أبو يوسف محمد يوسف رشيد
:: متفاعل ::
- إنضم
- 14 نوفمبر 2009
- المشاركات
- 350
- التخصص
- الفقه والأصول والبحث القرآني
- المدينة
- القاهرة
- المذهب الفقهي
- الحنفي
بسم الله الرحمن الرحيم
فلعل لصوق علم أصول الفقه بالفروعيات من الأحكام قد أدى أو ساهم في أن غفل جمهور المعاصرين عن درجة رسوخ هذا العلم كواحد من آلات ومقدمات التفسير. ولقد أدى ذلك – أي إغفال قواعد أصول الفقه - أن كان علم التفسير عند البعض ممزق الأجزاء، لا يمكن أن نرى فيه (المفسر المطرد) وهو المفسر الذي لا يمكن أن نجد له تلك التفريعات المختلفة في تفسيره، والتي تدل على عدم استيعابه للأصول، فلا توجد أصول ابتداء حتى تطرد.
ولقد كنت أقف على هذا من قبل إن استمعت إلى من يتكلم – مثلا - في الفقه، فقد رزقت طبيعة تأبة إلا أن تطرد القاعدة وتحتفظ بها وتراقبها على طول السياق ولو طال. ومن هنا فكانت تتكشف لي صور الاهتمام بـ (قراءة) أشكال المسائل، وإزحام المستمعين أو القارئين بها، بينما كانت تتهافت في ذهني تلك التزاحمات المعلوماتية، لأنه قد تكشّف كونها غير مخرجة على أصول مطردة، بل جاءت يضرب بعضها بعضا، وكان الفقه هو أبرز ما ظهر لي فيه ذلك، لأنه تخصصي الأول الذي شغلت وأنشغل به، ولأنه صاحب نصيب الأسد من علم أصول الفقه، ثم بان في في التفاسير؛ حيث يتكشّف أن المتحدث أو المؤلف هو يعتمد على (القراءة) وعلى (حشد) ذهنه بالمعلومات التي هي ناتج للأصول، ولكنه لا يضبط – بنفسه- هذه الأصول، وإنما يخدع الجماهير بكثرة ما يورده من الأقوال، ولا والله؛ لا يخدعنا بغثاء ما يجمعه من الرغاء.
إنه من رام نتائج المسائل في (الرياضيات والحساب) فمصنفات الأطفال فيها مليئة بها، ولكن الاعتبار والتقدير هو لمن يجري الحساب ويعالج المعادلة ويستنبط الناتج، فإن أخطأ هنا كان مقدرا له عمله واجتهاده، ولا ننفي عنه العقل والجهد، وأما من يحفظ الناتج متغافلا خادعا الجماهير عن أصول هذا الناتج، وهو المعادلة نفسها، فلا تقدير له عندنا، أي من هذا الاعتبار. ومثل ذلك علم أصول الفقه للفقيه والمفسر، لا يخدعنا حفظ النواتج، والاختلاف، ومن ثم الترجيح، فما يبرزه المخادع من قواعد فإننا نلزمه ونصطحبها ولا تنقطع أنفاسنا عن اصطحابها ولو طال السياق إلى ساعات وأيام وأسابيع من التحدث والتخريج أو إلى مئات من الصفحات قد سطرها، وإن كان قد ألقى القاعدة ابتاء عن جهل، أو هوى ليؤيد بها فرعا بصورة مؤقتة، فإنه مكشوف لا محالة، وستأتي قدمه مرة ومرات بلا ريب. وهنا يتعرف طالب العلم من يفيد إليه ومن لا.
وإنه لتظهر تلك الناقضات الاطرادية في جمهور المتساهلين ممن لا يعرف لهم اعتناء بالعلوم التي يتجاسرون عليها، ككثير ممن يتجاسرون على علم الفقه اليوم، ولا يعرف لهم فيه شغل ولا ثمرة، ممن يحظون بجماهيرية تسمح لهم بمساحة مفتوحة من القبول لدى شرائح كبيرة من الناس، ويساعد في ذلك ان يكون هؤلاء ممن عرفوا بنوع إخلاص أو عمل دؤوب، فيخلط الناس الأوراق ببعضها، ولا يتمكنون من الفصل بين إثبات فضيلة البعض وبين رفض كلامهم في علوم لم يعرفوا بانشغال بها، ولم تشهد لهم بها ثمرة.
وهؤلاء يتميزون – عادة – بالتعصب لما يفتون الناس به من المسائل، ويتميزون بنوع من الحماسة في غير موضعها، وسر ذلك هو أنهم لم يعرفوا مراتب المسائل وفق أصول الاستدلال، وما عرفوا مكانة المسألة من القائمة الخلافية بين أهل العلم بحق، وإنما يفتون بأقوال هم قد رأوها – مسبقا – أنها الحق، ولم تنل منهم تحقيقا، لكونهم ليسوا أهلا له، ولم يعرفوا به، فتنطلق حماساتهم بأحكام ليس من الشأن أن تطرح بذلك النوع من الحماس، ولا بتلك الصورة من الجذرية. وقد رأينا ذلك فيمن يجعلون قولهم بوجوب أن تستر المرأة وجهها هو القول الحق، وأن المخالف هو داعية شر، ويتناولن الخلاف بسلوك لا يليق إلا مع خلاف غير سائغ، ورأيناه فيمن يعتبرون تقصير الثياب معيارا للاتباع والاستقامة على السنة، فتلك من أماراتهم. وهو لا ينتج عن تحقيق وطلب للعلم ودراسة، وإنما ينشأ ابتداء عن النظر وفق مقررات سابقة للأحكام، يحكمون بها وفق اتباعهم وتعصبهم لأفراد أو تجهات بعينها، وهذا لا ينفق ولا يروج في سوق العلم كما هو بديهي.
إن علم أصول الفقه، ورغم لصوقه بفروعيات الأحكام، إلا أنه آله رئيسة للمفسر، والعجب ممن يفسّر القرآن فيسير فيه وفق عرض الأقوال بجزئياتها التي يقرأها ولا يملك قواعد يطرد بها على طول كلام الله سبحانه، إن هذا لا يعد مفسرا، هو ناقل لما في الكتب، وحينما أقابل مثل ذلك فإنني أفضّل استهلاك الوقت في قراءة كتاب من كتب التفسير التي يعتمد المفسر المزعوم عليها في إلقاءاته، فلا مطمع لي في (ترجيحاته).
يقول الإمام المفسر ابن جزي الكلبي في مقدمة التسهيل وفي معرض بيان العلوم التي يحتاجها المفسر :
(.. وأما أصول الفقه، فإنها من أدوات تفسير القرآن، على أن كثيرا من المفسرين لم يشغلوا بها، وإنها لنعم العون على فهم المعاني وترجيح الأقوال. وما أحوج المفسر إلى معرفة النص والظاهر والمجمل والمبين والعام والخاص والمطلق والمقيد وفحوى الخطاب ولحن الخطاب ودليل الخطاب وشروط النسخ ووجوه التعارض وأسباب الخلاف وغير ذلك من علم الأصول..)
فأصول التفسير لا تقتصر على مادة يصطلح عليها بـ (أصول التفسير) وإنما هي مجموعة من العلوم منها أصول الفقه واللغة والنحو. فمن رام الوقوف على الحق في تلك المناصب العلمية، فلها شروطها، ولها مقدماتها، ولن ينفعنا تجاهلها لكونها لن تنطبق إلا على من هم أندر من الكبريت البنفسجي، أو على من لا وجود لهم؛ فلن يغير الإنكار شيئا، وإنه لو فعلنا ذلك فقد كذبت إشاعة دفن النعامة راسها في التراب وصحت فينا. وأما من رام راحته النفسية، وأن يتمرمغ في العلماء الفقهاء المفسرين، وأن يراهم أينما حل، فليحل قيود أهل العلم من عقالها، وليعد نسجها بخيالها دونما قيد، ولن نكذبه – حينها – لو ادعى مصاحبة ابن جرير العصر، وقرطبي المصر، وابن همام الزمان، وسيوطي الأوان، وأئمة الإنس والجان، فالخيال بلا لجام خيّال.
وإلى الله الضراعة بإصلاح الحال، وأن يرزقنا حسن الخاتمة وأمين المآل.