بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
الشيخ الكريم أبو بكر وفقه الله
هذه المسألة ذكرها ابن رشد في أكثر من موضع ونقل الإجماع عليها فيقول في موضع :
" ولا خلاف أن العموم أقوى من دليل الخطاب " بداية المجتهد ( 1 / 151 )
ويقول في موضع آخر : " والعموم أقوى من دليل الخطاب عند الجميع ولا سيما الدليل المبني على المحتمل أو الظاهر " بداية المجتهد ( 1 / 190 )
ما هي مرجحات العموم على دليل الخطاب ؟
يرجع ذلك لعدة أسباب :
الأول : العموم منطوق ودليل الخطاب مفهوم والمنطوق مقدم على المفهوم .
الثاني : العموم متفق على الاحتجاج به ودليل الخطاب مختلف فيه والمتفق عليه مقدم على المختلف فيه .
الثالث : العموم اختلف في دلالته على افراده فذهب الجمهور إلى أن دلالته على افراده ظنية وعند الحنفية قطعية بينما دليل الخطاب دلالته على افراده ظنية عند الجميع .
الرابع : العموم عام في أفراده بينما دليل الخطاب اختلف في عمومه .
الخامس : دليل الخطاب يفتقر في دلالته إلى المنطوق بينما العام ليس كذلك .
ويبين ابن رشد أن ذلك الترجيح ليس مطرداً فقد يترجح دليل الخطاب في بعض المواضع فيقول : " لكن العموم يختلف أيضا في القوة والضعف ولذلك ليس يبعد أن يكون بعض أدلة الخطاب أقوم من بعض أدلة العموم " بداية المجتهد ( 1 / 151 )
ويقول : " وقوله تعالى: ( وأنكحوا الأيامى منكم ) يقتضي بعمومه إنكاحهن من حر أو عبد واجداً كان الحر أو غير واجد ، خائفا للعنت أو غير خائف لكن دليل الخطاب أقوى ههنا والله أعلم من العموم ؛ لأن هذا العموم لم يتعرض فيه إلى صفات الزوج المشترطة في نكاح الإماء " بداية المجتهد ( 2 / 43 )
وتقديم المفهوم هنا على العموم يقتضي تخصيص العموم بالمفهوم وهي مسألة مختلف فيها على قولين :
الأول : أن المفهوم يخصص العموم وهو قول الجمهور بل نقل بعضهم - كالأسفراييني وابن القطان والآمدي وغيرهم - الاتفاق عليه ولا شك أنه لا اتفاق إذ القائلون بعدم حجية مفهوم المخالفة لا يرون جواز التخصيص به وهم الحنفية وابن حزم وبعض الشافعية ، وبعضهم نقل الاتفاق على التخصيص بمفهوم الموافقة كالصفي الهندي وقد علم ان ابن حزم لا يرى القول بحجية مفهوم الموافقة أيضا فمن ثم لا يرى التخصيص به ولا شك أن كلام ابن حزم هنا مردود ومخالف لإجماع العلماء على العمل بمفهوم الموافقة سواء سمي قياساً جلياً كما يسميه الشافعي أو قيل هو دلالة لفظية كما هو مذهب الجمهور ، ومخالفة ابن حزم هنا مكابرة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية .
وعموما فالجمهور على جواز التخصيص بمفهوم المخالفة أو دليل الخطاب .
وحجتهم في ذلك : بأن دليل الخطاب حجة وقد تعارض مع العموم والعمل بالدليلين أولى من اطراح أحدهما وهو المفهوم .
وقد يجاب عن هذا بان التخصيص بالمفهوم إعمال للمفهوم وإسقاط لبعض أفراد العموم فلا يكون عملاً بالدليلين .
لكن يجاب عن هذا بأن العام له معنيان : أحدهما حقيقي وهو جميع الأفراد والآخر مجازي عرفي وهو بعض الأفراد وحيث وجدت قرينة تصرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلى المجازي فإننا نعمل بها ، فالتخصيص بالمفهوم هنا عمل بالدليلين ولا يسقط دلالة العام .
القول الثاني : من يرى عدم جواز التخصيص بالمفهوم وهو قول بعض الشافعية وبه قال من لا يرى حجية مفهوم المخالفة كالحنفية وابن حزم ، والرازي وافق القائلين بهذا القول في بعض المواضع فذهب إلى جواز التخصيص بمفهوم الموافقة دون مفهوم المخالفة .
وحجة هؤلاء ما سبق ذكره من مرجحات .
ويظهر أن المسألة لا يمكن الجزم بها بقاعدة مطردة فالعموم والمفهوم درجات متفاوتة في القوة والضعف وقد يوجد من القرائن والمرجحات ما يقوي أحدهما على الآخر في موطن دون موطن .
ومن المسائل التي تنبني على هذا الخلاف ما يلي :
1 - مسألة متابعة المأموم للإمام في قول سمع الله لمن حمده وقول الإمام ربنا ولك الحمد :
فعندنا حديثان :
أحدهما : حديث " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد " متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه .
والآخر : حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا وقال ( سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ) . وكان لا يفعل ذلك في السجود " أخرجه البخاري .
فمفهوم حديث أنس رضي الله عنه أن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده والإمام لا يقول ربنا ولك الحمد .
وعموم حديث أنس يقتضي متابعة الإمام بقوله سمع الله لمن حمده وربنا ولك الحمد كما في حديث ابن عمر وذلك لقوله في حديث أنس " إنما جعل الإمام ليؤتم به "
وقد ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن الإمام يكتفي بقول سمع الله لمن حمده والمأموم بقول ربنا ولك الحمد .
2 - ما يحصل به إدراك صلاة الجمعة :
يرى ابو حنيفة أن من ادرك أي جزء من الصلاة فقد ادرك الصلاة ، ويرى الجمهور أنه لا يدرك صلاة الجمعة إلا بإدراك ركعة فإن ادرك ما دون الركعة صلاها أربعاً .
سبب ذلك تعارض العموم في حديث " ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنها وأخرجه البخاري من حديث أبي قتادة رضي الله عنه .
ودليل الخطاب المفهوم من حديث " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
3 - رضا البكر البالغ في النكاح :
ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى: أن للأب فقط أن يجبرها على النكاح وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو ثور وجماعة : لا بد من اعتبار رضاها ووافقهم مالك في البكر المعنسة على أحد القولين عنه.
وسبب اختلافهم:
معارضة دليل الخطاب في هذا للعموم وذلك أن ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة من قوله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ( لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر ) . فقيل يا رسول الله كيف إذنها ؟ قال ( إذا سكتت ) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، فهذا يوجب بعمومه استئمار كل بكر .
لكنه معارض بمفهوم حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي والنسائي بلفظ " تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها " .
4 - نكاح الثيب الغير البالغ :
ذهب ابو حنيفة ومالك إلى أنه يجبرها الأب على النكاح وقال الشافعي : لا يجبرها .
وذكر المتأخرون من المالكية أن في المذهب ثلاثة أقوال :
أ - قول إن الأب يجبرها ما لم تبلغ بعد الطلاق وهو قول أشهب .
ب - وقول إنه يجبرها وإن بلغت وهو قول سحنون .
ج - وقول إنه لا يجبرها وإن لم تبلغ وهو قول أبي تمام وسبب اختلافهم في هذه المسألة : معارضة دليل الخطاب للعموم :
المفهوم من قوله عليه الصلاة والسلام: " تستأمر اليتيمة في نفسها ولا تنكح اليتيمة إلا بإذنها "يفهم منه أن ذات الأب لا تستأمر إلا ما أجمع عليه الجمهور من استئمار الثيب البالغ
وعموم حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها " اخرجه مسلم
فالحديث يتناول البالغ وغير البالغ وكذلك قوله: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح حتى تستأذن" يدل بعمومه على ما قاله الشافعي .
أخيراً :
الكلام على تعارض دلالات الألفاظ طويل وكان الرازي قد ذكر في كتابه المحصول الاحتمالات العشرة للتعارض بين الدلالات وخلص إلى أن ذلك سبب في كون دلالة الألفاظ ظنية وعليه فدلالة ألفاظ الكتاب والسنة ظنية لورود هذه الاحتمالات وينبني على هذا أن مسائل القطع من العقائد وغيرها لا تؤخذ من هذه الألفاظ - وهو كذلك يرى الإجماع ظني فلا تؤخذ منه هذه المسائل - وقد تعقبه القرافي في ذلك في شرح المحصول المسمى بالنفائس وشنع على ذلك وبين ما يلزم على هذا القول من لوزام باطلة ، وأفرد في ذلك رسالة مستقلة وهي ( الاحتمالات المرجوحة ) وهي تحت الطبع في الدار الأثرية في الأردن بتحقيق الدكتور أشرف الكناني وأظنها طبعت في دار العواصم بتحقيق الأستاذ محمد بن حامد بن عبد الوهاب .
وقد طبعت ضمن مجموعة بعنوان ( من خزانة المذهب المالكي ) في دار ابن حزم .
وثمة رسالة علمية ( ماجستير ) مهمة في هذا الباب وهي بعنوان ( تعارض ما يخلُّ بالفهم وأثره في الأحكام الفقهية )للدكتور شكري حسين البوسنوي وهي من مطبوعات دار ابن حزم ذكر فيها تعارض ما يخل بالفهم من دلالات الألفاظ : التخصيص والإضمار والمجاز والنقل والاشتراك والنسخ .