الفرق بين الفاسد والباطل بين الجمهور والحنفية
الفرق بين الفاسد والباطل بين الجمهور والحنفية
مقدمة
لا يخفى على الباحثين في الفقه الإسلامي أهمية دراسة النظريات الفقهية، ومقارنتها مع القوانين الوضعية،فإنه بالمقارنة يتبين حجم الفرق بين الإسلام كشريعة واقعية وبين غيره من القوانين ،وقد اضطلع جمع من العلماء المعاصرين في صياغة عدد من النظريات والتي كانت متناثرة في بطون كتب الفقه والأًصول وغيرها ، ومن النظريات التي أولاها الباحثون بالبحث والخدمة(نظرية العقد) فجعلوها تحت وحدة موضوعية واحدة،مما يحمدون عليه، وإن نظرية العقد لم تصغ على شكل نظرية كاملة الأركان والشروط والضوابط،إلا في عصرنا هذا،على يد بعض أفاضل العلماء كان من أولهم: الشيخ محمد أبو زهرة،والشيخ مصطفى الزرقا،والشيخ الدكتور فتحي الدريني،وكان الكتاب الفرد الذي امتاز عن غيره بحسن العرض وجمال التنسيق وعمق التنميق،كتاب الشيخ الزرقا(العقود المسماه في الفقه الاسلامي عقد البيع).
ويجب أن يلاحظ أن نظرية العقد مخدومة أكثر من غيرها من النظريات في كتب الفقه القديمة،فإنك لا تكاد تفتح كتاب فقه إلا وتجد فيه كتاب (البيوع) والعقود ما يكتنفها من شروط وأركان وضوابط وقواعد،ولذلك فهي كثيرة التناول جمة التفاريع.
ولأنها كثيرة التفاريع كان لا بد أن أركز في تقريري اليسير –هذا- على جزيئة أبحثها،أو ألقى الضوء عليها من خلال نظرية العقد.
ووقع اختياري على فساد العقد وبطلانه، وقد جعلهما الشيخ الزرقا في نظرتين مستقلتين، ومحل تقريري هذا هو: الفرق بين الفاسد والباطل في العقود بين الحنفية والجمهور دراسة تأًصلية مقارنة ومرجحة،مع ذكر بعض الأمثلة التي هي من أثر الاختلاف في القاعدة الأصولية.
ولم أتعمق في بحث الشروط المفسدة أو المبطلة للعقد،وإن كنت ألقيت الضوء على بعض تفاصليها،لضيق المحل،والله المستعان.
أولا : التعريفات
معنى الفاسد لغة واصطلاحا:
أصل هذه الكلمة هو الفاء والسين والدال، يقال : فسد الشيء يفسد فساداً وهو خلاف الصلاح،
ويقال : تفاسد القوم إذا تدابروا وقطعوا الأرحام . والمفسدة خلاف المصلحة، والاستفساد خلاف الاستصلاح .
معنى الفاسد في اصطلاح الفقهاء: قا ل الجرجاني "الفاسد هو الصحيح بأصله لا بوصفه ويفيد الملك عند إتصال الفيض به" .
أما الشافعية فعرفوه" ما يقابل الصحيح وهو المرادف للبطلان" .قال الحافظ العلائي" المراد من كون العقد صحيحا أن يكون مستجمعا لجميع أركانه وشرائطه ومن كونه فاسدا أن لا يكون كذلك"
معنى الباطل لغة واصطلاحا:
"بَطَل الشيءُ يَبْطُل بُطْلاً وبُطُولاً وبُطْلاناً ذهب ضيَاعاً وخُسْراً فهو باطل وأَبْطَله هو ويقال ذهب دَمُه بُطْلاً أَي هَدَراً"
أما في الاصطلاح: فقد عرفه الحنفية "هو الذي لا يكون صحيحا بأصله وما لا يعتد به ولا يفيد شيئا وما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة" .
وعرفه الشافعية،قال زكريا الأنصاري " ما فقد منه ركن أو شرط بلا ضرورة ويرادفه الفاسد عندنا" .
ثانيا: المذاهب:
1-مذهب الجمهور:
ذهب جمهور العلماء من مالكية وشافعية وحنابلة إلى عدم التفريق بين الباطل والفاسد.
2-وذهب الحنفية إلى التفريق بينهما ، كما هو واضح من التعريف الآنف الذكر.
3-وقد نقل الزركشي عن المالكية مذهبا متوسطا فقال "وأما المالكية فتوسطوا بين القولين، ولم يفرقوا بين الباطل والفاسد في التسمية، ولكنهم قالوا: البيع الفاسد يفيد شبهة الملك فيما يقبل الملك، فإذا لحقه أحد أربعة أشياء يقدر الملك بالقيمة وهي حوالة الأسواق، وتلف العين ونقصانها، وتعلق حق الغير بها على تفصيل لهم في ذلك" .
ثالثا:تحرير محل النزاع:
1- اتفق الأصوليون على أن الفاسد مرادف للباطل في باب العبادات، وفي عقد النكاح من المعاملات، وعلى هذا فكل عبادة فاسدة، فهي باطلة ولا فرق، وإنما وقع النـزاع في تحديد معنى الفاسد والباطل في باب المعاملات، باستثناء ما ذكر .
2- لا خلاف بين العلماء في التفرقة بين الفاسد والباطل في الحج، والكتابة، والخلع
والعارية. وسبب هذه التفرقة هو قيام الدليل على ذلك
3- العقد إما أن يكون صحيحاً بأصله ووصفه، أو لا يكون صحيحاً لا بأصله ولا بوصف
أو يكون صحيحاً بأصله دون وصفه أو العكس . فالأول صحيح بالاتفاق، والثاني باطل بالاتفاق، وأما الثالث فهو محل خلاف بين العلماء ؛ هل يسمى فاسداً وباطلاً على حد سواء ،أو أن هناك فرقاً بينهما .
رابعا : الأدلة:
1- أبرز أدلة الجمهور:
1-"قال تعالى" قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فسمى السماوات والأرض فاسدة عند تقدير الشريك ووجوده. ودليل التمانع يقتضي أن العالم على تقدير الشريك، ووجوده، يستحيل وجوده، لحصول التمانع لا أنه يكون موجودا على نوع من"
2-"تمسكوا بأن السلف فهموا الفساد من النواهي حتى احتج عمر رضي الله عنه في بطلان نكاح المشركات بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] واستدلت الصحابة رضي الله عنهم على فساد عقود الربا بقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة: 278] وهم أرباب اللسان فدل أن ذلك ثابت لغة ولأن الأمر يقتضي الصحة لغة والنهي يقابله فيقتضي ما يقابله الصحة وهو البطلان لوجوب تقابل أحكام المتقابلات " .
2-أبرز ادلة الحنفية:
قبل الشروع في ذكر الأدلة التي استدل بها الحنفية على التفرقة بين الفاسد والباطل، لا بد لنا من تقرير أصلهم في باب النهي، وأقسامه، والذي ترتب عليه الخلاف الواقع في هذه المسألة؛ وذلك أن النهي عند الحنفية يقتضي قبح المنهي عنه، والمنهي عنه في القبح ينقسم قسمين :
1- ما قبح لعينه: وهو نوعان: أ- قبيح وضعاً : أي دل على قبحه أصل وضعه لغةً ، كالكفر والظلم، وهو باطل باتفاق .
ب-وقبيح شرعاً ، أي دل على قبحه الشرع ، كبيع الحر.وهو باطل أيضا عند الحنفية وغيرهم .
2-وما قبح لغيره.وأما القبيح لغيره فهو نوعان أيضاً :
أ- قبيح وصفاً،وهو وصف ملازم للنهي عنه دون أصله.
ب- وقبيح مجاورة:وهو ما كان النهي فيه راجع لوصف منفك عن الحكم مجاور له.
ومثال الأول : كالنهي عن الربا،فإنه راجع لوصف لازم للنهي عنه دون أصله،فالنهي من أجل الزيادة ،وهو محل خلاف بين الحنفية وجمهورالعلماء ،فالحنفية يصححوا أصل العقد ويبطلوا وصفه،والجمهور يبطلوه بالجملة .
ومثال الثاني: النهي عن البيع وقت النداء ، فأصل البيع مشروع، ولكن نهي عنه وقت النداء لمعنى مجاور له، وهو ترك السعي الواجب إلى الصلاة .وهو صحيح عند جمهور العلماء .
وهذه أبرز أدلتهم :
1- أنه قد جرى في عرف الناس وخطاباتهم التفرقة بينهما ، قال ابن أمير الحاج "وأما بين الفاسد ومسماه وهو المشروع بأصله لا بوصفه فلأنه يقال لؤلؤة فاسدة إذا بقي أصلها وذهب لمعانها وبياضها ولحم فاسد إذا أنتن ولكن بقي صالحا للغذاء. وأما بين الباطل ومسماه وهو ما ليس بمشروع بأصله ووصفه فيقال لحم باطل إذا صار بحيث لا يبقى له صلاحية الغذاء" .
2- أن المقصود الشرعي من العبادة هو التعبد لله عز وجل، فمتى ما طرأ على هذه العبادة خلل ، سواءً أكان ذلك الخلل في الأصل أم الوصف بطلت العبادة ؛ لفوات المقصود الشرعي منها، لذا لم يفرقوا بين فوات الأصل وفوات الوصف فيها ؛ لأن المؤدى واحد.
أما في باب المعاملات، فيتم فيها تغليب جانب المصلحة على التعبد ، فالمقصود منها أولاً مصالح العباد الدنيوية ، فمتى ما أمكن تحقيق هذه المصلحة حكمنا بصحة العقد ، ومن هذا القبيل ما لو طرأ الخلل على وصف العقد ، فإنهم يحكمون بصحة الأصل وفساد الوصف ، ولا يبطلون العقد بالكلية ؛ بل متى زال الوصف الفاسد أمكن تصحيح العقد.
3-"إنما ملك البيع الفاسد ؛ لأن المبيع فيه يملك بالقبض فيحصل الربح بخلاف الباطل"
4-وقد استدلوا على الجمهور في عدم جريانهم على أصلهم من كون أن لا فرق بين الفاسد والباطل ثم صححوا كثيرا من العقود، مع فساد أوصافها مثل :الكتابة والجعالة والخلع.
3-تعقيب الجمهور:
1- قد دل على فساده النقل ؛ وذلك لأنهم جعلوا الفاسد هو الموجود مع نوع خلل فيه ، والباطل ما لا حقيقة له . وهذا التفسير فاسد ؛ وذلك لأن الله جل جلاله قد ذكر في كتابه دليلاً على وحدانيته هو قوله سبحانه وتعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فسمى السموات والأرض فاسدة على تقدير وجود الشريك، ومعنى هذا هو استحالة ذلك لدليل التمانع ، لا أنها تكون موجودة على نوع خلل فيها ، فدل ذلك على بطلان أصل الحنفية في التفرقة بين الفاسد والباطل .
2- قال الزركشي "ووافقونا على البطلان إذا كان الفساد لصفة المعقود عليه كبيع الملاقيح. ونحن لا نرتب على الفاسد شيئا من الأحكام الشريعة، لأنه غير مشروع لكن لنا قاعدة، وهي إذا كان للفعل عموم وبطل الخصوص قد لا يعمل العموم. فالمسائل التي رتب الأصحاب عليها حكما من العقود الفاسدة هي من هذا القبيل"
وقال ابن رشد الحفيد "وأما في العقود فينطلق الفساد على كل حكم لم يتضمن أحد ما به يتم الحكم ، سواء كان ذلك شرطا أو سببا ، والصحة مقابل هذا . اللهم إلا أن أصحاب أبي حنيفة فإنهم يخصون باسم الفاسد ما كان مشروعا في أصله ممنوعا في وصفه . لكن قد تقدم من قولنا أن كل ممنوع بوصفه ممنوع بأصله وعائد عليه بالفساد من جهة ما هو متصف . و بالجملة فالأحكام إنما تتصف بالصحة إذا فعلت بالأمور والأحوال التي اشترط الشرع في فعلها ، والفساد بخلاف ذلك" .
3- أما عقدا الخلع والكتابة: فباطلهما ما كان على غير عوض مقصود شرعاً كالميتة ، أو رجع الخلل إلى العاقد ككونه صغيراً أو سفيهاً، والفاسد بخلاف ذلك .
والفرق بينهما، أن الفاسد يترتب عليه العتق والطلاق، ويرجع الزوج بالمهر والسيد بالقيمة، بخلاف الباطل فإنه لا يترتب عليه مال
وأما العارية: فقد نقل الزركشي عن الغزالي صورتها، فقال : وذلك كإعارة الدراهم والدنانير، فقد وقع فيها خلاف، فإن أبطلناها فقد ذهب أهل العراق إلى أنها مضمونة؛ وذلك لأنها إعارة فاسدة، أما عند المراوزة فهي باطلة، ولا ضمان فيها .
4-الراجح:
الراجح هو مذهب الجمهور من كونه لا فرق بين العقد الفاسد والباطل ،ولا فرق بينهما إلا بما دل عليه الدليل .
قال الشرواني الشافعي " الفاسد والباطل عندنا سواء إلا فيما استثني وهو الحج والعمرة والخلع والكتابة فالفاسد من الحج والعمرة يجب قضاؤه والمضي فيه، والخلع الفاسد يترتب عليه البينونة والكتابة الفاسدة قد يترتب عليها العتق بخلاف الباطل منها، فلا يترتب عليه شئ منها " .
وهذا نقل مهم عن السبكي يوضح المسألة :
قال أبو الحسن السبكي" عندي أن أصحابنا لم يوافقوا الحنفية في هذا التفريق أصلا، لأن الحنفية يثبتون بيعا فاسدا يترتب عليه مع القبض أحكام شرعية، ونحن لا نقول ذلك، وإنما العقود لها صور لغة وعرفا من عاقد ومعقود عليه وصيغة، ولها شروط شرعية فإن وجدت كلها فهو الصحيح، وإن فقد العاقد أو المعقود عليه أو الصيغة أو ما يقوم مقامها فلا عقد أصلا، ولا يحنث به إذا حلف لا يبيع ونسميه بيعا باطلا مجازا، وإن وجدت وقارنها مفسد من عدم شرط ونحوه، فهو فاسد، وعندنا هو باطل خلافا لهم.
ووافقونا على البطلان إذا كان الفساد لصفة المعقود عليه كبيع الملاقيح. ونحن لا نرتب على الفاسد شيئا من الأحكام الشريعة، لأنه غير مشروع لكن لنا قاعدة، وهي إذا كان للفعل عموم وبطل الخصوص قد لا يعمل العموم. فالمسائل التي رتب الأصحاب عليها حكما من العقود الفاسدة هي من هذا القبيل" .
خامسا: بعض الفروع المبنية على الاختلاف في الفاسد والباطل في العقود:
1-بيع وشراء الخنزير:
فصل الحنفية في حكم بيع الخنزير فهو عندهم باطل إذا بيع بدراهم أو دنانير ، وفاسد إذا بيع بعين ، على قولهم بالتفريق بين البطلان والفساد .
والفرق بين بيعه بدراهم أو دنانير وبين بيعه بعين ، أن الشرع أمر بإهانة الخنزير وترك إعزازه وفي شرائه بدراهم أو دنانير إعزاز له ، لأنها غير مقصودة في العقد لكونها وسيلة للتملك ، وإنما المقصود الخنزير ، ولذا كان بيعه بهما باطلا ويسقط التقوم .
أما إذا بيع بعين كالثياب ، فقد وجدت حقيقة البيع لأنه مبادلة مال بمال ، والخنزير يعتبر مالا في بعض الأحوال كما هو عند أهل الكتاب"
قال الكاساني"وأما البيع الباطل فهو كل بيع فاته شرط من شرائط الانعقاد من الأهلية والمحلية وغيرهما وقد ذكرنا جملة ذلك في صدر الكتاب ولا حكم لهذا البيع أصلا لأن الحكم للموجود ولا وجود لهذا البيع إلا من حيث الصورة لأن التصرف الشرعي لا وجود له بدون الأهلية والمحلية شرعا كما لا وجود للتصرف الحقيقي إلا من الأهل في المحل حقيقة وذلك نحو بيع الميتة والدم والعذرة والبول وبيع الملاقيح والمضامين وكل ما ليس بمال وكذا بيع صيد الحرم والإحرام لأنه بمنزلة الميتة وكذا بيع الحر لأنه ليس بمال وكذا بيع أم الولد والمدبر والمكاتب"
ثم ذكر أمثلة على العقود الفاسدة،قال: وأما بيع الخمر والخنزير فلا يبطل بل يفسد وينعقد بقيمة العبد لأن العبد مال متقوم وكذا الخمر والخنزير في حق أهل الذمة والخمر مال في حقنا إلا أنه لا قيمة لها شرعا فإذا جعل الخمر والخنزير ثمنا فقد .
وقال ابن عابدين" بخلاف ما لو اشترى بخمر أو خنزير لأنهما مال متقوم في حق بعض الناس إلا أن البيع بهما فاسد" .
قال ابن الهمام" وكذا بالحر بأن يجعل الميتة والحر ثمنا لثوب مثلا وذلك لانعدام ركن البيع الذي هو مبادلة المال بالمال فإن هذه الأشياء لا تعد مالا عند أحد يعني ممن له دين سماوي فلذا كان البيع بالحر باطلا وإن كان مالا عند بعض الناس وأما البيع بالخمر والخنزير ففاسد لوجود حقيقة البيع وهو مبادلة المال بالمال فإنه أي كلا من الخمر والخنزير مال عند البعض وهم أهل الذمة" .
ومرد تفريقهم أن هناك قرق بين ما ما انصب النهي على أصله وما انصب النهي على وصفه .
وهذا مما خالفهم الجمهور فيه بناء على أصلهم من عدم التفريق بين الفاسد والباطل ،لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ - سَوَاءٌ أَكَانَ ثَمَنًا أَمْ مُثَمَّنًا - أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَأَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ شَرْعًا .
2- البيع بعد نداء الجمعة: ذهب الحنفية إلى عدم فساد البيع الواقع بعد النداء الثاني ،
فالبيع بعد النداء الثاني: لم يبطلوه لأنه تعلق بوصف مجاور على حد مذهبهم وهذا مما شركهم فيه الشافعية وخالف فيه المالكية والحنابلة .
3-النهي عن بيع وشرط:
الشروط في البيع أربعة أقسام:
1-الشرط الذي هو من مقتضى العقد كالتسليم وخيار المجلس،فهذا الشرط لا يفيد حكما .
2-الشرط الذي تتعلق به مصلحة العاقدين،كالأجل والخيار والرهن،أو كالصناعة والكتابة ،وهو ليس محل خلاف بين الفقهاء في صحته.
3-اشتراط منفعة للبائع في المبيع،كأن يبعه على أن يبيعه شئآخر أو أن يؤجره،أو نحو ذلك.
4-الشرط الذي ينافي مقتضى العقد ،كأن لا يبيع السلعة ولا يتصرف فيها .
وهذان القسمان هما محل خلاف العلماء .
فذهب الخنفية إلى فساد العقد فقط، فينعقد وجبا للملك إذا اتصل به القبض.
قال السرخسي"البيع الفاسد يكون مشروعا بأصله موجبا لحكمه وهو الملك إذا تأيد بالقبض، لان المشروع إيجاب وقبول من أهله في محله، وبالشرط الفاسد لا يختل شئ من ذلك، ألا ترى أن الشرط لو كان جائزا لم يكن مبدلا لاصله بل يكون مغيرا لوصفه، والشرط الفاسد لا يكون معدما لاصله أيضا بل يكون مغيرا لوصفه فصار فاسدا، وليس من ضرورة صفة الفساد فيه انعدام أصله لان بالفساد يثبت صفة الحرمة، وهذا السبب مشروع لاثبات الملك، وملك اليمين مع صفة الحرمة يجتمع، ألا ترى أن من اشترى أمة مجوسية أو مرتدة يثبت الملك له مع الحرمة، وأن العصير إذا تخمر يبقى مملوكا له مع الحرمة فلهذا أثبتنا في البيع الفاسد ملكا حراما مستحق الدفع لفساد السبب ولم ينعدم به أصل المشروع" .
أما الشافعي فقد ذهب إلى بطلان بيع وشرط ، واستثنى ما بيع بشرط العتق لحديث بريرة المشهور ،فعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ عَائِشَةَ تَسْتَعِينُهَا فِى كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ ارْجِعِى إِلَى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِىَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِى. فَعَلْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأَهْلِهَا فَأَبَوْا وَقَالُوا إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونَ لَنَا وَلاَؤُكِ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « ابْتَاعِى فَأَعْتِقِى. فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ». ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ ».
وقال مالك : إن كان شرط البائع من منافع المبيع يسيرا ، كسكنى يومين أو ثلاثة صح البيع والشرط ، وإن كثر بطل البيع والشرط .
وذهب الإمام أحمد على جوازه،قال أحمد: إنما النهي عن شرطين في بيع وهذا يدل بمفهومه على جواز الشرط الواحد ،واستدل بحديث جابر المعروف ،وهو مارواه زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ حَدَّثَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ قَالَ فَلَحِقَنِى النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَدَعَا لِى وَضَرَبَهُ فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ قَالَ « بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ ». قُلْتُ لاَ. ثُمَّ قَالَ « بِعْنِيهِ ». فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ وَاسْتَثْنَيْتُ عَلَيْهِ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِى فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ فَنَقَدَنِى ثَمَنَهُ ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِى أَثَرِى فَقَالَ « أَتُرَانِى مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ » .
والراجح مذهب الحنابلة، قال ابن القيم" والأخذ بحديث النهي عن بيع وشرط الذي لا يعلم له إسناد يصح مع مخالفته للسنة الصحيحة والقياس ولانعقاد الإجماع على خلافه ودعوى أنه موافق للأصول.أما مخالفته للسنة الصحيحة فإن جابرا باع بعيره وشرط ركوبه إلى المدينة ... فهذا بيع وشرط ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة.
وأما مخالفته للإجماع فالأمة مجمعة على جواز اشتراط الرهن والكفيل والضمين والتأجيل والخيار ثلاثة أيام ونقد غير نقد البلد فهذا بيع وشرط متفق عليه" .
فالخلاصة أن الحنفية العقد عندهم فاسد، لجريهم على أصلهم في العقود ،وهو فاسد عند الشافعية فساداً ليس مرادفا للبطلان وذلك لأنه مستثنىً بالنص,وهو صحيح الأصل والوصف عند الحنابلة.
هذا والله أعلم وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 - ابن منظور ، محمد بن مكرم الأفريقي، لسان العرب،مادة:فسد، ،دار صادر – بيروت،ط1.
2 - الجرجاني، علي بن محمد بن علي،التعريفات - (ج 1 / ص 211) تحقيق : إبراهيم الأبياري،دار الكتاب العربي – بيروت،الطبعة الأولى ، 1405هـ.وينظر: البركتى، قواعد الفقه (ص 6).
3 - وسيأتي تعريفه قريبا، البحر المحيط في أصول الفقه،1/ 257 ،بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي،المحقق : محمد محمد تامر،دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،الطبعة : الطبعة الأولى، 1421هـ / 2000م.
4 - العلائى ، خليل بن كيكلدى ،تحقيق المراد فى أن النهى يقتضى الفساد ،ص6 ،دار الكتب الثقافية-بيروت.
5 - ابن منظور، لسان العرب،مادة:بطل.
6 - الجرجاني، التعريفات (ج 1 / ص 61) .
7 - الأنصاري، زكريا بن محمد ، الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة(ج 1 / ص 74)، تحقيق : د. مازن المبارك، دار الفكر المعاصر – بيروت،الطبعة الأولى ، 1411هـ.
8 - ابن رشد ، أبو الوليد محمد ،الضروري في أصول الفقه (ج 1 / ص 18)،تقديم وتحقيق جمال الدين العلوي،دار الغرب الإسلامي- بيروت الطبعة الأولى، 1994هـ.
9 - العلائى ،تحقيق المراد فى أن النهى يقتضى الفساد ،ص6 . وينظر: الأسنوي، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول،ص59.
10 - ابن قدامة ، عبد الله بن أحمد المقدسي ،روضة الناظر وجنة المناظر،ص58 ، تحقيق : د. عبد العزيز عبد الرحمن السعيد، جامعة الإمام محمد بن سعود – الرياض،الطبعة الثانية ، 1399هـ. وينظر: البعلي، القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام،ص110.
11 - الكاساني ،علاء الدين ،بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع،دار الكتاب العربي -بيروت،1982هـ.وينظر: القونوي ،أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء،ص75.
12 - الزركشي ، البحر المحيط في أصول الفقه،1/ 257.
13 - ينظر: ابْنِ نُجَيْمٍ ، زَيْنُ الْعَابِدِيْنَ بْنِ إِبْرَاهِيْمِ ،الأشباه والنظائر ، ص337،دار الكتب العلمية،بيروت،لبنان،1400هـ/1980م.
14 -ينظر : الزركشي،البحر المحيط (1/321)، وابن النجار،شرح الكوكب المنير (1/474)، و السيوطي ،الأشباه والنظائر (479).
15 - المرجع نفسه،(1/321).
16 - المرجع نفسه،1/ 257 . وينظر: العلائى ، تحقيق المراد فى أن النهى يقتضى الفساد ،ص7.
17 - البخاري ، عبد العزيز بن أحمد بن محمد ، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي (ج 1 / ص 380)،المحقق : عبد الله محمود محمد عمر،دار الكتب العلمية –بيروت،الطبعة الأولى 1418هـ/1997م.
18 -ينظر:الخن، مصطفى سعيد، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء،ص305،مؤسسة الرسالة،بيروت –لبنان،ط10،1427هـ/2007م.
19 - المرجع نفسه،ص305,
20 - نفسه ،ص303،
21 -نفسه،ص307.
22 -ينظر: - ينظر: ابْنِ نُجَيْمٍ ، ص338.
23 ينظر: البخاري، كشف الأسرار (1/380)، والسرخسي، أصول السرخسي (1/96).
24 - التقرير والتحبير - (ج 3 / ص 419) محمد بن محمد ابن أمير الحاج الحنبلي،دراسة وتحقيق:عبد الله محمود محمد عمر،دار الكتب العلمية –بيروت،الطبعة الاولى 1419هـ/1999م.
25 - أمير بادشاه ،محمد أمين ،تيسير التحرير (ج 2 / ص 340)، دار الفكر-بيروت.
26- الحموي ،أحمد بن محمد الحنفي،غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر (ج 3 / ص 83)،دار الكتب العلمية-بيروت،ط1، 1405هـ/1985م.
27- ينظر : الزركشي ،البحر المحيط (1/320)،
28 - نفسه1/ 259.
29 - ابن رشد ، الضروري في أصول الفقه - (ج 1 / ص 18).
30- االزركسي، لبحر المحيط،1/260.
31- المرجع نفسه1/260.
32 - الشرواني، عبد الحميد، حواشي الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج،(ج 5 / ص 89)،دار الكتب المية-بيروت.
33 - الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه (ج 1 / ص 259).
34 - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 20 / ص 36). وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الكويت.
35 -بدائع الصنائع - (ج 5 / ص 305)
36 - ابن عابدين،حاشية ابن عابدين (ج 3 / ص 822) ،الناشر دار الفكر للطباعة والنشر-بيروت.
1421هـ/ 2000م.
37- ابن الهمام، محمد بن عبد الواحد، شرح فتح القدير (ج 6 / ص 403)،دار الفكر-بيروت.
38 -ينظر: الشافعي،محمد بن إدريس، الأم 6 / 155، دار الفكر-بيروت، الطبعة الثانية: 1403 هـ/ 1983 م.
39 - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 20 / ص 36)
40 - المرغياني ،علي بن أبي بكر ،الهداية شرح البداية - (ج 3 / ص 51)، المكتبة الإسلامية-بيروت.
41 -ينظر: الرافعي، عبد الكريم بن محمد، الشرح الكبير (ج 8 / ص 190)، ط:دار الفكر-بيروت.
42 - ابن عبد البر ، يوسف بن عبد الله ،التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد(ج 10 / ص 78)،المحقق : مصطفى بن أحمد العلوى و محمد عبد الكبير البكرى،مؤسسة القرطبه-بيروت.
43 -إذ يرجع الحنابلة النهي –هنا- إلى ذات المنهي عنه أو إلى وصف لازم، لا إلى وصف مجاور فلذلك أبطلوا البيع ، ينظر: البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس، الروض المربع شرح زاد المستقنع (ج 2 / ص 48) ، مكتبة الرياض الحديثة –الرياض،1390هـ.وينظر: ابن قدامة،الكافي في فقه ابن حنبل (ج 2 / ص 41).
44 - ينظر:الماوردي، علي بن محمد ،الحاوي في فقه الشافعي (ج 5 / ص 313)،دار الكتب العلمية-بيروت،الطبعة الأولى 1414هـ / 1994م.و الخن، أثر الاختلاف، ص325.
45 -نفسه5/313
46 - نفسه5/313
47- السرخسي، محمد بن احمد، أصول السرخسي 1 / 89،دار الكتاب العلمية- بيروت ،ط1، 1414 هـ/ 1993 م
48 - وثمة احترازات أخر ليس هذا محل بسطها ،ينظر: لرافعي ،الشرح الكبير (ج 8 / ص 195)،والشيرازي، المهذب (ج 1 / ص 268).
49 - أخرجه البخاري في صحيحه، برقم444،وله أطراف كثيرة، وأخرجه مسلم في صحيحه،رقم، 3850. واللفظ له. وينظر مذهب الشافعية: الماوردي، الحاوي في فقه الشافعي (ج 5 / ص 313).
50- ينظر: ابن رشد، بداية المجتهد و نهاية المقتصد (ج 2 / ص 160)،،محمد بن أحمد ،مطبعةمصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر،الطبعة الرابعة، 1395هـ/1975م.
وينظر: الحاوي في فقه الشافعي - (ج 5 / ص 313)
51 - البهوتي ، منصور بن يونس بن إدريس ،شرح منتهى الإرادات (ج 2 / ص 30) ،عالم الكتب- بيروت، 1996م وينظر: ابن قدامة،المغني - (ج 4 / ص 226).
52 - أخرجه من هذا الطريق البخاري في صحيحه،برقم 2569،ومسلم برقم4182.
53 - ابن القيم، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج 2 / ص 407)،دراسة وتحقيق:طه عبد الرؤوف سعد،مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، القاهرة،1388هـ/1968م