالتابعين وأما عند الحنفية فإن المرسل -على ما اختاره المحققون- يختص بأهل القرون الثلاثة، ويقبل بشرط أن يكون المرسل ثقة ولا يعرف بالإرسال عن غير الثقات.
3- زيادة الثقات في الإسناد بوصل المرسل أو رفع الموقوف مقبولة عند الحنفية والمحدثين.
4- زيادة الثقات في المتن مقبولة عند المحدثين بشرط أن لا تكون منافية لما رواه الثقات، ومقبولة عند الحنفية سواء اتحد مخرج الحديث أو اختلف إلا أنها في الأخير يُعمل بالحديثين ولا يخصص بها العموم ولا يقيد بها الإطلاق.
فإنما يُرجع في كل فن إلى أهله! .
ويُنظر: منهج الحنفية في نقد الحديث الصفحات من(123) حتى(148).
والله أعلم.