العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

( الحر بالحر والعبد بالعبد ) إشكال وجوابه

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
قال الله تعالى: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاص فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) {البقرة:178}
الإشكال الذي أورده بعضهم: لمَ لا يُقتَل العبد الذي قَتَلَ حراً؟؟ والرجل الذي قتل أنثى؟؟

الجـواب: أن هذه الإيراد غلط من قائله، وسيتبين وجه غلطه فيما يلي:

أولاً:
سبب نزول الاية، ان قبيلتين من العرب اقتتلتا، فقالت احداهما‏:‏ نقتل بعبدنا فلان ابن فلان، وباَمتنا فلانة بنت فلان تطاولا منهم عليهم، وزعمًا ان العبد منهم بمنزلة الحر من اولئك، وان اُنثاهم ايضًا بمنزلة الرجل من الاخرين تطاولًا عليهم، واظهارًا لشرفهم عليهم.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان: فالجميع متفق على ان سبب نزولها ان قومًا يتطاولون على قوم، ويقولون‏:‏ ان العبد منا لا يساويه العبد منكم، وانما يساويه الحر منكم، والمراة منا لا تساويها المراة منكم، وانما يساويها الرجل منكم، فنزل القران مبينًا انهم سواء، وليس المتطاول منهم على صاحبه باشرف منه، ولهذا لم يعتبر مفهوم المخالفة هنا‏.‏ أهـ

ثانياً:
أقول: إن هذا الإشكال غير وارد لأنه مبني على اعتبار مفهوم يصادم صريح القرآن والسنة المستفيضة.

وأظهر الأقوال في هذه الآية أن المراد بالقصاص المكتوب هنا: أن لا يتجاوز وليُّ القتيل في الاستيفاء فيقتل بالعبد المقتول حراً غير جانٍ ولا قاتل ظلماً وعدواناً.

قال ابن جرير الطبري في تفسيره:
فَإِنْ قَالَ قَائِل : أَفُرِضَ عَلَى وَلِيّ الْقَتِيل الْقِصَاص مِنْ قَاتِل وَلِيّه ؟
قِيلَ : لَا ; وَلَكِنَّهُ مُبَاح لَهُ ذَلِكَ , وَالْعَفْو , وَأَخْذ الدِّيَة .

فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَكَيْفَ قَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاص } ؟
قِيلَ : إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى خِلَاف مَا ذَهَبْت إلَيْهِ , وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ : يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاص فِي الْقَتْلَى , الْحُرّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبْدِ , وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى . أَيْ أَنَّ الْحُرّ إذَا قَتَلَ الْحُرّ , فَدَم الْقَاتِل كُفْء لِدَمِ الْقَتِيل , وَالْقِصَاص مِنْهُ دُون غَيْره مِنْ النَّاس , فَلَا تُجَاوِزُوا بِالْقَتْلِ إلَى غَيْره مِمَّنْ لَمْ يَقْتُل فَإِنَّهُ حَرَام عَلَيْكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا بِقَتِيلِكُمْ غَيْر قَاتِله.وَالْفَرْض الَّذِي فَرَضَ اللَّه عَلَيْنَا فِي الْقِصَاص هُوَ مَا وَصَفْت مِنْ تَرْك الْمُجَاوَزَة بِالْقِصَاصِ قَتْل الْقَاتِل بِقَتِيلِهِ إلَى غَيْره، لَا أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْنَا الْقِصَاص فَرْضًا وُجُوب فَرْض الصَّلَاة وَالصِّيَام حَتَّى لَا يَكُون لَنَا تَرْكه , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فَرْضًا لَا يَجُوز لَنَا تَرْكه لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء } مَعْنَى مَفْهُوم , لِأَنَّهُ لَا عَفْو بَعْد الْقِصَاص فَيُقَال : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء .أهـ
قلت: رحم الله الإمام ابن جرير فقد جاء بما يُشَد به العضد.

قال رحمه الله:
( فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَإِنَّهُ تَعَالَى ذِكْره قَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاص فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } فَمَا لَنَا أَنْ نَقْتَصّ لِلْحُرِّ إلَّا مِنْ الْحُرّ , وَلَا لِلْأُنْثَى إلَّا مِنْ الْأُنْثَى ؟
قِيلَ : بَلْ لَنَا أَنْ نَقْتَصّ لِلْحُرِّ مِنْ الْعَبْد وَلِلْأُنْثَى مِنْ الذَّكَر , بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } 17 33 وَبِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيض عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ " .

فَإِنْ قَالَ : فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ , فَمَا وَجْه تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة ؟
قِيلَ : اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي قَوْم كَانُوا إذَا قَتَلَ الرَّجُل مِنْهُمْ عَبْد قَوْم آخَرِينَ لَمْ يَرْضَوْا مِنْ قَتِيلهمْ بِدَمِ قَاتِله مِنْ أَجْل أَنَّهُ عَبْد حَتَّى يَقْتُلُوا بِهِ سَيِّده , وَإِذَا قَتَلَتْ الْمَرْأَة مِنْ غَيْرهمْ رَجُلًا لَمْ يَرْضَوْا مِنْ دَم صَاحِبهمْ بِالْمَرْأَةِ الْقَاتِلَة , حَتَّى يَقْتُلُوا رَجُلًا مِنْ رَهْط الْمَرْأَة وَعَشِيرَتهَا , فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة , فَأَعْلَمهُمْ أَنَّ الَّذِي فُرِضَ لَهُمْ مِنْ الْقِصَاص أَنْ يَقْتُلُوا بِالرَّجُلِ الرَّجُل الْقَاتِل دُون غَيْره , وَبِالْأُنْثَى الْأُنْثَى الْقَاتِلَة دُون غَيْرهَا مِنْ الرِّجَال , وَبِالْعَبْدِ الْعَبْد الْقَاتِل دُون غَيْره مِنْ الْأَحْرَار , فَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَعَدَّوْا الْقَاتِل إلَى غَيْره فِي الْقِصَاص)

ثم ذكر من قال هذا القول..إلى أن قال:
(وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ بَيِّنًا أَنَّ الْآيَة مَعْنِيّ بِهَا أَحَد الْمَعْنَيَيْنِ الْآخَرَيْنِ : إمَّا قَوْلنَا مِنْ أَنْ لَا يَتَعَدَّى بِالْقِصَاصِ إلَى غَيْر الْقَاتِل وَالْجَانِي , فَيُؤْخَذ بِالْأُنْثَى الذَّكَر , وَبِالْعَبْدِ الْحُرّ . وَإِمَّا الْقَوْل الْآخَر وَهُوَ أَنْ تَكُون الْآيَة نَزَلَتْ فِي قَوْم بِأَعْيَانِهِمْ خَاصَّة أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَل دِيَات قَتْلَاهُمْ قِصَاصًا بَعْضهَا مِنْ بَعْض , كَمَا قَالَهُ السُّدِّيّ وَمَنْ ذَكَرْنَا قَوْله وَقَدْ أَجْمَع الْجَمِيع لَا خِلَاف بَيْنهمْ عَلَى أَنَّ الْمُقَاصَّة فِي الْحُقُوق غَيْر وَاجِبَة , وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللَّه لَمْ يَقْضِ فِي ذَلِكَ قَضَاء ثُمَّ نَسَخَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ , وَكَانَ قَوْله تَعَالَى ذِكْره : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاص } يُنْبِئ عَنْ أَنَّهُ فَرْض كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْقَوْل خِلَاف مَا قَالَهُ قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة , لِأَنَّ مَا كَانَ فَرْضًا عَلَى أَهْل الْحُقُوق أَنْ يَفْعَلُوهُ فَلَا خِيَار لَهُمْ فِيهِ , وَالْجَمِيع مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ لِأَهْلِ الْحُقُوق الْخِيَار فِي مُقَاصَّتهمْ حُقُوقهمْ بَعْضهَا مِنْ بَعْض , فَإِذَا تَبَيَّنَ فَسَاد هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذَكَرْنَا , فَالصَّحِيح مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ هُوَ مَا قُلْنَا).

فانتفى الإشكال من أساسه؛ لأنه بني على مفهوم غير مراد من الآية، والحمد لله رب العالمين.
 
التعديل الأخير:
إنضم
2 يوليو 2008
المشاركات
2,237
الكنية
أبو حازم الكاتب
التخصص
أصول فقه
المدينة
القصيم
المذهب الفقهي
حنبلي
جزيتم خيرا شيخنا الكريم
وثمة جواب آخر وهو أن الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة المائدة : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) ذكر هذا أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ونقله بإسناده عن ابن عباس لكن إسناده ضعيف .
ورواه أبو عبيد في ناسخه وابن جرير في تفسيره من وجه آخر بإسناد صحيح لكن بلفظ مغاير ولفظه : " عن ابن عباس قوله:"والأنثى بالأنثى" وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله تعالى:"النفس بالنفس"، فجعل الأحرار في القصاص سَواءً فيما بينهم، في العمد رجالهم ونساؤُهم، في النفس وما دون النفس. وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد، في النفس وما دون النفس، رجالهم ونساؤُهم "
فذهب بعض العلماء إلى أن آية المائدة مفسرة للآية التي في البقرة وهذا ما اختاره أبو عبيد القاسم بن سلام في ناسخه وقال : الآيتان محكمتان وكذا مكي في الإيضاح وقال ابن الجوزي عن القول بالنسخ : " ليس بشيء " ثم رده من وجهين .
وعليه فمراد ابن عباس - رضي الله عنهما - بالنسخ في الأثر الآخر - إن صح - النسخ عند السلف إذ النسخ عند السلف يشمل :
1 - بيان المجمل وتفسيره ( لأن البيان هو إزالة لمعاني المجمل سوى المعنى الراجح )
2 - تخصيص العام ( لأن التخصيص إزالة لأفراد العام غير المرادة ) .
3 - تقييد المطلق ( لأن التقييد إزالة لأفراد المطلق غير المرادة ) .
4 - إزالة الحكم بالكلية وهو النسخ في اصطلاح المتأخرين وهو " رفع الحكم الثابت المتقدم بحكم متراخ عنه " .
وذلك أن النسخ هو الإزالة والإزالة قد تكون جزئية كما في الأقسام الثلاثة الأولى ، وقد تكون كلية كما في القسم الرابع ، وهو اصطلاح المتأخرين ، وكثيرا ما يطلق السلف لفظ النسخ ويريدون به الأقسام الثلاثة الأولى لا الرابع وهو اصطلاح المتأخرين ، ومن هنا يقع الخطأ عند كثير من المتأخرين حينما يحمل اصطلاح السلف على اصطلاح المتأخرين وهذا خطأ قد نبه إليه المحققون كابن تيمية وابن القيم وهو حمل نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف على اصطلاحات المتأخرين .
وهذا الإطلاق عند السلف هو ما يفسر ضخامة بعض كتب الناسخ والمنسوخ مع أن النسخ في اصطلاح المتأخرين قليل جدا في القرآن الكريم وذلك أنهم أدرجوا فيها النسخ بإطلاقاته السابقة .
 
التعديل الأخير:

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
جزاكم الله خيراً شيخنا المفضال على الإضافة الحسنة الماتعة للموضوع
 

انبثاق

:: مخضرم ::
إنضم
5 يونيو 2010
المشاركات
1,228
التخصص
الدراسات الإسلامية..
المدينة
بريدة
المذهب الفقهي
حنبلي
جزاكما الله خيرا
 
أعلى