العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مناظرات فقهية رائعة رائقة شائقة (2)

إنضم
3 نوفمبر 2008
المشاركات
195
التخصص
الفقه
المدينة
غزة
المذهب الفقهي
شافعي
المناظرة الثانية: بين شيخ نظامية بغداد إبراهيم بن علي الشيرازي وشيخ نظامية نيسابور عبد الملك بن عبد الله الجويني.

موضوع المناظرة: إجبار البكر على الزواج.

تتنبيه متواضع: ما لونته بالأخضر فإنه يجري مجرى القواعد والفوائد الأصولية الكلية


استدل الشيخ الإمام أبو إسحاق رحمه الله بنيسابور في إجبار البكر البالغة بأن قال:
باقية على بكارة الأصل فجاز للأب تزويجها بغير إذنها . أصلهُ إذا كانت صغيرة .

فقال السائل: جعلت صورة المسألة علة في الأصل وذلك لا يجوز .

فقال هذا لا يصح لثلاثة أوجه :
أحدهما: أني ما جعلت صورة المسألة علة في الأصل لأن صورة المسألة تزويج البكر البالغة من غير إذن وعلتي أنها باقية على بكارة الأصل وليس هذا صورة المسألة لأن هذه العلة غير مقصورة على البكر البالغة بل هي عامة في كل بكر ولهذا قست على الصغيرة.
الثاني: قولك لا يجوز أن تجعل صورة المسألة علة ، دعوى لا دليل عليها وما المانع من ذلك.
الثالث أن العلل شرعية كما أن الأحكام شرعية ولا ينكر في الشرع أن يعلق الشارع الحكم على الصورة مرة كما يعلق على سائر الصفات فلا معنى للمنع من ذلك فإن كان عندك أنه لا دليل على صحتها فطالبني بالدليل على صحتها من جهة الشرع .

فقال السائل دُلَّ على صحتها من الشرع .
فقال : الدليل على صحة هذه العلة الخبر والنظر .
أما الخبر : فما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال الأيم أحق بنفسها من وليها والمراد به الثيب لأنه قابلها بالبكر فقال والبكر تستأمر فدل على أن غير الثيب وهي البكر ليست أحق بنفسها
وأقوى طريق تثبت به العلة نطق صاحب الشرع .
وأما النظر: فلا خلاف أن البكر يجوز أن يزوجها من غير نطق، لبكارتها ، ولو كانت ثيبا لم يجز تزويجها من غير نطق أو ما يقوم مقام النطق عنده وهو الكتابة ، ولو لم يكن تزويجها إلى الولي لما جاز تزويجها من غير نطق.

اعترض عليه الشيخ الإمام أبو المعالي ابن الجويني فقال:

المعول في الدليل على ما ذكرت من الخبر والنظر .
فأما الخبر فإنه يحتمل التأويل فإنه يجوز أن يكون المراد به أن الثيب أحق بنفسها لأنه لا يملك تزويجها إلا بالنطق والبكر بخلافها وإذا احتمل التأويل أولنا على ما ذكرت بطريق يوجب العلم وهو أنه قد اجتمع للبكر البالغة الأسباب التي تسقط معها ولاية الولي وتستقل بنفسها في التصرف في حق نفسها لأن المرأة إنما تفتقر إلى الولي لعدم استقلالها بنفسها لصغر أو جنون فإذا اجتمع فيها الأسباب التي تستغني بها عن ولاية الولي لم يجز ثبوت الولاية عليها في التزويج بغير إذنها .
ولأن في الخبر ما يدل على صحة هذا التأويل من وجهين:
أحدهما: أنه ذكر الولي وأطلق ولم يفصل بين الأب والجد وغيرهما من الأولياء ولو كان المراد ولاية الإجبار لم يطلق الولاية لأن غير الأب والجد لا يملك الإجبار بالإجماع فثبت أنه أراد به اعتبار النطق في حق الثيب وسقوطه في حق البكر .
ولأنه قال : والبكر تستأمر وإذنها صماتها فدل أنه أراد في الثيب اعتبار النطق

أجاب الشيخ الإمام أبو إسحاق فقال: لا يجوز حمله على ما ذكرت من اعتبار النطق لأنه صلى الله عليه وسلم قال الثيب أحق بنفسها وهذا يقتضي أنها أحق بنفسها في العقد والتصرف دون النطق .
وقوله إنه أطلق الولي فإنه عموم فأحمله على الأب والجد بدليل التعليل الذي ذكره في الثيب فإنه قال والثيب أحق بنفسها من وليها وذكر الصفة في الحكم تعليل والتعليل بمنزلة النص فيخص به العموم كما يخص بالقياس .
وقولك إنه ذكر الصمات في حق البكر فدل على إرادته النطق في حق الثيب لا يصح بل هو الحجة عليك لأنه لما ذكر البكر ذكر صفة إذنها وأنه الصمات فلو كان المراد به في الثيب النطق لما احتاج إلى إعادة الصمات في قوله والبكر تستأمر .
وأما قوله إن هاهنا دليلا يوجب القطع غير صحيح وإنما هو قياس على سائر الولايات والقياس يترك بالنص .

فقال الشيخ أبو المعالي :
لا يخلو إما أن تدعي أنه نص ودعواه لا تصح لأن النص ما لا يحتمل التأويل فإذا بطل أنه نص جاز التأويل بالدليل الذي ذكرت.
وأما قولك إني أحمل الولي على الأب والجد بدليل التعليل الذي ذكره في الخبر فليس بصحيح لأن ذكر الصفة في الحكم إنما يكون تعليلا إذا كان مناسبا للحكم الذي علق عليه كالسرقة في إيجاب القطع والثيوبة غير مناسبة للحكم الذي علق عليها وهي أنها أحق بنفسها فلا يجوز أن تكون علة ولأن ما ذكرت ليس بقياس وإنما هو طريق آخر فجاز أن يترك له التعليل .

أجاب الشيخ الإمام أبو إسحاق فقال:
أما التأويل فلا تصح دعواه لأن التأويل صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله كقول الرجل رأيت حمارا وأراد به الرجل البليد فإن هذا مستعمل فجاز صرف الكلام إليه فأما ما لا يستعمل اللفظ فيه فلا يصح تأويل اللفظ عليه كما لو قال رأيت بغلا ثم قال أردت به رجلا بليدا لم يقبل لأن البغل لا يستعمل في الرجل بحال
فكذلك هاهنا .
قوله الأيم أحق بنفسها من وليها وقولك ليس بتعليل لأنه لا يناسب الحكم لا يصح لأن ذكر الصفة في الحكم تعليل في كلام العرب ألا ترى أنه إذا قال اقطعوا السارق كان معناه لسرقته وإذا قال جالس العلماء كان معناه لعلمهم
وقولك إنه إنما يجوز فيما يصلح أن يكون تعليلا للحكم الذي علق عليه كالسرقة في إيجاب القطع لا يصح لأن التعليل للحكم الذي علق عليه طريقه الشرع ولا ينكر في الشرع أن تجعل الثيوبة علة لإسقاط الولاية كما لا ينكر أن تجعل السرقة علة لإيجاب القطع والزنا للجلد .
وقولك هذا الذي ذكرت ليس بقياس خطأ بل جعلت استقلالها بهذه الصفات مغنيا عن الولاية ولا تصح هذه الدعوى إلا بالإسناد إلى الولايات الثابتة في الشرع
والولايات الثابتة في الشرع إنما زالت بهذه الصفات في الأصل فحملت ولاية النكاح عليها وذلك يحصل بالقياس ولو لم يكن هذا الأصل لما صح لك دعوى الاستقلال بهذه الصفات فإنه لا يسلم أن الولاية تثبت في حق المجنون والصغير بمقتضى العقل وإنما يثبت ذلك بالشرع والشرع ما ورد إلا في الأموال فكان حمل النكاح عليه قياسا والقياس لا يعارض النص وقد ثبت أن الخبر نص لا يحتمل التأويل فلا يجوز تركه بالقياس
ولأن هذا طريق يعارضه مثله وذلك أنه إذا كانت الأصول موضوعة على ثبوت الولاية للحاجة وسقوطها بالاستقلال بهذه الصفات فالأصول موضوعة على أن النطق لا يعتبر إلا في موضع لا يثبت فيه الولاية وقد ثبت أن النطق سقط في حق البكر فوجب أن تثبت الولاية عليها .

فقال الشيخ الإمام أبو المعالي النطق سقط نصا (في موطن آخر من الطبقات (ألنطق سقط أيضا) بدل نصا).

فقال الشيخ الإمام أبو إسحاق هذا تأكيد لأن سقوطه بالنص دليل على ما ذكرت وهذا آخر ما جرى بينهما والله أعلم. ا.هـ من طبقات السبكي.


ــــــــــــــــ

يتبع بمناظرة بين شيخ الحنفية في عصره (أبو عبد الله الدامغاني) وشيخ الشافعية في عصره (أبو إسحاق الشيرازي).
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
إنضم
3 نوفمبر 2008
المشاركات
195
التخصص
الفقه
المدينة
غزة
المذهب الفقهي
شافعي
تعليق:
يظهر من خلال هاتين المناظرتين غلبة أبي إسحاق على الجويني
قال اليافعي في المرآة: وذكر بعض أهل الطبقات كلاماً معناه أنه حكي أن الشيخ أبا إسحاق تناظر هو وإمام الحرمين فغلبه أبو إسحاق بقوة معرفته بطريق الجدل.
قلت وقد سمعت من بعض المشتغلين بالعلم نحواً من هذا وأن إمام الحرمين قال له :والله أعلم ما غلبتني بفقهك، ولكن بصلاحك. هكذا حكي والله أعلم.ا.هـ

mid.gif
قال أبو جعفر الهمداني : سمعت الشيخ أبا اسحاق الفِيروزآبادي يقول: تمتعوا بهذا الامام، فإنه نزهة هذا الزمان. يعني أبا المعالي الجويني.
وقال سمعت أبا إسحاق يقول لأبي المعالي: يا مفيد أهل المشرق والمغرب لقد استفاد من علمك الأولون والآخرون، وسمعته يقول له: أنت اليوم إمام الائمة.

mid.gif
ولما أراد أبو إسحاق الإنصراف من نيسابور خرج إمام الحرمين للوداع، وأخذ بركابه حتى ركب أبو إسحاق.

mid.gif
وكان العلامة أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي تعلم المناظرة من الشيخ أبي إسحاق
قال أبو الوفاء: والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إمام الدنيا وزاهدها وفارس المناظرة وواحدها كان يعلمني المناظرة وانتفعت بمصنفاته.
وقد تقدم أنه هو الذي غسله بعد موته

mid.gif
ولا يفوتني أن أنبه الباحثين _وهو شيء معروف عند المختصين_ أن هذا القرن (القرن الخامس) كان كنزا تراثيا ضخما ومرتعا خصبا لعلم الفقه والأصول
تفتقت فيه كثير من الفروع والحجج على ألسن كبار علماء المذاهب في الفقه والأصول وكثرت المناظرات الفقهية خاصة بين الشافعية والأحناف ثم بين المذاهب الأربعة ككل
وكان في هذا العصر كبار محرري المذاهب الأربعة

وانتشر فيه علم الجدل والخلاف الفقهي غاية الانتشار
ووضع كثير من كتب الخلاف
وظهرت مصنفات في آداب علمي الجدل والمناظرة
ككتاب الجويني والشيرازي والباجي وغيرهم

وهو عندي أخصب وأكثر انتاجا من القرن الذي بعده ومن القرن الثامن زمن ابن تيمية والمزي وابن دقيق العيد والسبكي وابن الزملكاني
 
إنضم
3 نوفمبر 2008
المشاركات
195
التخصص
الفقه
المدينة
غزة
المذهب الفقهي
شافعي
رد: مناظرات فقهية رائعة رائقة شائقة (2)

تعلقات متواضعة:
1. تدبرت قي هذه المناظرة أكثر من مرة فظهر لي أن الشيخ أبا إسحاق إنما غلب أبا المعالي بطريقة جدلية كما نقل اليافعي.
2. لم يجب الشيخ أبو إسحاق عن اعتراض الجويني في كون الثيوبة وصف لا يناسب الحكم فلا يكون علته بخلاف السرقة فإن الإخالة فيها ظاهرة
فكان على الشيخ أبي إسحاق أن يبدي وجه المناسبة ولكن لم يفعل وذكر أن العرب إذا ذكرت الوصف مع الحكم فهو تعليل فهذا أعم من مطالبة الجويني
إذ لا أظن أن الشيخ أبا إسحاق يزعم أن ذكر الوصف مع الحكم تعليل بإطلاق مناسبا كان أو غير مناسب
3. لا أوافق الشيخ أبا إسحاق في كون التأويل الذي ذكره الجويني غير محتمل وعليه فلم أقنع بإصراره على اعتبار الحديث نصا فيما يدعيه
4. من فوائد المناظرة غير ما تقدم أن العلماء قد يختلفون في كون الدليل نصا أم لا ، مع أن النص هو ما لا يحتمل التأويل ولكن الأنظار قد تختلف في درجة ومنزلة هذا التأويل إذ ليس كل تأويل مزحزح النصية عن الدليل
والله أعلم
 

بنت الفهد

:: متابع ::
إنضم
13 مارس 2011
المشاركات
72
التخصص
فقة
المدينة
المدينة المنورة
المذهب الفقهي
الدليل
رد: مناظرات فقهية رائعة رائقة شائقة (2)

شكر الله لكم ونفع بكم
طريقة رائعة لتوضيح المسألة
بحيث يعلم منها رأي كل عالم و لما أخذ بهذا الرأي ولم يأخذ بالآخر
 
أعلى