أبو يوسف محمد يوسف رشيد
:: متفاعل ::
- إنضم
- 14 نوفمبر 2009
- المشاركات
- 350
- التخصص
- الفقه والأصول والبحث القرآني
- المدينة
- القاهرة
- المذهب الفقهي
- الحنفي
تأملت يوما من قوله تعالى ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ الآيات، إلى قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ .. وراقتني تلك (الخطفة) في الآيات، والتي خلعت القارئ من السياق ـ حول الإيمان والكفر ـ ليبدأ قصة الإنسان من بدايتها .. من السماء.. لقد جاء القرآن ـ كلام الله ـ على أروع مثال من أساليب الخطاب، وكمال التأثير، واكتمال الفكرة لدى المخاطب، فقد بدأت قصة الإنسان في سورة البقرة من قبل خلق آدم عليه السلام، رغم أن الحديث هو عن آدم.. بدأ القرآن القصة ليتسلسل الإنسان مع أحداثها دونما أن تكون الصورة النهائية حاضرة في ذهنه، ولكنه في طريقه إلى أن يكتشفها بنفسه ليدرك حينها مكانه من هذا الكون؛ فإن أفضل طرق الإفهام أن تجعل المخاطب يستنتج معك ما تريد إقناعه به، لا أن تلقي إليه بالنتيجة ابتداء ثم تبدأ في بيان وجه ذلك.
بهذا المقطع من سورة البقرة ظهرت العلاقة الواضحة بسيطة التصور بين الخالق والمخلوق.. ظهرت قضية (التوحيد) .. وبهذا المقطع من القرآن عرفنا السبب الوحيد لوجودنا، والذي لو غفل عنه بنوا آدم فهم بذلك يلغون غايتهم الوحيدة من وجودهم، فيعاندون بذلك حكمة الخالق سبحانه.
يقول الله – جل وعلا - :
﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾
العبودية.. هي الشأن (الوحيد) الذي خلقنا الله تعالى لأجله؛ لذلك ناسب جدا أن يكون أول بشري على الإطلاق _ آدم عليه السلام - نبيا يدعو إلى التوحيد؛ فقد أنزله الله تعالى وأمره بالعبادة هو ونسله، فجعله (خليفة) لتحقيق التوحيد في الأرض كما أن لله تعالى عبادا يحققون العبادة في السماء؛ يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
هكذا بدأت القصة الأرضية بداية صحيحة، تحمل الكمال المطلق من كلام الله.. والآن نأخذك ـ عزيزي الداعية ـ في محطات الفهم والوعي لحقيقة وجودنا..
بدأت القصة الأرضية بالعبودية كغاية (وحيدة) وهكذا ينبغي أن تستمر.. فالمحطة التالية إذا في الإدراك هي أن أية فعاليات دعوية تجعل من غير التوحيد محورا لها، تكون بعيدة كل البعد عن الربانية، وهي من تلبيس إبليس، أو من أهواء النفوس البشرية الضعيفة.. ووصفها على كال حال أنها ليست دعوة إسلامية.
وعلى المنهج الرباني كان كل الأنبياء عليهم السلام.. ما من نبي يأتي إلا ومركز دعوته هو التوحيد..
﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ﴾
﴿ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾
﴿ قَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُه ﴾
﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾
﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُُ ﴾
﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ﴾
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية حول ذلك في كتابه (العبودية) :
« وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله كقول نوح ومن بعده عليهم السلام في سورة الشعراء وغيرها [ 59 الأعراف ] : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.» (3)
وعلى تلك القضية كانت الدعوة النبوية الأخيرة..دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.. كان التوحيد هو قضيتها الوحيدة، سواء خلال مرحلة الدعوة السرية أو مرحلتها الجهرية بمكة، أو خلال الدعوة في ظل دولة الإسلام بالمدينة.. فلأجل التوحيد كانت المعاناة، ولأجل التوحيد كانت دار الأرقم.. فالتوحيد إذا كقضية رئيسية هو معيار الحكم على التوجهات الدعوية المختلفة.
إن ترأس قضية التوحيد على قائمة القضايا الإسلامية الدعوية، بل إن تفرد قضية التوحيد لتكون هي القضية الوحيدة في الدعوة الإسلامية، والتي تأتي كافة القضايا الأخرى تبعا لها، هو ما أنتج ذلك التاريخ من الثبات في الفترة الدعوية المكية، وهو ما وصلنا من خلاله تلك السيرة التي اكتظت بقصص الابتلاء في تلك الفترة .. إنها القضية إذا ولا قضية بعدها.
فإنها القضية الوحيدة للإنسان أصلا، وهي سبب وجوده.. فالانتقال عنها إذا هو انتقال إلى لا شيء!
وعليه فيكون لصبر الإنسان حال من حالين في الحياة الدنيا لا ثالث لهما:
إما صبر على غاية صحيحة يؤدي به إلى تحقيق تلك الغاية أو الفناء في سبيلها، وإما صبر على لا غاية حتى وإن كانت في ظاهرها شيئا معتبرا، ولكنها لاغية في ميزان الله، فهو إما صبر على غاية صحيحة أو هو صبر على لا شيء.
ومن هنا ندرك الحقيقة التي لابد من إثباته، وهي أن:
التوجهات التي تسعى لتحقيق غاية أخرى خلاف غاية التوحيد هي توجهات انفلتت من الغاية الوحيدة لوجودها في هذا الكون.. وما تقوم به هو لاغ؛ لا قيمة له في ميزان الله لو عرفوا طريق الدعوة الصحيح ولم يسلكوه.
فليكن ذلك مقررا معنا..