د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 29 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 9,059
- الكنية
- أبو فراس
- التخصص
- فقه
- المدينة
- جدة
- المذهب الفقهي
- مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والأحكام!!
يقول الحافظ ابن دقيق العيد في كتابه المصنف في علوم الحديث "الاقتراح في فن الاصطلاح":
الباب الثامن في معرفة الضعفاء وهو من الأسباب والعلوم الضرورية في هذا الفن ، إذ به يزول ما لا يُحتجُّ به من الأحاديث .
وقد اختلف الناس في أسباب الجرح ، ولأجل ذلك قال من قال : لا يقبل إلاَّ مُفَسَّراً .
وقد عقد الحافظ الإمام أبو بكر الخطيب باباً فيمن ( جَرَّحَ ) فاستُفْسِرَ ، فذكر ما ليس بجرح ، هذا أو معناه ، وفي بعض ما يذكر في هذا ما يمكن توجيهه .
وهذا الباب تدخل فيه الآفة من وجوه :
أحدها : وهو شرُّها: الكلام بسبب الهوى والغَرَض والتحامل:
وهذا مجانب لأهل الدين وطرائقهم .
وهذا وإن كان نُزِّهَ عنه المتقدمون ، لتوفر أديانهم ، فقد تأخَّر أقوام ووضعوا تواريخ، رُبّما وقع فيها شيء من ذلك ، على أن الفَلتَات من الأنفس لا تُدَّعى العصمة منها ، فإنه ربما حَدَث غضب لمن هو من أهل التقوى فبدرت منه بادرةُ لفظ .
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البَرِّ الحافظ أُمُوراً كثيرة عن أَقوام من المتقدمين وغيرهم ، حكم بأنه لا يلتفت إليها ، وحمل بعضها على أنَّها خرجت عن غَضَبٍ وحَرَجٍ من قائلها ، هذا أو قريب منه .
ومن رأيه أَنَّ من اشتُهر بحمل العلم فلا يقبل فيه جرح إلاَّ ببيان هذا أو معناه .
وثانيها: المخالفة في العقائد:
فإنَّها أوجبت تكفير الناس بعضها لبعض، أو تبديعهم، وأوجبت عصبية اعتقدوها ديناً يتديَّنون به ويتقربون إلى الله تعالى ، ونشأ من ذلك الطعن بالتكفير أو التبديع .
وهذا موجود كثيراً في الطبقة المتوسطة من المتقدمين .
والذي تقرر عندنا : أنه لا تُعتبر المذاهب في الرواية .
إذ لا نُكفِّرُ أحداً من أهل القبلة، إلاَّ بإنكار متواتر من الشريعة . فإذا اعتقدنا ذلك وانضم إليه التقوى والورع والضبط والخوف من الله تعالى ، فقد حصل معتمد الرواية .
وهذا مذهب الشافعي - رضي الله عنه - فيما حكي عنه حيث يقول قبل شهادة أهل الأهواءِ إلاَّ الخَطَّابية من الرَّوافض .
وعِلَّة ذلك أنهم يَرَونَ جواز الكَذِبِ لنُصرة مذهبهم .
ونقل ذلك عن بعض الكَرَّامِيَّة .
نعم، ها هنا نظر في أمرين :
أحدهما : أنه هل تقبل رواية المبتدع فيما يؤيد به مذهبه أم لا ؟ هذا محل نظر ، فمن يرى ردّ الشهادة بالتهمة ، فيجيءُ على مذهبه أن لا يقبل ذلك .
الثاني : أنَّا نرى أن من كان داعية لمذهبه المُبْتَدَع متعصباً له ، مُتَجاهراً بباطله ، أن تترك الرواية عنه ، إهانة له وإخماداً لبدعته ، فإن تعظيم المبتدع تنويه لمذهبه به .
اللهمَّ إلاَّ أن يكون ذلك الحديث غير موجودٍ لنا إلاَّ من جهته ، فحينئذ تُقَدَّم مصلحة الحديث على مصلحة إهانة المبتدع .
ومن هذا الوجه - أعني وجه الكلام بسبب المذاهب - يجب أنْ تُتفقد مذاهب الجارحين والمزكِّين مع مذهب من تكلموا فيه ، فإنْ رأيتها مختلفة ، فيتوقف عن قبول الجرح غاية التوقف ، حتى يتبين وجهه بيناً لا شبهة فيه .
وما كان مطلقاً أو غير مفسَّر ، فلا يُجرح به .
وإن كان المجروح مُوَثَّقاً من جهة أخرى ، فلا تحفلن بالجرح المبهم ممن خالفه .
وإن كان غير مُوَثَّق ، فلا تحكمنَّ بجرحه ، ولا بتعديله .
فاعتبر ما قلتُ لك في هؤلاء المختلفين كائناً من كانوا .
وثالثها: الاختلافُ الواقع بين المتصوِّفة وأصحاب العلوم الظاهرة:
فقد وقع بينهم تنافر ، أوجب كلام بعضهم في بعض . وهذا غَمْرَةٌ لا يخلصُ منها إلاَّ العالم الوافِر بقواعد الشريعة .
ولا أحصر ذلك في العلم بالفروع المذهبية ، فإنَّ كثيراً من أحوال المُحِقِّين من الصوفية لا يَفي بتمييز حقِّه من باطله علم الفروع ، بل لا بُدَّ مع ذلك من معرفة القواعد الأصولية ، والتمييز بين الواجب ، والجائز ، والمستحيل العقلي ، والمستحيل العادي فقد يكون المتميِّز في الفقه جاهلاً بذلك ، حتى يَعُدَ المُستحيلَ عادة مستحيلاً عقلاً.
وهذا المقام خطر شديد ، فإن القادح في المُحِقِّ من الصوفيَّة مُعَادٍ لأولياء الله تعلى ، وقد قال سبحانه فيما أخبر عنه نبيّه صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ عَادى لي ولياً فقد بارزني بالمُحاربة ) .
والتارك لإنكار الباطل مما يسمعه عن بعضهم ، تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، عاصٍ لله تعالى بذلك .
فإن لم يُنكر بقلبه ، فقد دخل تحت قوله عليه السلام : ( وليس وَراءَ ذلك من الإيمان حبَّة خردَلٍ ) .
ورابعها : الكلام بسبب الجهل بالعلوم ومراتبها ، والحق والباطل:
وهذا محتاج إليه في المتأخرين أكثر مما يُحتاج إليه في المتقدمين ، وذلك لأن الناس انتشرت بينهم أنواع من العلوم المتقدمة والمتأخرة حتى علوم الأوائل .
وقد عُلِمَ أنَّ علوم الأوائل قد انقسمت إلى حقٍّ وباطل .
ومن الحقّ : علم الحساب والهندسة والطب .
ومن الباطل : ما يقولونه في الطبيعيات وكثير من الإلهيات ، وأحكام النجوم .
وقد تحدَّث في هذه الأمور أقوام ، ويحتاج القادح بسبب ذلك إلى أن يكون مميِّزاً بين الحق والباطل ، لئلا يكفر من ليس بكافر ، أو يقبل رواية الكافر .
والمتقدمون قد استراحوا من هذا الوجه ، لعدم شيوع هذه الأمور في زمانهم .
وخامسها : الخلل الواقع بسبب عدم الورع والأخذ بالتوهم والقرائن التي قد تختلف:
فمن فعل ذلك ، فقد دخل تحت قوله عليه السلام : ( إيَّاكم والظَّنُّ فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديثِ ) .
وهذا ضرره عظيم ، فيما إذا كان الجارح معروفاً بالعلم ، وكان قليل التقوى ، فإن علمه يقتضي أن يُجعل أهلاً لسماع قوله
وجرحه ، فيقع الخلل بسبب قلَّة ورعه وأخذه بالوهم .
ولقد رأيتُ رجلاً لا يختلف أهل عصرنا في سماع قوله إن جَرَحَ ، ذكر له إنسان أنه سمع من شيخ ، فقال له : أين سمعتَ منه ؟ فقال له: بمكة ، أو قريباً من هذا ، وقد كان جاء إلى مصر يعني في طريقه للحج ، فأنكر ذلك ، وقال : ذلك صاحبي ، لو جاء إلى مصر ، لاجتمع بي أو كما قال .
فانظر إلى هذا التعليق بهذا الوهم البعيد ، والخيال الضعيف فيما أنكره .
ولصعوبة اجتماع هذه الشرائط ، عَظُمَ الخَطَرُ في الكلام في الرجال لقلَّة اجتماع هذه الأمور في المزكين . ولذلك قلت :
أعراضُ المسلمين حُفْرَةٌ من حُفَرِ النار ، وقف على شَفِيرها طائفتان من الناس : المحدِّثون والحُكَّام .
قلت: الجملة الأخيرة نقلها أهل العلم عن ابن دقيق العيد من كتابه الاقتراح، وهي من شواهد صحة نسبة الكتاب إليه.