العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

حكم مشاهدة المذيعات (نقاش فتوى)..

إنضم
15 أبريل 2008
المشاركات
21
التخصص
علوم الحاسب الآلي
المدينة
بريدة
المذهب الفقهي
حنبلي النشأة
بسم الله الرحمن الرحيم

حُكْمُ مُشَاهَدَةِ المُذِيْعَاتِ
(نقاش فتوى)


فقد سمعتُ قبل فترة فتوى بخصوص حكم النظر إلى مذيعات الأخبار في القنوات الإخبارية وغيرها ، فأحببتُ مناقشة الموضوع مناقشةً سريعة طالباً الحق والنصيحة بإذن الله ، وقبل أن أشرع بالمقصود هاكم نص كلام الشيخ حول هذا الموضوع :

يقول الشيخ :
سألني شخص في ذات مرة: هل يجوز مشاهدة نشرة الأخبار التي تذيعها امرأة، فقلت له: استفت قلبك. قال لي: كيف ؟ قلت: إذا أنت تسمع الأخبار وترى هذه المرأة كما لو كنت ترى رجلاً ـ مثلاً ـ ملاكمًا أو ترى جدارًا فهذا عادي، لكن إذا كنت ترى هذه المرأة وتستعذبها وتستحليها وتتلمح ملامحها وقسماتها وربما أخذتك عن الأخبار فهنا استفت قلبك، فهذا دليل أنك تمارس إثمًا حتى لو كان لا يوجد نص صريح بخصوصه لكن هنا قلبك يدل على أنه أنت هنا تقع في خطأ.
وأضاف فضيلته: فهنا الضمير يعطيك مؤشر؛ ولذلك الضمير هو إنذار داخلي (جرس)، فبعض الأخطاء التي لا يوجد عليها نص خاص أو دليل خاص، ولكن تجد من داخلك شيء يقول لك: "اترك هذا الأمر"، يقول تعالى (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:15) ، فمن الممكن أن يأتي الإنسان بأعذار ويقتنع ويقنع الآخرين لكن في داخله لا يستطيع أن يقنع نفسه.


انتهى كلام الشيخ .

قلتُ: سأجعل المناقشة وقفاتٍ موجزة أوردها كما يلي :

الوقفة الأولى :

من المعلوم لدى الجميع أن غالب المذيعات في القنوات الإخبارية متبرجات سافرات –قد كشفن شعورهن ونحورهن وأيديهن ووجوههن وبعضهن قد كشفن سوقهن ــ وقليل جداً منهن من كشفت وجهها وكفيها فقط . وعلى هذا فإن الكلام في الوقفات التالية سيكون على الحال الأغلب ( من كشف الشعور والنحور والأيدي وغيرها).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوقفة الثانية :

من المتقرر لدى أهل العلم رحمهم الله أن كل ما سوى ( الوجه والكفين ) من المرأة هو عورة بالنسبة للرجل الأجنبي عنها . فيجب عليها ستره عن الأجانب ، وهذا محل اتفاق وإجماع لا يُعارَض فيه ، وقد اختلفوا في (الوجه والكفين ) كما هو مشهور .
ولا أظن أنني بحاجة إلى سرد نصوص الفقهاء من المذاهب كلها ، لأن الأمر متفق عليه لا يحتاج إلى إطالة . لكن سأذكر بعضها للإشارة فقط :

* قال الإمام القرطبي في تفسيره (12/237):
(أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل والمرأة، وأن المرأة كلها عورة، إلا وجهها ويديها فإنهم اختلفوا فيهما).

* قال ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/99) :
(حد العورة في المرأة ، فأكثر العلماء على أن بدنها كله عورة ما خلا الوجه والكفين ، وذهب أبو حنيفة إلى أن قدمها ليست بعورة ، وذهب أبو بكر بن عبد الرحمن ، وأحمد إلى أن المرأة كلها عورة).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوقفة الثالثة :

ما يُفهم من الفتوى أن حكم مشاهدة المذيعات ( المتبرجات ) فيه تفصيل وهو :

أن من شاهدها بدون شهوة ( أي كما لو كان يرى رجلاً ـ مثلاً ـ ملاكمًا أو يرى جدارًا) فهذا كما يقول الشيخ : (عادي) ،
أما إن كان يشاهدها بشهوة (أي أنك ترى هذه المرأة وتستعذبها وتستحليها وتتلمح ملامحها وقسماتها وربما أخذتك عن الأخبار) قال الشيخ ففي هذه الحالة : (استفت قلبك )!! فإن قلبك سيدلك على أنك تمارس إثماً!!

قلتُ : وهذا كلام غريب ! ، فإن الأدلة التي تنهى عن النظر إلى عورة المرأة الأجنبية مطلقة لم تقيد بهذا القيد الذي ذُكر في الفتوى!! فمن أين أتى الشيخ بهذا القيد وبماذا يستدل؟ اللهُ أعلم !!

وإليك أخي بعض الأدلة التي تدل على منع النظر إلى عورة الأجنبية مطلقاً ولم تقيد بقيد الشهوة:

1 ــ قال تعالى : ( وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ... الآية ) النور:٣٠
ــ قال ابن كثير رحمه الله : (هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه ، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على مُحرَّم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعًا..).
ــ قال القرطبي رحمه الله : (أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل، فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل، فإن علاقتها به كعلاقته بها، وقصدها منه كقصده منها).

فهذه الآية مطلقة لم تقيد بشهوة أو بدونها .

2 ــ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة ، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد ) رواه مسلم .
قال النووي رحمه الله في شرحه على مسلم 4/30 : (فيه تحريم نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة وهذا لا خلاف فيه، وكذلك نظر الرجل إلى عورة المرأة والمرأة إلى عورة الرجل حرام بالإجماع ونبه صلى الله عليه وسلم بنظر الرجل إلى عورة الرجل على نظره إلى عورة المرأة وذلك بالتحريم أولى....إلخ)


وهذا النهي مطلق لم يقيد بالشهوة .


وقال أيضاً رحمه الله في شرحه 2/50 : ( وأما نظر الرجل إلى المرأة فحرام في كل شيء من بدنها فكذلك يحرم عليها النظر إلى كل شيء من بدنه سواء كان نظرُهُ ونظرُهَا بشهوة أم بغيرها ، وقال بعض أصحابنا لا يحرم نظرها إلى وجه الرجل بغير شهوة وليس هذا القول بشيء).

3 ــ عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري) رواه مسلم .


قال المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير 1/320 : ( [اصرف بصرك] أي اقلبه إلى جهة أخرى إذا وقع على نحو أجنبية بلا قصد فإن صرفته لم تأثم وإن استدمت أثمت).
وهذا الحديث فيه الأمر بغض البصر عما لا يحل مطلقاً ولم يقيد بشيء.

4 ــ وحديث (المرأة عورة) ، وحديث ( إياكم والجلوس في الطرقات ) .

كل هذه الأحاديث تأمر بغض البصر مطلقاً دون تقييد .

فالتقييد يحتاج إلى دليل خاص حتى يُقال به .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوقفة الرابعة :

إن مما يدل على خطأ (تقييد تحريم النظر إلى عورة الأجنبية بقيد الشهوة) ، أن هذا القيد لا يجعل فرقاً بين النظر إلى العورة والنظر إلى غيرها ! لأن النظر إلى غير العورة وإن كان جائزاً إلا أنه يحرم إذا كان لشهوة ! فصار حكمهما متشابه ؟!
وهذا مما يبين خطأ هذا القول ومخالفته.


قال النووي رحمه الله تعالى : (قال أصحابنا: النظر بالشهوة حرام على كل أحد غير الزوج والسيد حتى يحرم على الإنسان النظر إلى أمه وبنته بالشهوة، والله أعلم).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوقفة الخامسة :

إننا إذا قلنا بجواز النظر إلى عورة المرأة الأجنبية كشعرها ونحرها وغيرهما بشرط عدم الشهوة ، فإنه يلزمنا القول بجواز مشاهدة (العورات المغلظة) التي لا تثير الشهوة كذكر رجل أو غيره ، لأن كلها عورات فيجوز النظر إليها إذا كان بغير شهوة .
ولا أظن أن أحداً سيقول بهذا ؟؟!!

قد يعترض معترض فيقول : إن العورات المغلظة تختلف عن العورات الأخرى فلا يقاس بينهما .

فأقول : ما الدليل على التفريق ؟ فإن الشرع قد أمر بستر الكل مغلظةً كانت أو مخففة ؟ بل إن المخففة قد تكون أشد إثارة من المغلظة لأن النفوس تشمئز منها في الغالب وتستقذرها !!

فإن قيل : إن العورات المغلظة مظنة للشهوة ! أما المخففة فلا !

فنقول : هذا غير صحيح لأن الواقع بل والفطرة تثبت أن مشاهدة عورة رجل مغلظة أهون من مشاهدة نهد فتاة جميلة أو نحرها أو فخذها ! مع أنها عورة مخففة !

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوقفة السادسة:


قد يقول قائل : إن الشريعة منعت النظر إلى الأجنبية لعِلَّة ومقصد وهو الافتتان بها فتثور الشهوة فإذا أمّنّا هذا الجانب باشتراط عدم الشهوة حصل المقصود وانتفى المانع!

فأقول: إن استعمال فقه المقاصد بهذه الطريقة دون ضوابطِ مُراعاة الأدلة أمر خطير، لأنه يؤدي إلى إلغاء الأدلة وتقييد المطلق وإطلاق المقيد!
قد تقول : كيف ؟

فأقول: نستطيع بهذه الطريقة أن نغير كثيراً من الأحكام فمثلاً نستطيع أن نقول:

إن الشرع حرّم الربا لعلة ومقصد وهو منع الظلم بأخذ مال الغير دون وجه حق، وعلى هذا فإنه يجوز لرجل أن يُقرض رجلاً بشرط أنه إذا انخفضت قيمة العملة وقت حلول الدين فإنه يدفع له مبلغاً قدره 0.5% (نصف بالمئة) من الدين ، حتى يعوض الدائن جزءاً من النقص !!
وبما أن تعويض (نصف بالمئة) وإن كان ربا إلا أنه ليس فيه ظلم للمدين فتجوز هذه المعاملة، حيث إن مبلغ التعوض قليل جداً مقابل الخدمة الجليلة التي قدمها المُقرض للمقترض ، بحيث لو أن الدين = 10.000 ريال فإن التعويض سيكون = 50 ريالاً فقط ،وهذا مبلغ يسير جداً بالنسبة للدين فلا يكون ظلماً مع نزول قيمة العملة وتضرر المقرض ؟؟!! فهنا انتفى الظلم لذا فإنه يجوز أخذ هذه القيمة !! وقد قال بهذا القول أحد المعاصرين !!
وهذا مخالفة صريحة للأدلة والإجماع لأنه (ربا فضل ونسيئة) ،كل هذا بحجة مقاصد التشريع !!

مثالٌ آخر (للطرفة) كنتُ قد قرأته في أحد كتب الرافضة،يقول ما معناه:

إن الله تعالى يقول : (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون , إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العدواة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون )
ذكر الله تحريم الخمر وذكر السبب في تحريمه حيث أنه يوقع العداوة والبغضاء لأن السكران قد يقتل أو يفسد دون أن يشعر فتحدث العداوة والبغضاء بين المؤمنين ، وأنه يصد عن الذكر فيتكاسل عن العبادات ويضيع وقتاً كثيراً في السكر فلا يذكر الله إلا قليلاً ، وأنه يضيع الصلاة فقد لا يصليها لسكره أو يؤخرها حتى يصحو ، لهذا حرم شرب الخمر ، لكن !
إن استطعنا أن نتجنب هذه المساوئ فإنه يجوز لنا شربه لأن الحكم يدور مع علته !! وذلك بأن يجلس الإنسان في بيته في غرفة آمنة ويجعل عنده شخصاً أميناً يراقبه ويمنعه من فعل أي خطأ وذلك بعد أن يصلي العشاء الآخر ويشرب خمراً لا يزيد سُكره عن ساعة أو ساعتين !!!
ففي هذه الحالة نكون قد تجنبنا جميع المفاسد التي حُرِّم من أجلها شرب الخمر فلا أحدثنا بغضاء وعداوة ولا صددنا عن ذكر الله ولا تركنا صلاة واستمتعنا أيضاً والحمد لله !!!!

وفي مسألتنا هذه (وهي مسألة النظر إلى الأجنبية ) يستطيع قائل أن يقول :
إن المقصد الشرعي في (منع النظر إلى الأجنبية بشهوة سواءً الحقيقة أو الصورة) ، هو أن هذه الشهوة قد تقود إلى فعل المحرم كالزنا ، فلذا حُرِّم النظر بشهوة ، لكن – ما رأيكم ــ إن كان ينظر إلى عورة الأجنبية ليثير شهوته حتى يعف زوجته ؟ أليس هذا مقصداً نبيلاً ومطلباً شرعياً ؟
بلى ! لذا فهو مباح لأن هذا النظر يقود إلى أمر مباح أو مندوب وهو إعفاف الزوجة ، والمحظور هو النظر بالشهوة التي تقود إلى الحرام أما الشهوة التي تقود إلى حلال أو مندوب فلا بأس !!!

وهل لقائل أن يقول : إنه يجوز الخلوة بالأجنبية لأن العلة (خوف الفتنة والزنا) فإذا أُمنت الفتنة فلا بأس! ويُترك (النص الصريح) في هذه المسألة بحجة المقصد دون حاجة ماسة!

وهذه الأقوال قد يقول بها بعض الجهال الذين يرفعون لواء المقاصد دون فقه ودراية !! فيربطون كل حكم بمقصده الذي يظهر لهم دون النظر إلى صريح النص وظاهره !

وفي ختام هذه الوقفة أقول :

إن فقه المقاصد لا يلغي صريح الأدلة أو يقيده أو يطلقه بمجرد نظرة عجلى عابرة !! إذ لا بد من قيود وضوابط ومعانٍ ظاهرة تضطرنا لمخالفة ظاهر النص! فالحذر الحذر من هذا المزلق الذي قد يتساهل به البعض دون تعمق في فهمه وضوابطه !!
( وأرجو أن لا يفهم البعض أني أقصد الشيخ بهذا الكلام ، ولكني أُشير تصرفات كثير من الناس تجاه القضية ! وهو ــ كما أظن ــ مشهور مؤخراً في تعاملات عامة الناس مع المسائل التي تواجههم!)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( مسألة : الفرق بين الحقيقة والخيال )

الوقفة السابعة :

قال الشيخ وفقه الله في سياق كلامه عن حكم مشاهدة المذيعات :
(فبعض الأخطاء التي لا يوجد عليها نص خاص أو دليل خاص، ولكن تجد من داخلك شيء يقول لك: اترك هذا الأمر..)

قلتُ : لا أظن أن الشيخ قد فاتته هذه النصوص الخاصة الصريحة ــ في مسألة النظر إلى عورة الأجنبية ــ ولا أظنه تخفاه تصريحات الفقهاء في هذه المسألة .
لكن لعل الشيخ – وفقه الله ــ بنى قوله في هذه المسألة على ما يلي :
وهو أن النظر إلى الأجنبية (في الخيال والصورة) لم ترد فيه نصوص تخصه فيكون حكمه حكم الصور العامة ، لأن الأدلة جاءت في غض البصر عن الصور الحقيقة لا عن الصور الخيالية (كالصور الفوتوغرافية والفيديو). (تنبيه : هذا تخمين مني وظن لأنه هو واقع السؤال، وإلا فإن الشيخ لم يفصل في المسألة).
فإن كان هذا التخمين صحيحاً فالواجب على الشيخ صاحب الفتوى –وفقه الله ــ التفصيل والتفريق بين (الصورة والحقيقة) لأن المستمع قد يفهم من الإجابة أن هذا التفصيل مطلق في النظر إلى المرأة على أية حال (حقيقةً كانت أو خيالاً)، حيث إن أغلب المستمعين لن يراعي قضية السؤال وأنه مخصوص بالخيال لا بالحقيقة !! فليتأمل !

وعلى هذا فإن كان (التفريق بين الخيال والحقيقة) هو سبب قول الشيخ بهذا القول فأقول:

قد ذكر ذلك بعض فقهاء الشافعية رحمهم الله حيث قالوا : ( بأن النظر إلى المرأة الأجنبية عن طريق المرآة أو الماء يجوز إذا لم يكن بشهوة معللين بأنه لم يرها حقيقة وإنما رأى مثالها).
قال في إعانة الطالبين 3/301 : ( ولا يحرم نظره لها [أي المرأة الأجنبية] في نحو مرآة كماء وذلك لأنه لم يرها فيها وإنما رأى مثالها) .

وهو رأي للشيخ الفقيه العلامة ابن عثيمين ــ رحمه الله ــ .

وقد احتج بهذا بعض المعاصرين حيث قال : بأن النظر إلى الأجنبية من خلال الصور والإعلام يجوز إذا كان لغير شهوة لأنه نظر إلى الخيال والمثال لا إلى الحقيقة.

فأقول: إن هذا الكلام فيه نظر لأمور :

* الأمر الأول : أنه قد جاء في البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تباشر المرأة المرأة ، فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها).

قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري 15/56 : (قال القابسي: هذا أصل لمالك ــ رحمه الله ــ في سد الذرائع ، فإن الحكمة في هذا النهي خشية أن يُعجب الزوج الوصف المذكور فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة أو الافتتان بالموصوفة).

فهنا قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وصف المرأة للرجل – مع أن الوصف ليس بنظر أصلاً إنما هو تفكير ــ كل هذا خشية أن يفتتن بها ، فما بالك بالصورة فإنها أشد من الوصف بلا شك فهي تحرم من باب أولى !!

* الأمر الثاني : إن التفريق في مسألة النظر بين الحقيقة والخيال ( الصورة ) تفريقٌ في أمرٍ غير مؤثر، لأن من العلل التي مُنِع من أجلها النظر إلى الأجنبية هو الافتتان بها، وهذه العلة موجودة في النظر إلى الأجنبية في الحقيقة أو في الخيال (الصورة) ، بل قد تكون المرأة في الصورة أجمل من الحقيقة وهذا أمر واقع لا شك فيه ، لاسيما بعد التقنية الحديثة وفنون التصوير!!
ولأن من نظر إلى (صورة) المرأة الفوتوغرافية أو الفيديو فكأنما نظر إليها في الطبيعة والحقيقة، لا فرق ! إن لم تكن (الصورة) أفضل!

فإن قال قائل : إن مشاهدة الأجنبية في (الصورة) ليست مثل مشاهدتها حقيقة في الشارع أو في المدرسة أو غيره لأنه إن شاهدها في الحقيقة قد يطمع بها ما لا يطمع بمن شاهدها في الصورة !!

فأقول : هذا المعنى (وهو عدم الطمع بها) يحتاج إلى دليل يُثبت أنه قصدٌ للشرع مُنِعَ النظرُ من أجله! فإن الصورة بذاتها تؤثر في القلب مع استحالة الطمع !

قلتُ : وهذا التفريق لا يصح أيضاً حيث إن الرجل إذا شاهد (صورة) جارته الأجنبية عنه ، قد يطمع بها لقربها منه مع كونه رأى صورتها ولم يرها حقيقةً !! فهل يُباح له نظر صورتها ؟

ويلزم من هذا التفريق (وهو عدم الطمع بها) واعتباره علة مؤثرة :
جواز مشاهدة عورة الأجنبية (في الحقيقة وليس في الصورة) إذا كانت أميرة أو وزيرة مثلاً ، لأنه لا يمكن أن يطمع بها أحد من عامة الناس!
وهذا لا يقول به أحد .

وكذلك نجد في الواقع أن بعض الشباب قد افتتن ببعض الممثلات أو المغنيات وسافر لبلادهن من أجل اللقيا والظفر بهن ! مع أنهم رأوهن في الخيال لا في الحقيقة !

(ومن باب الطرفة! والعبرة!) :
ذات يوم سألني أحد الطلاب عن مسألة غريبة : وهي أنه قد شاهد فيلماً لـ(ممثلة مشهورة) قد ماتت! يقول : وأنا قد أحببتها فهل يجوز الدعاء لها بالجنة لعلي ألتقي بها؟.. يقول : مع أن البعض يقول أنها نصرانية؟! (وذكر من أسباب حبه لها أنها كانت جميلة جداً !)..

* الأمر الثالث: يلزم من القول بأن الأدلة الآمرة بغض البصر هي متعلقة بالحقيقة لا بالخيال (الصورة) لذلك فهي لا تشمل الصور، يلزم منه إباحة النظر للصور ولو بشهوة !! لأن الأدلة التي استنبطنا منها تحريم النظر لأي شيء بشهوة هي نفسها أيضاً متعلقة بالحقيقة لا بالخيال (الصورة)!! ولم يأتِ دليل خاص بمنع التشهي بالخيال (الصورة)؟
وعلى هذا اللازم فإنه يكون النظر إلى الأفلام الجنسية مباحاً لأنه نظر إلى صورة لا إلى حقيقة . وهذا لا يقول به أحد إلا (حزب التحرير) فيما أعلم !

* الأمر الرابع: يلزم من (التفريق بين النظر إلى الصورة والنظر إلى الحقيقة) أن الذين يذهبون إلى صالات المسارح لحضور مسرحية فيها متبرجات أو حفلة لأحد المغنيات أن بعضهم آثم والآخر ليس عليه شيء !! فالذين شاهدوا الممثلة أو المغنية(بغير شهوة) حقيقةً لا عن طريق التصوير فهؤلاء آثمون لأنهم نظروا إلى عورة أجنبية حقيقة ، أما الذين شاهدوها (بغير شهوة) عن طريق الشاشات التي في الصالات الخلفية للمسارح فهؤلاء ليس عليهم شيء لأنهم نظروا إلى الصورة ولم ينظروا إلى الحقيقة .. وهذا لا أظن أن أحداً يقول به ، لأنه تفريق بين متماثلين، والشريعة لا تأتِ بمثل هذا !!!

ويلزم منه لو أن رجلين وأمام أحدهما مرآة وكلاهما ينظر إلى عورات الأجنبيات وجب على الأول غض البصر حتى لو بلا شهوة والآخر لا يلزم لأنه يشاهد صورة خيالية إذا كان بغير شهوة؟

* الأمر الخامس: لقد اعتبر الشيخ حفظه الله في فتاويه عن حكم التصوير (أن الصور الفوتوغرافية والفيديو هي مجرد عكس للحقيقة كالمرآة وأن الحركة والثبات لا يؤثر في شيء)

قلت: وما دام أنه لا فارق بينهما من ناحية الشكل فلماذا اختلف الحكم بين (الحقيقة والصورة) في مسألة النظر مع أن مسألة (النظر) مرتبطة تماما بالشكل ولا فارق بينهما كما ذكر الشيخ؟!
فإن قيل : إن الأدلة أتت في الصور الحقيقية ولم تأت في الصور الخيالية !!

فنقول : ولكن المعنى الذي نهت من أجله الأدلة موجود في (الصور الخيالية) كما هو موجود في (الصور الحقيقية) فلا فرق!
فهل منع النظر متعلق بأصل الشيء وتكوينه أو متعلق بأثره ؟

* الأمر السادس : قد يُقال بأنه يلزم من التفريق بين حقيقة الشيء وخياله ، جواز سماع الكفر والاستهزاء بالدين والموسيقى عن طريق الأشرطة لأنه خيال وليس بصوت حقيقي !! والأدلة متعلقة بالحقيقة لا بالخيال ؟!

* الأمر السابع : قد يقول البعض : لا يمكن عقلاً أن تكون الصورة كالحقيقة حتى لو احتججت بأي حجة! لما بين الحقيقة والخيال من فرق ظاهر مؤثر!! ، إذ هل من المعقول أن يحرم النظر إلى صورة (كاريكاتير ) امرأة !! ومقارنتها بالحقيقة!!

فأقول : إن هذا التصور وقع في نفس ما اعترض به ؟!
فقد اعترض بعدم مشابهة الخيال للحقيقة وتخطئة المقارنة! ،ثم هو وقع في نفس الخطأ واعتبر الصور على كافة أشكالها نوع واحد متشابه لا يختلف!! وهذا خطأ آخر أيضاً !
فهل صور (الكاريكتير) ــ مثلاً ــ كالصور الفوتوغرافية أو الفيديو ؟
إن من تأمل هذا يجد أنه لا مقارنة بين هذه وهذه؛ إذ إن الكاريكتير (محاكاة) للحقيقة، أما الفيديو والفوتوغرافي فهما مجرد (عكس) للحقيقة وهذا من أقوى مبررات تجويز (التصوير) ! فكيف يقارن بين هذه وهذه !
وكذلك تجد أن مشاهدة الفيديو مثلاً أو الصور الفوتوغرافية لا تختلف عن المشاهدة الطبيعية ! وتأثيرها مشابه بشكل كبير للحقيقة إن لم يزد عليه لاسيما مع التطور الكبير في عالم المؤثرات الصوتية والماكياج وغيرها ! وخير مثال هو: ما نجده من اهتمام الناس بهذه الأفلام والمسلسلات وتأثرهم بها ، حتى أصبح هذا ( الفن ) من وسائل تغيير ثقافة المجتمعات وغرس المبادئ والقيم على كافة أشكالها ، واشتهر علم بأكمله يسميه البعض (ثقافة الصورة) ! فهل بعد هذا يُقال : إن (الحقيقة تختلف عن الخيال) ولا مقارنة بينهما ؟!

* الأمر الثامن : إن الداعي لذكر هذه المسألة (وهي التفريق بين النظر إلى عورة الأجنبية في الحقيقة والخيال) عند الفقهاء أن بعضهم يرى أن الرجل إذا رأى عورة مغلظة لأجنبية عنه فإنها تحرم عليه فلا يحل له نكاحها، لذلك تشددوا في النظر المُحرِّم وقيدوه بأن يكون حقيقة لا خيالاً، لأن الأصل في مصاهرتها الإباحة ، فلا يخرج عنه إلا بأمر جلي واضح.
قال ابن عابدين رحمه الله في رد المحتار 26 / 407 : (لم أر ما لو نظر إلى الأجنبية من المرآة أو الماء، وقد صرحوا في حرمة المصاهرة بأنها لا تثبت برؤية فرج من مرآة أو ماء ، لأن المرئي مثاله لا عينه ، بخلاف ما لو نظر من زجاج أو ماء هي فيه لأن البصر ينفذ في الزجاج والماء ، فيرى ما فيه ، ومفاد هذا أنه لا يحرم نظر الأجنبية من المرآة أو الماء ، إلا أن يفرق بأن حُرمة المصاهرة بالنظر ونحوه شدد في شروطها ، لأن الأصل فيها الحل ، بخلاف النظر لأنه إنما منع منه خشية الفتنة والشهوة ، وذلك موجود هنا ، ورأيت في فتاوى ابن حجر من الشافعية ذكر فيه خلافا بينهم ورجح الحرمة بنحو ما قلناه والله أعلم).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوقفة الثامنة :


أحب أن أنبه إلى مسألة قد تختلط على البعض حين يراجع بعض كتب الفقه:
وهي أن بعض الفقهاء قال بجواز النظر إلى (وجه الأجنبية وكفيها) بشرط عدم الشهوة، أما إن كان بشهوة فيحرم.
قلتُ: وهذا مبني على قولهم واختيارهم أن (الوجه والكفين) ليسا بعورة ، أما ما كان من العورة (كالشعر والنحر) فلا يقولون بهذا التفصيل ! لأنها عورة عندهم بالاتفاق . فلا يختلط الأمر عليك أخي الكريم فإن كلامنا هنا كله في مذيعات الأخبار اللواتي يكشفن العورة المتفق عليها كـ(الشعر والنحر والساق ) . فلا ترِدُ علينا مسألة الوجه والكفين !! وليس هذا محلاً لنقاشها فالمقام لا يحتمل .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوقفة التاسعة :


إن تقييد المسألة بـ(الشهوة ) هو فيما ليس بمظنة للشهوة أما ما كان مظنة للشهوة فالأصل عدم التقييد ! لأن الشهوة ليست خادماً يُطلب ويُرفض بالاختيار، وإنما هو شيء يهجم على القلب ويستحكم فيه، وقد ينظر بادئ الأمر بحسن قصد كما يزعم! ثم يقع في قلبه ما يقع وليس بيده مدافعته، فهل إذا وقع في شراك الإعجاب بها حرمنا عليه النظر إليها!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تنبيه قبل النهاية :


الكلام هنا كله عن (مسألة النظر إلى العورات وتجويزه إذا كان لغير شهوة).

أما النظر إلى غير العورة فهو جائز بشرط عدم الشهوة وهذا لا إشكال فيه..

لأن البعض قد اعترض علي بقوله :

(وماذا عن المرأة؟ أليست الآية واضحة ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) فهل نحرم عليها مشاهدة قناة المجد لأن فيها رجال وهي مأمورة بغض البصر ؟)

وهذا الاعتراض كما ترى غير وارد هنا ، لأن الرجال الذين في (المجد مثلاً) في الغالب لم يخرجوا (عوراتهم) ! والكلام هنا عن النظر إلى العورات ! فليتنبه..!!
مع وجود الخلاف في مسألة نظر المرأة للرجل لغير حاجة .. لكن ليس هذا مكانه..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
صالح بن علي العميريني
أبو علي – بريدة
 
أعلى