الاتجاه الثالث: اتجاه تقييد دلالة لقيطٍ على المفطرات:
فأصحاب هذا الاتجاه: يعتبرون حديث لقيط بن صبرة دالاً على أحكام مفطرات الصيام.
بخلاف أصحاب الاتجاه الأول [ابن حزم، القرضاوي]: الذين ألغوا دلالته على أحكام المفطرات.
لكنهم مع ذلك: لم يتوسَّعوا في الاستدلال به كتوسع أصحاب الاتجاه الثاني؛ بل قيَّدوه في مناطق محدودة.
وأصحاب هذا الاتجاه: وإن لم يكونوا بحجم الفريق الثاني الموسِّعين لدائرة المفطرات، إلا أنه يبقى أن لهم حضوراً واضحاً في كتب الفقهاء، فهم يمثلون جماعة من فقهاء المذاهب الأربعة، فهو مذهب طائفة من المالكية، لاسيما العراقيين منهم، ومن المصريين القرافي، ومن الأندلسيين ابن عبد البر، وهو أيضاً مذهب الوالوالجي من الحنفية، وابن تيمية من الحنابلة، واتجاهٌ معروف لدى الشافعية، وأخذ به جماعةٌ مِن المعاصرين.
وهذا الفريق هو أحد طرفي المضيقين في المفطرات، فالفقهاء باعتبار التوسيع والتضييق على طريقتين رئيستين:
1- توسيع دائرة المفطرات [الجمهور].
2- تضييق دائرة المفطرات.
وهؤلاء المضيقون على طريقتين أيضاً:
1- الطريقة القياسية.
2- الطريقة الظاهرية.
وأصحاب هذا الاتجاه المذكورين في هذا المبحث: هم من المضيقين القياسيين، لأن الكلام فيمن اعتبر حديث لقيط بن صبرة، واعتبر القياس والمعنى فيه، لكن لم يتوسع في الاستدلال به، وهي طريقة القياسيين، ووافقهم جماعة من أهل الظاهر أيضاً.
أما مَنْ لم يعمل القياس والمعنى في حديث لقيط بن صبرة: فهذه هي الطريقة الظاهرية، والتي مثلها أحسن تمثيل ابن حزم الظاهري وساعده فيها القرضاوي على إغراقه في المعاني.
ترتيب كلام أصحاب الاتجاه الثاني في تقييد الاستدلال بحديث لقيط بن صبرة:
§ قرروا أن حديث لقيط بن صبرة متفقٌ مع قياس باب المفطرات، يظهر ذلك مِنْ خلال النظر إلى محدِّدات المفطِّرات الثلاث:
o العين المفطرة.
o المنفذ.
o الجوف.
بيان ذلك كما يلي:
§ فالعين المفطرة: الورادة في حديث لقيط بن صبرة هي الماء؛ وهو مفطرٌ بالإجماع ، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف وتأثيره، فكان المنع منه مِنْ تمام الصوم، والمعنى الموجود في وصول الماء من المبالغة في الاستنشاق، موجود في الأصل الثابت بالنص والإجماع؛ فالمناسبة ظاهرة، والحكم ثابت على وفقه.
§ أما المنفذ: فهو الأنف، وهو ملحقٌ بالفم معنىً؛ فإن مَنْ نشق الماء بمنخريه فإنه ينزل إلى جوفه، ولو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب؛ فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم، وذلك غير معتبر، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يفطر لعدم تأثيره، وإنما هو طريق إلى الفطر.
§ أما الجوف: فقد تبين بما سبق، أنه البطن، وأن الماء يصل إليه من المبالغة في الاستنشاق عن طريق الحلق.
فيتبين لنا مما سبق أن فقه حديث لقيط بين صبرة يتفق مع المحددات الثلاث المجمع عليها:
1- العين المفطرة.
2- المنفذ.
3- الجوف.
و به يعلم: أن الحديث مؤكدٌ لأحكام المفطرات المجمع عليها لا مؤسساًَ زائداً عليها.
ويبقى الجواب: عن توسيع الجمهور دلالته، وهذا موعد وفاء ما أرجأنا الكلام عنه سابقا، فنقول وبالله التوفيق:
وقع مِنْ بعضِ الفقهاء توسيعٌ للمفطرات من خلال حديث لقيط بن صبرة، وذلك بالنظر في الجوف والمنفذ والعين المفطرة:
أما المنافذ:
o فإنه ليس في حديث لقيط بن صبرة في وصول الماء من المبالغة في "الاستنشاق":
اعتبار جميع المنافذ: فالحديث إنما اعتبر منفذاً مفتوحاً (وهو الأنف)، وله طريق إلى الجوف (البطن)، فلا يصح أن يلحق به دربٌ غير نافذ، كالعين والأذن والإحليل، وقد أكَّد هذا علم التشريح الحديث.
وبهذا نعلم أنهم توسّعوا في المنافذ؛ وذلك من خلال إلحاق بعض المنافذ بالأنف مع الاختلاف المعنوي بينهما، كالعين والأذن فإنه لا منفذ مفتوح لهما إلى الجوف الأصلي وهو البطن، كما ثبت ذلك في طب التشريح.
فاعتبار حديث لقيط بن صبرة للأنف منفذاً وجيهٌ معتبر؛ لأنه منفذٌ مفتوح إلى جوف البطن، ويكن عن طريقه تسريب الماء أو الدواء، فهو ملحقٌ بالفم معنىً وإن كان لا يشبهه صورة من جهة طريقة الإدخال.
وعلى مَنْ أراد إلحاق منفذٍ بالفم أن يلتزم بالمعنى الذي جاز مِنْ أجله إلحاق الأنف به.
o وليس في حديث لقيط بن صبرة في وصول الماء من المبالغة في "الاستنشاق":
اعتبار أي داخلٍ: وإنما فيه اعتبار الماء، وهو مفطرٌ بالإجماع فلا يصح أن يلحق به الكحل، وفتائل الحقنة مثلاً فليسا هما من جنس الأكل والشرب.
وكيف: يقاس على الماء المنصوص عليه، والذي يغذي البدن، ويزول به العطش، ويطبخ الطعام، ويتولد الدم ما ليس من جنس الأكل والشرب!
فإن الكحل: لا يغذي البتة ولا يدخل أحد كحلا إلى جوفه لا من أنفه ولا مِنْ فمه.
وحقنة الشرج: لا تغذي بل هي للإسهال تستفرغ ما في البدن ... وهي لا تصل إلى المعدة.
فإن قيل: ما دام أنكم تفطرون الداخل عن طريق الفم بكل داخل ولو لم يكن مغدياً، فقولوا كذلك في الداخل عن طريق غير الفم، فأي داخل يكون مفطراً، مثله مثل الداخل إلى الفم؟
والجواب: نعم، الداخل من الفم مفطر، ولو لم يكن مغذياً، والداخل من غيره إلى الجوف يكون مفطراً ولو لم يكن مغذياً بشرط أن يكون فيه معنى الأكل والشرب، فالدواء غير غذاء وهو مفطر من الفم ومن غيره.
وإنما قلنا ما قلناه في الكحل والفتائل ونحوها:
لأنه استقر لدينا أنها لا تدخل إلى الجوف، فقصدنا أن تتسع حجتنا فبينا الفرق بين وصفها، وبين الوصف المذكور في حديث لقيط بن صبرة، فإن المذكور في حديث لقيط بن صبرة هو الماء المجمع على حصول الإفطار به، أما الكحل والفتائل وشبهها، فليست هي من جنسها، ولا أحد يأكلها، مما يؤكد تباعدها عن أحكام المفطرات، وأن قصد وصولها إلى الجوف هو من البعد بمكان؛ ناهيك عن نزاعنا إياهم في وصولها إلى الجوف.
وبهذا نعلم: أنهم ألحقوا جملة من الأشياء التي ليس لها حكم الأكل والشرب، اتكاء على حديث لقيط بن صبرة وهو لا يسعفهم لأن الذي فيه إنما هو الماء وهو مفطرٌ بالإجماع، وليس مثله، الكحل، وحقنة الشرج، ودهن الأذن.
وبذلك يظهر بجلاء ضعف ما ذكروه مِنْ حججٍ قياساً على وصول الماء مِن المبالغة الاستنشاق الذي خيف وقوعه على الصائم في حديث لقيط بن صبرة.
وتلخيصاً لما سبق نقول:
استدلال الفقهاء بحديث لقيط بن صبرة له جهتان
الجهة الأولى: تحقيق معناه، وهو أن العبر بما ألحق بالأكل والشرب هو المعنى لا الصورة، فإن الحديث قد دل على أنه لا يشتراط أن يكون الداخل إلى الجوف مِن المنفذ المعتاد، وهو الفم، فما كان في معنى الأكل والشرب ألحق به ولو لم تتحق فيه صورتهما.
الجهة الثانية: التوسع في دلالته على المفطرات بثلاثة أمور:
1- الجوف.
2- المنفذ.
3- العين المفطرة.
فاعتبروا أو بعضهم مع الجوف الأصل: أجوافاً فرعية وهي الدماغ والدبر والمثانة.
وسبق بيان عدم صحتها.
واعتبروا منافذ غير منفذ الفم: فهم اعتبرو الأنف بدلالة حديث لقيط بن صبرة، وهو منفذٌ ثابتٌ بالنص والمعنى.
واعتبروا منافذ غير منصوصة ولا المعنى يعضدها بوصول الداخل إليها إلى الجوف، وهذه المنافذ هي العين والأذن، والإحليل، وفي الفرج والدبر تفصيل.