العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

اتساع هوة الخلاف بين الدعاة المعاصرين.. تشخيص وعلاج

إنضم
14 نوفمبر 2009
المشاركات
350
التخصص
الفقه والأصول والبحث القرآني
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
الحنفي
كثيرا ما تأملت في آلية حدوث الخلاف بين التوجهات الدعوية المعاصرة، بل وفي المواقف البشرية الاجتماعية عموما، فوجدتها تتبع مفهوم اتساع الزاوية..

كثيرا ما يتحدث العقلاء حول ضرورة (تحديد) نقاط الاختلاف أو الانتقاد، ذلك حتى لا (تفترش) تلك النقاط فتصير (قاعدة) و (أصلا) في ظل الفورات العاطفية والميول الانتمائية التحزبية التي سادت في عصرنا وبرزت بقوة في المجال الدعوي الإسلامي!.. إن الفطنين ـ فقط ـ هم الذين يمكنهم أن يحددوا الأصل، ثم يقدروا نقاط الاختلاف بقدرها، ويرسموا حولها دوائر حمراء؛ إمعانا في تمييزها وتحديدها، ثم يتأسس من لوزام الاختلاف ما لا يتعدى تلك الدوائر الحمراء التي تحوي داخلها نقاط الاختلاف محددة تحديدا شديدا، ويبقى كل ما ما عدا تلك الدوائر هو على أصله لم يمس. هكذا يفكر العقلاء، وهكذا عرفنا الأكابر من الدعاة والعلماء.

بينما نحن في عصرنا نرى الكوادر الدعوية الصغيرة، والتي يفترض أنها ستمثل الصفوف الدعوية الأولى بعد عقود قليلة.. نراها مثل (الزئبق) لا تحمل مادتها أن تبقى وتحدد عليها استثناءات، وإنما تسارع بصورتها (الزئبقية) إلى الانحياز يمينا أو شمالا.. فالأمور لديهم إما في أقى اليمين وإما في أقصى اليسار، إما أن يكون الداعية أو الشيخ الفلاني سلفيا صرفا، أو إخوانيا صرفا، أو هو من جماعة التبليغ والدعوة فيكون تبليغيا صرفا كذلك.. ولا يتصور (الزئبقيون) أن يكون المرء على شيء من هذه التوجهات مع قيام استثناءات في مواضع محددة يكون المرء فيها قانعا آخذا بتوجه مختلف، ككثير من الدعاة السلفيين الذين يعملون تحت إدارة وقيادة تنظيم الإخوان المسلمين، أو الذين يخرجون للدعوة الفردية المنظمة مع جماعة التبليغ والدعوة، أو الذين يشاركون في التنظيمات الدعوية لأناس هم يعدون ـ بالفعل ـ من المتميعين في دعوتهم أو توجههم.

بل وجدت من (الزئبقيين) من يجرون ذات الخاصية الزئبقية حتى داخل التوجه الواحد أو الدعوة الواحدة، فلا يؤمنون بالأخ (العام) الذي يضرب بسهمه مع كافة كوادر دعوته فيما يوافقون فيه الإسلام الصحيح. فمن يخالط أجواء الدعوة في مصر فترة يعلم أن السلفية مثلا فيها توجهات ـ فرضها واقع الأتباع مع بعض ملابسات القادة ـ فصرنا نرى التصنيفات الداخلية في أبدع وأروع صور الدقة والإمعان!

لا شك أن ذلك أمر واقع، ولا شك كذلك أنه أمر سلبي فرضته أحوال وملابسات. إلا أني أستبشر خيرا حينما أنظر إلى ذلك الواقع من زاوية يفرضها الواقع كذلك؛ وهي زاوية (المرحلية).. وتلك هي النظرة التي أدعو الدعاة المصلحين لإخوانهم الدعاة أن ينظروا بها..المرحلية.. المرحلية لا المستقر.. الأثر السلبي المؤقت لا الهدف المرام.. لا شك أننا نعاني في دعوتنا المعاصرة من سلبيات عظيمة.. فرقة.. وحدة في الخلاف.. وسرعة تصنيف.. ولكني أرى ـ والله تعالى أعلم بحقائق الأمور ـ أن تلك أمور مرحلية نظرا لكون الدعوة في طور المراهقة، وهي بمقياس التاريخ وتبدل الأمم لازالت في بداياتها، ولم تصل لمرحلة النضوج بعد، فينبغي أن نضع هذا في اعتبارنا ونحن نقيم الواقع الدعوي.. لا ينبغي أن نقيّمه على أساس النضج والاستقرار، وإنما ينبغي أن نقيّمه على أساس مرحلته الفتية، وعلى أساس قياس مستوى التغير الفكري لدى الدعاة ـ المخلصين ـ كل بضعة سنوات، وذلك لتحديد الوجهة التي تتجه إليها عجلة الدعوة.

لذلك لا ينبغي أن نتعجل الحكم النهائي على مسيرة الدعوة، وإن كان لنا أن نتوقع من خلال قياسات التوجه مع اعتبار الطبيعة المرحلية.

كانت تلك كلمة وإشارة حول قضية الاختلافات الواقعة في الجسد الدعوي الإسلامي المعاصر، وبيان آلية حكمنا عليها.. فكيف تنشأ تلك الاختلافات من الأساس؟

ذكرت أن المشكلة هي في عدم تحديد وتأطير نقاط الخلاف بالدوائر الحمراء.. ولكن يظل السؤال: حتى مع عدم تأطير وتحديد نقاط الاختلاف، ما الذي يجعلها تفترش وتصير أصلا؟
الجواب: هو اتساع الزاوية مع الانتقال والانطلاق من نقطة الخلاف!

حينما ننظر إلى زاوية حادة تمثل فرجة صغيرة جدا، نجد أن الفرجة تظل صغيرة كلما ظللنا قريبين من نقطة انفراج الزاوية، وكلما قربنا من نقطة الانفراج كلما ضاقت مساحة الزاوية، أما إذا ابتعدنا عن نقطة الانفراج فإن مساحة الانفراج تزيد، بل تضاعف بصورة سريعة، حتى لو كان الانتقال بطيئا.. هذا تماما هو ما يحدث في الحركة الدعوية المعاصرة!

في البداية تنشأ نقطة الاختلاف، وهو وإن كان أمرا سلبيا إلا أنه يعكس المرحلة، وربما يكون أمرا طبيعيا مقبولا..

فإذا نشأت نقاط الاختلاف انتقل التركيز عليها رغم ضيق مساحاتها قياسا إلى الأرض المشتركة بين الدعاة جميعا..
فإذا تم التركيز عليها انتقل الدعاة منها متجهين بعيدا عنها، وهنا تتسع ـ وبسرعة ـ الانفراجة، وتظل تتسع طالما الدعاة يسيرون بعيدا عن نقطة الخلاف الرئيسة عاملين بذلك على تعظيمها!

وهنا.. ومع اتساع نقاط الخلاف وتحولها إلى مساحات شاسعة.. تعم تلك المساحات الارض الأصلية المشتركة بين الدعاة جميعا في الصحوة الإسلامية المعاصرة..!!

فما هو الحل إذا؟

سأطرح أولا الحل للوضع القائم.. ثم أطرح آليات الوقاية
الحل للوضح القائم تصوره سهل إن شاء الله.. سوف نعكس الخطوتين السابقتين.. ونرى ماذا سيكون..

في البداية لابد وأن يسير الدعاة في الاتجاه المعاكس لاتجاه الذي هم عليه حاليا.. فبدلا من التوجه بعيدا عن نقطة الاختلاف، عليهم أن يرجعوا متجهين إلى نقطة الاختلاف.. وبذلك تضيق ـ وبسرعة ـ مساحة الانفراجة، وتظهر بذات السرعة الأرض المشتركة بين الدعاة جميعا..

فإذا قام الدعاة بذلك وتوقفوا تماما فوق نقاط الاختلاف، فلا يتوقفوا عندها كثيرا؛ بل عليهم أن يرسموا حولها دوائر حمراء.. ثم ينطلقوا فيما هو مشترك بينهم ولا يستهلكوا في نقاط الاختلاف أكثر من حقها ومساحتها الضئيلة على مساحة أرض الدعوة.. لذلك فإنني أقترح ألا تكون كل الدوائر حمراء.. بل هناك دوائر حمراء تعكس درجة عالية في أهمية نقطة الاختلاف.. وهناك ـ مثلا ـ دوائر خضراء أو زرقاء أقل في درجة الأهمية.. ثم هناك دوائر صفراء أو رمادية تعكس أدنى درجات الأهمية في نقاط الاختلاف..

وهنا.. هنا فقط .. يتمكن الدعاة من تحويل قنوات مواردهم البشرية.. من جهد ووقت ومال وذهن.. إلى المساحة الشاسعة من أرض الدعوة المشتركة.. وهنا هن فقط .. سوف يخشاهم العدو الكافر المشترك؛ حيث ضاروا وحدة إسلامية واحد، تمثل الكتلة البشرية الداعية إلى التوحيد.

تلك كانت آليات الحل للوضع القائم، فما هي آليات الوقاية ابتداء؟

يتركز ذلك في نقطتين رئيسيتين:

النقطة الأولى (وهي ثبوتية): إذا وقعت نقطة الاختلاف فينبغي أن تقدر ـ وبسرعة ـ بقدرها، وأن ترسم حولها الدائرة باللون الذي يناسبها من حيث الأهمية.. هذا الإجراء ضروري جدا حتى لا تتسع المساحة فوقما تستحق.

النقطة الثانية (وهي انتفائية): ينبغي على الدعاة ألا يتوقفوا عند نقاط الاختلاف بعد وقوعها وتحديدها باللون الذي يناسبها، بل تعطى القدر الذي تستحقه من الاهتمام، ويبقى القدر الذي تستحقه المساحة الشاسعة من الأرض المشتركة للدعوة على أصله.. فكل شيء يقدر بقدره.. في سلاسة وتلقائية دونما تشنج وتعثر.

حقا.. إن المساحة المشتركة بين الدعاة لازالت هي الأكثر اتساعا.. ولكن طول المكث في نقاط الاختلاف يحولها أصولا، ويتناسى الدعاة المساحة الأصلية الشاسعة.. أضرب له مثالا كأهل مصر الذين يعيشون على مساحة 13% من مساحة دولتهم، وهي الشريط الأخضر المحيط بالنيل والدلتا.. فيرون الدنيا كلها هي مناطقهم المزحمة والمتخمة باللحوم البشرية، المختنقة بثاني أكسيد الكربون وسموم العوادم وكثافة الرطوبات.. بينما لديهم بحران، غربي وشرقي.. ولكنهما غير حاضرين على الذهن. تلك هي النظرية.

أيها الدعاة.. طالما كانت دعوتكم هي التوحيد.. وطالما لم تتميع دعوتكم ككثير من التوجهات السياسية البحتة.. وطالما لم تنحرف دعوتكم ككثير ـ بل كأغلب ـ التوجهات الصوفية.. وطالما لم ترغبوا بدعوتكم شيئا من مصالح الدنيا كأغلب المفتين و(المشايخ) المعينين من قبل أعداء الدعوة.. فأنتم على أرض مشتركة شاسعة.. واختلافاتكم هي غالبا قليلة وتقدر بقدرها، ولا تفيد للدعوة قضية.

أيها الدعاة.. إن عدوكم مشترك.. وإن أعداءكم مختلفين فيما بينهم في الأرض كلها وفي أصول كياناتهم.. ولكنهم يد واحدة عليكم، وأنتم أصحاب الأرض الواحدة المشتركة والأصل العقيدي الواحد الضارب في تربة العقيدة الإسلامية.. أنتم اولى بوحدة الكيان والتماسك المؤسسي.. ولن تدفعوا عن دينكم إلا وهذا حالكم.. لن تدفعوا بثقافة الفردية والذاتية.. وإنما هي الجماعية والمؤسسية.. وهذا قانون رباني يعترف به ويعمل بمقتضاه العقلاء كافة.

والله تعالى أسأل أن يبدل أحوالنا.
 
أعلى