د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 29 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 9,059
- الكنية
- أبو فراس
- التخصص
- فقه
- المدينة
- جدة
- المذهب الفقهي
- مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
تحرير الطوفي لقاعدة "لا ينسب إلى ساكت قول"
من عبارات الشافعي الرشيقة كما يقول إمام الحرمين "لا ينسب إلى ساكت قول"، وقد دارت حول هذه الجملة تفاريع فقهية وأبواب أصولية، وقد عقد نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي الطوفي (ت716هـ) مبحثاً خاصاً في تحرير هذه القاعدة، وكان تناوله لها غاية في الإيعاب والتحرير؛وتنقل بين معناها عقلاً ولغة وأصولاً وفقهاً، و أبان عن موضع صحتها، مما فتح الله عليه فإلى ما ذكره.
يقول الطوفي في شرح مختصر الروضة (3 / 84-87):
تنبيه: القاعدة بمقتضى العقل واللغة أن لا ينسب إلى ساكت قول، إلا بدليل يدل على أن سكوته كالقول، حكما أو حقيقة؛ لأن السكوت عدم محض، والأحكام لا تترتب على العدم ، ولا يستفاد منه الأقوال .
فلهذا: لو أتلف إنسان مال غيره، وهو ساكت لم يمنعه، ولم ينكر عليه ضمن المتلف، ولا يجعل سكوت المالك إذنا فيه.
ولو ادعي على شخص دعوى: فلم يجب بنفي ولا إثبات، لم يجعل مقرا بالحق بسكوته، بل يقول له الحاكم: إن أجبت ، وإلا جعلتك ناكلا، وقضيت عليك ، فإذا لم يجب، قضى لوجود شرط القضاء، وهو عدم إجابته، تنزيلا له منزلة الإقرار ، لظهوره فيه ، لا أنه إقرار حقيقة.
وهذا من المواضع المستثناة التي ينسب فيها إلى الساكت قول بدليل.
ولو قيل له : أطلقت امرأتك ؟ أو أعتقت رقيقك ؟ أو زوجت ابنتك فلانا ؟ أو بعته ؟ أو رهنته ؟ أو وهبته هذه العين ؟ أو لفلان عندك كذا ؟ فسكت ، لم يكن إقرارا .
أما إن قام دليل شرعي أو عقلي على نسبة القول أو مقتضاه إلى الساكت ، عمل به:
كقوله - عليه السلام - في البكر: إذنها صماتها ، وكذلك ضحكها وبكاؤها يعني في تزويجها.
وكقولنا: إن إقرار النبي - عليه السلام - على قول أو فعل ، مع علمه به ، وقدرته على إنكاره حجة.
وإن: الإجماع السكوتي حجة.
وكقولنا : إن من أقر بأحد ولدين ولدتهما امرأته في بطن واحد ، وسكت عن توأمه ، لحقه نسبه ، ولم يكن له نفيه ، لاستلزام إقراره بتوأمه الإقرار به عقلا ، إذ لا يتصور كون أحدهما منه والآخر من غيره ، وكذلك لو هنئ بولده ، فسكت ، أو أمن على الدعاء له ، أو أخر نفيه مع إمكانه ، والعلم بأن له نفيه ; لحقه نسبه ، لقيام الدليل على أن السكوت هاهنا كالقول.
ولو حلق حلال رأس محرم ، وقدر على الامتناع ، فلم يمتنع ، ولم يكن منه إذن ، فهل الفدية عليه أو على الحالق ؟
فيه وجهان ، لأن سكوته هاهنا قوي ، لاقترانه بالقدرة على المنع ، فصار مترددا بين الإذن المحض ، والسكوت المحض.
وسكوت أحد المتناظرين عن الجواب:
لا يعد انقطاعا في التحقيق، إلا بإقرار منه ، أو قرينة حال ظاهرة ، مثل أن يعرف بحب المناظرة ، وقهر الخصوم ، وتوفر الدواعي على ذلك ، فهذا سكوته في مجرى العادة لا يكون إلا عن انقطاع.
أما لو انتفت القرينة ، لم يدل سكوته على الانقطاع ، لتردده بين استحضار الدليل ، وترفعه عن الخصم لظهور بلادته ، أو تعظيمه ، وإجلاله عن انقطاعه معه ، أو إفضاء المناظرة إلى الرياء ، وسوء القصد ، فيحب السلامة بالسكوت ، ونحو ذلك من الاحتمالات.
ولذلك اشتهر بين العامة ، إذا قرروا شخصا بأمر ، فسكت ، قالوا : سكوته إقراره ، وليس ذلك مطلقا ، بل إن ظهرت قرائن الإقرار ، دل سكوته عليه ، وإلا فلا .
ومن هذا الباب وقع النزاع بين العلماء في بيع المعاطاة:
نحو : خذ، وأعطني ، أو يتعاطيان بلا قول أصلا من إيجاب وقبول ، فالمشهور عن الشافعي: لا يصح ، لأن مال الغير حرام إلا بالتراضي وهو خفي في النفس ، يحتاج إلى قول يدل عليه، لأن الساكت لا ينسب إليه قول ، والصحيح الأكثر عن العلماء صحته ، لدلالة السكوت مع قرائن الأحوال على الرضا قطعا ، ولاصطلاح الناس عليه في كل عصر من غير نكير ، فكان إجماعيا مما نحن فيه ، ويتخرج على هذه القاعدة كل ما أشبه هذه المسائل .
والسر فيه:
أن العبارات ليست مقصودة لذاتها ، بل لدلالتها على ما في النفوس من الإرادات والمعاني ، فإذا حصلت الدلالة على ذلك بدون الألفاظ ، صارت فضلة لا حاجة إليها ، كما لا يحتاج الطائر في صعوده السطح إلى نصب سلم ، لاستغنائه عنه بالجناح ، ولهذا وقع الحذف كثيرا في كلام العرب ، لحصول مقصود اللفظ المحذوف بالقرائن ، والله تعالى أعلم ."
قلت: كلام الطوفي على هذه المسألة كان على هيئة الاستطراد، فهو تنبيه ألحقه بمسألة "الإجماع السكوتي".