أحمد بن فخري الرفاعي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 12 يناير 2008
- المشاركات
- 1,432
- الكنية
- أبو عبد الله
- التخصص
- باحث اسلامي
- المدينة
- عمان
- المذهب الفقهي
- شافعي
قال الخطابي في "معالم السنن" :
" ورَأَيْتُ أَهْلَ العِلْمِ في زَمَانِنَا قَدْ انَقْسَمُوا إِلى فِرْقَتَيْنِ : أَصْحَابِ حَدِيثٍ وأَثَرٍ ، وَأَهْلِ فِقْهٍ وَنَظَرٍ .
وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لا تَتَمَيَّزُ عَنْ أُخْتِهَا في الحَاجَةِ ، ولا تَسْتَغنِي عَنْهَا في دَرَكِ مَا تَنْحُوهُ مِنْ البُغْيَةِ والإِرَادَةِ ، لأَنَّ الحدِيثَ بِمَنْزِلَةِ الأَسَاسِ الَّذِي هُوَ الأَصْلُ ، وَالفِقْهُ بِمَنْزِلَةِ البِنَاءِ الَّذِي هُوَ لَهُ كَالفَرْعِ .
وَكُلُّ بِنَاءٍ لَمْ يُوضَعْ عَلى قَاعِدةٍ وأَسَاسٍ ، فَهُوَ مُنْهَارٌ ، وَكُلُّ أَسَاسٍ خَلا عَنْ بِنَاءٍ وعِمَارَةٍ ، فَهُوَ قَفْرٌ وخَرَابٌ .
وَوَجدْتُ هَذَيْنِ الفَرِيقَيْنِ عَلى مَا بَيْنَهُمُ مِنْ التَّدَانِي فِي المَحَلَّّيْن ، وَالتَقَارُبِ فِي المَنْزِلَتَيْنِ ،وَعُمُومِ الحَاجَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ إلى بَعْض ، وَشُمُولِ الفَاقَةِ اللَّازِمَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمْ إلى صَاحِبِهِ إِخْوَانَاً مُتَهَاجِرِينَ ، وَعَلَى سَبِيلِ الحَقِّ بِلُزُومِ التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاونِ غَيْرَ مُتَظاهِرين .
فأَمَّا هَذِهِ الطَّبَقةُ - الَّذِين هُمْ أَهلُ الأَثَرِ والحَدِيثِ - فَإِنَّ الأَكْثَرِينَ مِنْهُم إِنَّما وَكْدُهُمُ الرِّوَايَاتِ ، وَجَمْعُ الطُّرُقِ ، وَطَلَبُ الغَرِيبِ والشَّاذِّ مِنْ الحَدِيثِ الَّذِي أَكْثرهُ مَوْضُوعٌ أَوْ مَقْلُوبٌ لا يُرَاعُونَ المُتُونَ ، ولا يَتَفَهَّمُونَ المَعَانِي ، ولا يَسْتَنْبِطُونَ سِيَرَهَا ، ولا يَسْتَخْرِجُونَ رِكَازَهَا وَفِقْهَهَا ، وَرُبَّمَا عَابُوا الفُقَهَاءَ وتَنَاوَلُوُهُمْ بِالطَّعْنِ ، وادَّعُوْا عَلَيْهِمُ مُخَالَفةَ السُّنَنِ ، ولايَعْلَمُونَ أَنَّهُمُ عَنْ مَبْلَغِ مَا أُوْتُوهُ مِنْ العِلْمِ قَاصِرُونَ ، وبِسُوءِ القَوْلِ فِيْهِمُ آثِمُونَ .
وأَمَّا الطَّبَقةُ الاخْرَى - وَهُمْ أَهْلُ الفِقْهِ والنَّظَرِ - فِإِنَّ أَكْثَرَهُمُ لا يُعَرِّجُونَ مِنْ الحَدِيثِ إَلَّا عَلى أَقلِّهِ ، ولا يَكادُونَ يُمَيِّزُونَ صَحِيْحَهُ مِنْ سَقِيْمِهِ ، وَلا يَعْرِفُونَ جَيِّدَهُ مِنْ رَدِيْئِهِ ، و لا يَعْبَأُونَ بِمَا بَلَغَهُمُ مِنْهُ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهِ عَلى خُصُومِهمُ إِذَا وَافَقَ مَذَاهِبَهُم الَّتِي يِنْتَحِلُونَهَا ، ووَافَقَ آرَاءَهُمُ الَّتِي يَعْتَقِدُونَها ، وقَدْ اصْطَلَحُوا عَلى موَاضِعةٍ بَيْنَهُمُ في قَبُولِ الخَبَرِ الضَّعِيْفِ ، والحَدِيثِ المُنْقَطِعِ ، إِذَا كانَ ذَلِك قَدْ اشْتُهِرَ عِنْدَهُم ،
وَتَعَاوَرََتْهُ الأَلْسُنُ فِيِمَا بَيْنَهُمْ ، مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ فِيهِ ، أَوْ يِقِينَ عِلْمٍ بِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ صِلِة مِنَ الرّأيِ ، وَغُبْناً فِيهِ ، وَهَؤلاءِ وَفَقَنا اللهُ وَإِيَّاهُمْ ؛ لَوْ حُكِيَ لَهُمْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ رُؤَسَاءِ مَذَاهِبِهِم ، وَزًعَمَاءِ نِحَلِهِمْ ، قَوْلٌ يًقٌولٌه بِاجْتِهادٍ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ، طَلَبُوا فيه الثِّقة ، واستبرؤا له العهدة ، فَنَجِدُ أَصحابَ مَالِكٍ ، لا يَعْتَمِدُونَ مِنْ مَذْهَبِهِ إلا مَا كَانَ مِنْ رِوَايةِ ابنِ القَاسِمِ ، وأَشْهَب ، وَضُرَبَائِهِمَا مِنْ تِلادِ أَصْحَابِهِ ، فَإِذَا جَاءَتْ روايةُ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الحَكَمِ ، وَأَضْرَابُهُ ، لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ طَائِلاً ، وَتَرَى أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَة – رَحِمَهُ الله - لا يَقْبَلُونَ مِنَ الرِّوَايةِ عَنْهُ ، إلا مَا حَكَاهُ أبو يُوسُف ، وَمُحَمَّدُ بنُ الحَسَن ، والعِليةُ من أَصْحَابِهِ ، والأجلةُ من تَلامِذَتِهِ ، فان جاءهم عن الحسن بن زياد اللُّؤلؤي وذويه ، رواية قولٍ بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه ، وكذلك تجدُ أصحابَ الشافعي ، إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني ، والربيع بن سليمان المرادي ؛ فاذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما ، لم يلتفتوا إليها ولم يعتدوا بها في أقاويله ، وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأساتذتهم .
فإذا كان هذا دَأَبهم ، وكانوا لا يقنعون في أمرِ هذه الفروع ورواياتها عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والثبت ، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم ، والخطب الأعظم ، وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول رب العزة ، الواجب حكمه ، اللازمة طاعته ، الذي يجب علينا التسليم لحكمه ، والانقياد لأمره من حيث لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضاه ، ولا في صدورنا غلا من شيء أبرمه وأمضاه .
أرأيتم إذا كان الرجل يتساهل في أمر نفسه ويسامح غرماءه في حقه ، فيأخذ منهم الزيف ويغضي لهم عن العيب هل يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره ، إذا كان نائبا عنه ؟ كولي الضعيف ، ووصي اليتيم ، ووكيل الغائب ؟ ،وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد وإخفارا للذمة ؟ !! فهذا هو ذاك ، إما عيان حس وإما عيان مثل .
وَلكِنَّ أَقْوَامَاً عَسَاهُم اسْتَوْعَرُوا طَرِيقَ الحَقِّ ، واسْتَطَالُوا المدَّةَ في دَرَكِ الحَظِّ ، وأَحَبُّوا عُجَالَةَ النَّيْلِ ؛ فاخْتَصَرُوا طَرِيقَ العِلْمِ ، واقْتَصَرُوا على نُتَفٍ وحُرُوفٍ مُنْتَزَعَةٍ مِنْ مَعَانِي أُصُولِ الفِقْهِ سَمَّوْهَا عِلَلا ، وجَعَلُوهَا شِعَاراً لِأَنْفُسِهِم في التَّرَسُّمِ بِرَسْمِ العِلْمِ ، واتَّخَذُوهَا جُنَّةً عِنْدَ لِقَاءِ خُصُومِهِمُ ، ونَصَبُوهَا دَرِيْئَةً للخَوْضِ والجِدَالِ ، يَتَناظَرُونَ بِهَا ، ويَتَلاطَمُونَ عَلَيْهَا ، وعِنْدَ التَّصَادُرِ عَنْهَا قَدْ حُكِمَ لِلغَالِبِ بالحَذْقِ والتَّبْرِيزِ ؛ فَهُوَ الفَقِيْهُ المذْكُورُ في عَصْرِهِ ، والرَّئِيسُ المعَظَّمُ في بَلَدِهِ ومَصْرِهِ .
هَذا وقَدْ دَسَّ لَهُمُ الشَّيطَانُ حِيْلةً لَطِيفًَة ، وبَلَغَ مِنْهُمْ مَكِيدَةً بَلِيغَةً ؛ فَقَالَ لَهُمْ :
هَذَا الَّذِي في أَيْدِيِكُمُ عِلْمٌ قَصِيرٌ ، وبِضَاعَةٌ مُزْجَاةٌ لا يَفِي بِمَبْلَغِ الحَاجَةِ والكِفَايِةِ ؛ فَاسْتَعِينُوا عَلَيْهِ بِالكَلامِ ، وَصِلُوُه بِمَقْطَعَاتٍ مِنْهُ ، واسْتَظْهِرُوا بِأُصُولِ المتَكَلِّمِينَ ، يِتَّسِعُ لَكُمُ مَذْهبُ الخَوضِ ومَجَالُ النَّظَرِ ؛ فَصَدَّقَ عَلَيْهُمُ ظَنَّهُ ، وأَطَاعَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمُ واتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقَاً مِنْ المؤْمِنِيْنَ .
فَيَا لِلرِّجَالِ والعُقُولِ ! أَنَّى يُذْهَبُ بِهِمُ ! وأَنَّى يَخْتَدِعَهُمُ الشَّيْطَانُ عَنْ حَظِّهِمْ وَمَوْضِعِ رُشْدِهِمْ ، وَاللهُ المُسْتَعَان ".
" معالم السنن" مخطوط الأزهرية ق( 1 أ) وهي توافق (1/75-76 ) من المطبوع
قال الحافظ الذهبي في " السير" :
الخطابي : هو الامام العلامة، الحافظ اللغوي، أبو سليمان، حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي، صاحب التصانيف.
ولد سنة بضع عشرة وثلاث مئة.
أخذ الفقه على مذهب الشافعي عن أبي بكر القفال الشاشي، وأبي علي بن أبي هريرة .
قال ابو الطاهر السِلَفي : وأما أبو سليمان الشارح لكتاب أبي داود، فإذا وقف منصف على مصنفاته، واطلع على بديع تصرفاته في مؤلفاته، تحقق إمامته وديانته فيما يورده وأمانته، وكان قد رحل في الحديث وقراءة العلوم، وطوف، ثم ألف في فنون من العلم، وصنف، وفي شيوخه كثرة، وكذلك في تصانيفه، منها " شرح السنن "، الذي عولنا على الشروع في إملائه وإلقائه، وكتابه في غريب الحديث، ذكر فيه ما لم يذكره أبو عبيد، ولا ابن قتيبة في كتابيهما، وهو كتاب ممتع مفيد، ...
قال أبو يعقوب القراب: توفي الخطابي ببست في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وثلاث مئة".
انتهى باختصار .
" ورَأَيْتُ أَهْلَ العِلْمِ في زَمَانِنَا قَدْ انَقْسَمُوا إِلى فِرْقَتَيْنِ : أَصْحَابِ حَدِيثٍ وأَثَرٍ ، وَأَهْلِ فِقْهٍ وَنَظَرٍ .
وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لا تَتَمَيَّزُ عَنْ أُخْتِهَا في الحَاجَةِ ، ولا تَسْتَغنِي عَنْهَا في دَرَكِ مَا تَنْحُوهُ مِنْ البُغْيَةِ والإِرَادَةِ ، لأَنَّ الحدِيثَ بِمَنْزِلَةِ الأَسَاسِ الَّذِي هُوَ الأَصْلُ ، وَالفِقْهُ بِمَنْزِلَةِ البِنَاءِ الَّذِي هُوَ لَهُ كَالفَرْعِ .
وَكُلُّ بِنَاءٍ لَمْ يُوضَعْ عَلى قَاعِدةٍ وأَسَاسٍ ، فَهُوَ مُنْهَارٌ ، وَكُلُّ أَسَاسٍ خَلا عَنْ بِنَاءٍ وعِمَارَةٍ ، فَهُوَ قَفْرٌ وخَرَابٌ .
وَوَجدْتُ هَذَيْنِ الفَرِيقَيْنِ عَلى مَا بَيْنَهُمُ مِنْ التَّدَانِي فِي المَحَلَّّيْن ، وَالتَقَارُبِ فِي المَنْزِلَتَيْنِ ،وَعُمُومِ الحَاجَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ إلى بَعْض ، وَشُمُولِ الفَاقَةِ اللَّازِمَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمْ إلى صَاحِبِهِ إِخْوَانَاً مُتَهَاجِرِينَ ، وَعَلَى سَبِيلِ الحَقِّ بِلُزُومِ التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاونِ غَيْرَ مُتَظاهِرين .
فأَمَّا هَذِهِ الطَّبَقةُ - الَّذِين هُمْ أَهلُ الأَثَرِ والحَدِيثِ - فَإِنَّ الأَكْثَرِينَ مِنْهُم إِنَّما وَكْدُهُمُ الرِّوَايَاتِ ، وَجَمْعُ الطُّرُقِ ، وَطَلَبُ الغَرِيبِ والشَّاذِّ مِنْ الحَدِيثِ الَّذِي أَكْثرهُ مَوْضُوعٌ أَوْ مَقْلُوبٌ لا يُرَاعُونَ المُتُونَ ، ولا يَتَفَهَّمُونَ المَعَانِي ، ولا يَسْتَنْبِطُونَ سِيَرَهَا ، ولا يَسْتَخْرِجُونَ رِكَازَهَا وَفِقْهَهَا ، وَرُبَّمَا عَابُوا الفُقَهَاءَ وتَنَاوَلُوُهُمْ بِالطَّعْنِ ، وادَّعُوْا عَلَيْهِمُ مُخَالَفةَ السُّنَنِ ، ولايَعْلَمُونَ أَنَّهُمُ عَنْ مَبْلَغِ مَا أُوْتُوهُ مِنْ العِلْمِ قَاصِرُونَ ، وبِسُوءِ القَوْلِ فِيْهِمُ آثِمُونَ .
وأَمَّا الطَّبَقةُ الاخْرَى - وَهُمْ أَهْلُ الفِقْهِ والنَّظَرِ - فِإِنَّ أَكْثَرَهُمُ لا يُعَرِّجُونَ مِنْ الحَدِيثِ إَلَّا عَلى أَقلِّهِ ، ولا يَكادُونَ يُمَيِّزُونَ صَحِيْحَهُ مِنْ سَقِيْمِهِ ، وَلا يَعْرِفُونَ جَيِّدَهُ مِنْ رَدِيْئِهِ ، و لا يَعْبَأُونَ بِمَا بَلَغَهُمُ مِنْهُ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهِ عَلى خُصُومِهمُ إِذَا وَافَقَ مَذَاهِبَهُم الَّتِي يِنْتَحِلُونَهَا ، ووَافَقَ آرَاءَهُمُ الَّتِي يَعْتَقِدُونَها ، وقَدْ اصْطَلَحُوا عَلى موَاضِعةٍ بَيْنَهُمُ في قَبُولِ الخَبَرِ الضَّعِيْفِ ، والحَدِيثِ المُنْقَطِعِ ، إِذَا كانَ ذَلِك قَدْ اشْتُهِرَ عِنْدَهُم ،
وَتَعَاوَرََتْهُ الأَلْسُنُ فِيِمَا بَيْنَهُمْ ، مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ فِيهِ ، أَوْ يِقِينَ عِلْمٍ بِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ صِلِة مِنَ الرّأيِ ، وَغُبْناً فِيهِ ، وَهَؤلاءِ وَفَقَنا اللهُ وَإِيَّاهُمْ ؛ لَوْ حُكِيَ لَهُمْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ رُؤَسَاءِ مَذَاهِبِهِم ، وَزًعَمَاءِ نِحَلِهِمْ ، قَوْلٌ يًقٌولٌه بِاجْتِهادٍ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ، طَلَبُوا فيه الثِّقة ، واستبرؤا له العهدة ، فَنَجِدُ أَصحابَ مَالِكٍ ، لا يَعْتَمِدُونَ مِنْ مَذْهَبِهِ إلا مَا كَانَ مِنْ رِوَايةِ ابنِ القَاسِمِ ، وأَشْهَب ، وَضُرَبَائِهِمَا مِنْ تِلادِ أَصْحَابِهِ ، فَإِذَا جَاءَتْ روايةُ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الحَكَمِ ، وَأَضْرَابُهُ ، لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ طَائِلاً ، وَتَرَى أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَة – رَحِمَهُ الله - لا يَقْبَلُونَ مِنَ الرِّوَايةِ عَنْهُ ، إلا مَا حَكَاهُ أبو يُوسُف ، وَمُحَمَّدُ بنُ الحَسَن ، والعِليةُ من أَصْحَابِهِ ، والأجلةُ من تَلامِذَتِهِ ، فان جاءهم عن الحسن بن زياد اللُّؤلؤي وذويه ، رواية قولٍ بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه ، وكذلك تجدُ أصحابَ الشافعي ، إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني ، والربيع بن سليمان المرادي ؛ فاذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما ، لم يلتفتوا إليها ولم يعتدوا بها في أقاويله ، وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأساتذتهم .
فإذا كان هذا دَأَبهم ، وكانوا لا يقنعون في أمرِ هذه الفروع ورواياتها عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والثبت ، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم ، والخطب الأعظم ، وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول رب العزة ، الواجب حكمه ، اللازمة طاعته ، الذي يجب علينا التسليم لحكمه ، والانقياد لأمره من حيث لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضاه ، ولا في صدورنا غلا من شيء أبرمه وأمضاه .
أرأيتم إذا كان الرجل يتساهل في أمر نفسه ويسامح غرماءه في حقه ، فيأخذ منهم الزيف ويغضي لهم عن العيب هل يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره ، إذا كان نائبا عنه ؟ كولي الضعيف ، ووصي اليتيم ، ووكيل الغائب ؟ ،وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد وإخفارا للذمة ؟ !! فهذا هو ذاك ، إما عيان حس وإما عيان مثل .
وَلكِنَّ أَقْوَامَاً عَسَاهُم اسْتَوْعَرُوا طَرِيقَ الحَقِّ ، واسْتَطَالُوا المدَّةَ في دَرَكِ الحَظِّ ، وأَحَبُّوا عُجَالَةَ النَّيْلِ ؛ فاخْتَصَرُوا طَرِيقَ العِلْمِ ، واقْتَصَرُوا على نُتَفٍ وحُرُوفٍ مُنْتَزَعَةٍ مِنْ مَعَانِي أُصُولِ الفِقْهِ سَمَّوْهَا عِلَلا ، وجَعَلُوهَا شِعَاراً لِأَنْفُسِهِم في التَّرَسُّمِ بِرَسْمِ العِلْمِ ، واتَّخَذُوهَا جُنَّةً عِنْدَ لِقَاءِ خُصُومِهِمُ ، ونَصَبُوهَا دَرِيْئَةً للخَوْضِ والجِدَالِ ، يَتَناظَرُونَ بِهَا ، ويَتَلاطَمُونَ عَلَيْهَا ، وعِنْدَ التَّصَادُرِ عَنْهَا قَدْ حُكِمَ لِلغَالِبِ بالحَذْقِ والتَّبْرِيزِ ؛ فَهُوَ الفَقِيْهُ المذْكُورُ في عَصْرِهِ ، والرَّئِيسُ المعَظَّمُ في بَلَدِهِ ومَصْرِهِ .
هَذا وقَدْ دَسَّ لَهُمُ الشَّيطَانُ حِيْلةً لَطِيفًَة ، وبَلَغَ مِنْهُمْ مَكِيدَةً بَلِيغَةً ؛ فَقَالَ لَهُمْ :
هَذَا الَّذِي في أَيْدِيِكُمُ عِلْمٌ قَصِيرٌ ، وبِضَاعَةٌ مُزْجَاةٌ لا يَفِي بِمَبْلَغِ الحَاجَةِ والكِفَايِةِ ؛ فَاسْتَعِينُوا عَلَيْهِ بِالكَلامِ ، وَصِلُوُه بِمَقْطَعَاتٍ مِنْهُ ، واسْتَظْهِرُوا بِأُصُولِ المتَكَلِّمِينَ ، يِتَّسِعُ لَكُمُ مَذْهبُ الخَوضِ ومَجَالُ النَّظَرِ ؛ فَصَدَّقَ عَلَيْهُمُ ظَنَّهُ ، وأَطَاعَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمُ واتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقَاً مِنْ المؤْمِنِيْنَ .
فَيَا لِلرِّجَالِ والعُقُولِ ! أَنَّى يُذْهَبُ بِهِمُ ! وأَنَّى يَخْتَدِعَهُمُ الشَّيْطَانُ عَنْ حَظِّهِمْ وَمَوْضِعِ رُشْدِهِمْ ، وَاللهُ المُسْتَعَان ".
" معالم السنن" مخطوط الأزهرية ق( 1 أ) وهي توافق (1/75-76 ) من المطبوع
قال الحافظ الذهبي في " السير" :
الخطابي : هو الامام العلامة، الحافظ اللغوي، أبو سليمان، حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي، صاحب التصانيف.
ولد سنة بضع عشرة وثلاث مئة.
أخذ الفقه على مذهب الشافعي عن أبي بكر القفال الشاشي، وأبي علي بن أبي هريرة .
قال ابو الطاهر السِلَفي : وأما أبو سليمان الشارح لكتاب أبي داود، فإذا وقف منصف على مصنفاته، واطلع على بديع تصرفاته في مؤلفاته، تحقق إمامته وديانته فيما يورده وأمانته، وكان قد رحل في الحديث وقراءة العلوم، وطوف، ثم ألف في فنون من العلم، وصنف، وفي شيوخه كثرة، وكذلك في تصانيفه، منها " شرح السنن "، الذي عولنا على الشروع في إملائه وإلقائه، وكتابه في غريب الحديث، ذكر فيه ما لم يذكره أبو عبيد، ولا ابن قتيبة في كتابيهما، وهو كتاب ممتع مفيد، ...
قال أبو يعقوب القراب: توفي الخطابي ببست في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وثلاث مئة".
انتهى باختصار .