د.محمود محمود النجيري
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 19 مارس 2008
- المشاركات
- 1,171
- الكنية
- أبو مازن
- التخصص
- الفقه الإسلامي
- المدينة
- مصر
- المذهب الفقهي
- الحنبلي
(ملخص الرسالة)
اختيارات ابن القيم الفقهية
في النكاح والطلاق
اختيارات ابن القيم الفقهية
في النكاح والطلاق
عنوان هذا البحث: "اختيارات ابن القيم الفقهية في النكاح والطلاق"، وهو ينتمي إلى ميدان الدراسات الفقهية المقارنة، وخصوصًا قضايا الخلاف الفقهي. وما أكثر المسائل التي اختلف فيها الفقهاء نتيجة لاختلاف النظر؛ وتنوع الاجتهاد! وكان لابن القيم اجتهاده الفقهي في الترجيح والاختيار.
ونقصد بالاختيار: إلحاق المجتهد- الموافق لمذهب من المذاهب الفقهية المستقرة- حكمًا بمسألة يتجاذبها حكمان أو أكثر في هذه المذاهب.
وهذا يعني أن الاختيار نوع اجتهاد؛ لأنه وقوف على الأقوال المتنازعة في المسألة، ودراسة لأدلتها وتوجيهها، ومعرفة الأقوى، والأنسب، والأصلح.
أهداف البحث:
يمكن صياغة أهداف هذا البحث فيما يلي:
1. يحاول الباحث أن يضع دراسة أصولية لمفهوم الاختيار الفقهي.
2. الكشف عن جانب من جوانب شخصية ابن القيم العلمية، وهو الجانب الفقهي، وذلك بما قدمه من دراسات شرعية، وترجيحات واختيارات في الميدان الفقهي في النكاح وما يتعلق به.
3. استعراض أهم المشكلات والقضايا الفقهية التي ثار حولها الخلاف في عصر ابن القيم، والعوامل التي دفعته للاجتهاد في معالجتها، والمصادر الفقهية وغير الفقهية التي اعتمد عليها، وذلك في مسائل الزواج، والطلاق، والخلع، والفسخ والعدد.
4. دراسة جهود ابن القيم في هذا الميدان الفقهي دراسة تحليلية ناقدة، تحدد القيمة العلمية لعمله الفقهي، وتبرز مكانته بين غيره من الفقهاء الأعلام السابقين واللاحقين.
5. معرفة المنهج الفقهي الذي تبعه ابن القيم في التعامل مع الأمور المستحدثة في عصره، والقضايا الاجتماعية التي عالجها معالجة فقهية، والخلافات الفقهية التي حاول الخروج منها، والوقوف على ضوابط هذا المنهج وخصائصه.
6. تمييز أنواع الاختيارات الفقهية لابن القيم بعضها عن بعض في أحكام النكاح وما يتعلق به، فمنها اختيارات يخالف فيها ابن القيم جمهور الفقهاء، واختيارات خالف بها المذاهب الأربعة، واختيارات من غير المشهور عن أحمد وافق فيها بعض الأئمة الأربعة، واختيارات من غير المشهور في المذهب الحنبلي، واختيارات خالف بها كل من: ابن تيمية، وابن حزم.
7. وضع خلاصة للإرشاد لإعداد مشروع قانون مفصَّل للأحوال الشخصية.
أهمية البحث:
صحيح أن الناس استفادوا كثيرًَا من فقه ابن القيم وخصوصًا كتاب "زاد المعاد"، وصحيح أن كتبه واسعة الانتشار، أتيح لأكثرها التحقيق العلمي، وأكيد أن القانون في بلادنا استفاد في دور من أدواره من هذا الفقه في بعض مواده، ولكني أرى أن الاستفادة الأكبر من فقه ابن القيم لم تتحقق بعد، فهو فقيه أولا قبل كل شيء، وجهده الأكبر يأتي في ميدان الفقه، ولكن جهده الفقهي يتوزع بين كتبه المختلفة، وهو يستطرد أحيانًا، ويختصر أحيانًا أخرى، ويبسط المسألة في موضع، ويختصرها في موضع آخر، ولو تهيأ لفقهه من يجمعه، ويدرسه دراسة فاحصة، ويخرج لنا باختياراته مجردة؛ لتيسر الاستفادة من اجتهاد هذا العلم الفذ، وخصوصًا في صياغة قوانين الأحوال الشخصية في بلادنا.
ويفيد بحثنا هذا في إعطاء صورة كلية لاختيارات ابن القيم في الزواج والطلاق، لا نغفل شيئًا من ذلك، وصياغتها صياغة قانونية، ودراسة من وافق ومن خالف في هذه الاختيارات، ولماذا اختارها ابن القيم؟ واتفاق الباحث، أو اختلافه مع هذه الاختيارات.
ولا يكتفي البحث بعرض اختيارات ابن القيم، ولكنه يضعها في سياقها التاريخي، مبينًا أهميتها وتأثيراتها في اللاحقين، وتطور الفكر الفقهي، وتطور التقنين، وتجديد الفقه، وما عليه العمل. ويظهر هذا في مسائل أكثر من غيرها، كالحلف بالطلاق، والطلاق المعلق، وإيقاع الطلاق في العدة تلو الطلاق، والطلاق المتعدد لفظًا أو إشارة.
والمقارنة بين الحكم الذي اختاره ابن القيم، والحكم الذي أخذت به القوانين الوضعية تفيد في الوقوف على الأساس الفقهي لهذا الحكم، ووصل الحكم الوضعي بأصل شرعي. كما تفيد في معرفة المخالفات الموجود في القوانين الوضعية للمصلحة الاجتماعية، حتى ننظر في تعديلها، أو استبدالها بما يتفق مع الشريعة الإسلامية.
وللبحث أهمية في تجديد الفقه وإحياء الاجتهاد في زمن الجمود الفكري، ولابن القيم فضل كبير في هذا الميدان، حيث كان حركة دائبة، ونشاط لا يني للإصلاح والتجديد، والعودة بالدين وحياة المسلمين إلى صفاء ما كان عليه السلف الصالح؛ لذا اصطدم بالجامدين والمقلدين، والمبتدعة والمنحرفين، والغلاة، والمشعوذين. وفي فقه الأسرة خصوصًا كانت له نظرات تجديدية لا تزال أصداؤها تتجاوب في حياتنا الاجتماعية، وقوانين الأحوال الشخصية في بلادنا. وخصوصًا في مسائل الطلاق. فقد خالف فقهاء عصره من منطلق الإصلاح والنظر الحر، ومراعاة المقاصد الشرعية، وتحقيق المصلحة الاجتماعية، والتيسير على الناس؛ فذهب إلى أن كثيرًا مما تعده المذاهب طلاقًا- لا يقع، كطلاق الحائض، وطلاق الحالف، والطلاق المتعدد، والطلاق المعلق، والطلاق يتبع الطلاق في العدة، وطلاق الغضبان والسكران، وتحريم الزوجة.
خطة البحث:
انقسم البحث إلى خمسة أبواب، عدا المقدمة، والتمهيد.
في التمهيد درست مفهوم الاختيار الفقهي، وأدوار الفقه الإسلامي حتى عصر ابن القيم، وأحكام الأسرة في مؤلفات ابن القيم الفقهية.
وفي الباب الأول درست اختيارات ابن القيم في النكاح.
واحتوي على ثلاثة فصول:
* الفصل الأول- الاختيارات في عقد النكاح:
• المبحث الأول: اختياراته في موانع عقد النكاح.
• المبحث الثاني: اختياراته في الشروط في النكاح.
• المبحث الثالث: اختياراته في كيفية عقد النكاح.
* الفصل الثاني- الاختيارات في أركان النكاح، والأنكحة المنهي عنها:
• المبحث الأول: اختياراته في الولاية في النكاح.
• المبحث الثاني: اختياراته في المهور.
• المبحث الثالث: اختياراته في الأنكحة المنهي عنها.
*الفصل الثالث: الاختيارات في عشرة النساء.
وفي الباب الثاني درست اختيارات ابن القيم في الطلاق.
وانقسم إلى ستة فصول:
• الفصل الأول: اختياراته في النية، والشهادة، والكتابة في الطلاق.
• الفصل الثاني: اختياراته في الشك في الطلاق.
• الفصل الثالث: اختياراته في التخيير، والتوكيل في الطلاق.
• الفصل الرابع: اختياراته في الطلاق البدعي.
• الفصل الخامس: اختياراته في الحلف بالطلاق، وتعليقه.
• الفصل السادس: اختياراته في حكم أنواع من الطلاق بالنسبة إلى حال المطلِّق.
وفي الباب الثالث درست اختيارات ابن القيم في الخلع، والفسخ، والعدة، والرجعة.
وانقسم إلى أربعة فصول:
• الفصل الأول: الاختيارات في الفسخ.
• الفصل الثاني: الاختيارات في الخلع.
• الفصل الثالث: الاختيارات في العدة والاستبراء.
• الفصل الرابع: الاختيارات في الرجعة.
وفي الباب الرابع درست ابن القيم فقيهًا وأصوليًا.
واحتوي على فصلين:
* الفصل الأول- ابن القيم فقيهًا:
• المبحث الأول: سمات شخصيته العلمية.
• المبحث الثاني: منهجه الفقهي.
• المبحث الثالث: خصائص فقهه.
* الفصل الثاني- ابن القيم وعلم أصول الفقه:
• المبحث الأول: دراسة ابن القيم لأصول الفقه.
• المبحث الثاني: ابن القيم المجتهد المطلق.
• المبحث الثالث: الاجتهاد المقاصدي عند ابن القيم.
وفي الباب الخامس درست القيمة العلمية لاختيارات ابن القيم الفقهية في الزواج والطلاق.
وجاء ذلك في فصلين:
الفصل الأول- ابن القيم والخلاف العالي:
• المبحث الأول: ابن القيم والجمهور- الاتفاق والاختلاف.
• المبحث الثاني: ابن القيم وفقه المذاهب الأربعة.
• المبحث الثالث: ابن القيم والمذهب الحنبلي- الاتفاق والاختلاف.
• المبحث الرابع: اختيارات الزواج والطلاق بين ابن تيمية وابن القيم.
• المبحث الخامس: اختيارات الزواج والطلاق بين ابن القيم وابن حزم.
الفصل الثاني: أثر ابن القيم في القوانين واللاحقين:
• المبحث الأول: أثر ابن القيم في القوانين.
• المبحث الثاني: أثر ابن القيم في اللاحقين.
• المبحث الثالث: ترجيحات الباحث المخالفة لابن القيم.
وفي الخاتمة أجملت النتائج التي توصل إليها البحث، وقدمت مقترحات محددة، منها مواد معينة في صياغة قانون مفصل للأحوال الشخصية في مصر؛ أرجو أن تأخذ حقها من الدراسة، سواء مني، أو من غيري من الباحثين. وعلى أمل أن يسهم بحثي في إنارة الطريق نحو قوانين أفضل وأوسع في الأقطار الإسلامية.
النتائج:
يمكن القول إن بحثنا هذا تمخض عن النتائج الأساسية التالية:
عاش الإمام ابن قيم الجوزية في مرحلة فقهية عرفت بازدهار الفقه المذهبي، وانتشار الاجتهاد في إطار المذهب، لا في إطار الشريعة الواسع. وفيها اشتغل الفقهاء بتنظيم مذاهبهم، والتأليف فيها، وتصنيف الموسوعات الفقهية، ووضع المتون والشروح والحواشي وكتب الأصول. فانحصرت جهود الفقهاء في مذاهبهم. وقليل منهم جدًا الذي اهتم بالخلاف العالي. وهيأت لهم قدراتهم العلمية وملكاتهم الفقهية الاختيار في المسائل المختلف فيها بين المذاهب، والترجيح بين الأقوال المتعارضة والأدلة. ومن هذا القليل ابن القيم.
أما ابن القيم فهو ذو طبيعة محبة للجدال والتفريع والتقسيم وإيراد الحجج. وله ولع خاص بهذا. وزاده ما غصَّ به العصر من جدال ومناظرة في الفقه والكلام والأديان، إضافة إلى عقل ثاقب، وخيال متدفق، فهو يجمع بين أدلة العقل والنقل، وما تؤيده الفطرة والحس بالواقع. ويستفيد من ثقافته الواسعة المحيطة بكثير من علوم عصره، يسعفه في ذلك بديهة حاضرة، وفقه نفس، وقدرة فذة على الاستنباط والترجيح؛ حتى إنه يميل كثيرًا إلى حلِّ الإشكالات التي اختلف العلماء حولها. وله عمق في المقارنة بين المذاهب، والإحاطة بأقوال الصحابة والتابعين وأئمة هذا الشأن. يتجلى ذلك فيما قدمه من دراسات فقهية مقارنة في كتبه، وما ذهب إليه من اختيارات بعد بحث فاحص مستفيض، تظهر فيه قدراته الفقهية الفريدة، وعقليته الجبارة.
وتميُّزُ ابن القيم في هذا العلم يظهرُ من شهادات معاصريه أو اللاحقين له، ومن خلال ترجمته التي تظهر أخذه هذا العلم عن فطاحل علماء عصره، وساعد في إجادته: ملكاته الذاتية، ومواهبه القوية التي وفرت له التضلع في العلوم الشرعية وما يحف بها ويخدمها، وكذلك نشأته في بيت علم وفضل هيَّأ له التفرغ للتحصيل والدرس. وقد وفر العصر بمؤسساته العلمية والتعليمية، ومكتباته وحركته العلمية النشطة، وما فيه من جدل علمي، وصراع مذهبي، ومدارس فكرية- ما حفزه للتحصيل والبحث والجدل والمناظرة والتأليف والمساجلات. كما أن المجتمع في عصره كان يعاني انحدارًا نتيجة لهجمات الصليبيين والتتار، مما فسح المجال واسعًا للدعوة للإصلاح الديني والاجتماعي. وقد كان ابن القيم رائدًا في كل ذلك؛ فبذل الوسع: معلمًا، وإمامًا، ومفتيًا، ومصنفًا، ومجادلا، ومناظرًا، ومصلحًا.
منهج ابن القيم الفقهي:
وضح من البحث أن ابن القيم ليس مقصده وضع مصنف فقهي مبسوط في المسائل الفقهية؛ ولكن معالجة المسائل الخلافية وغير الخلافية أحيانًا مما له فيه ملمح خاص، أو نظر في توجيه الحكم الشرعي؛ وبيان حكمته والمصلحة فيه، وخصوصًا أنه سُبق بمبسوطات في الفقه وضعها المتقدمون كثيرة جدًا، حتى إن علماء عصره، وبعض من سبق ومن لحق، لم يجدوا لهم دورًا إلا الاختصار لهذه المبسوطات والتهذيب لها؛ ولم تتفتح قرائحهم عن جديد في هذا العلم الذي نضج كثيرًا حتى اقتصر المتأخرون فيه على وضع الحواشي والتعليقات.
ومنهج ابن القيم في هذا الجانب- مثل شيخه ابن تيمية- محاولة الإتيان بجديد، ليس لمجرد أنه جديد، ولكن التجديد من منطلق منهجي علمي وديني شرعي، يجعل الفقه متجددًا بتجدد الحياة، وواضعًا للقانون الذي تسير عليه، لذلك لم يشغل كل منهما نفسه بوضع الحواشي، أو المختصرات، أو التعليقات والشروح؛ إلا شرح ابن تيمية لقطعة من "محصول" الفخر الرازي، وتهذيب ابن القيم لسنن أبي داود. وحتى في هذه الحالة كان كل منهما مختلفًا عن علماء عصره التقليديين.
لا يرى ابن القيم فائدة من تكرار ما ذكره السابقون، بل إن العالم يجب أن ينظر في النصوص والأدلة نظرًا موضوعيًا منطلقًا من أسر التقليد الأعمى والتقديس للمذاهب القائمة؛ رغبة في بيان الحق الذي فيه العلاج للمشكلات والتيسير على الأمة.
ورأينا من خلال البحث ابن القيم يسير في دراسته للاختيارات الفقهية على ما يلي من خطوات:
1- يترجم للمسألة أو الفصل بما يوضح الحكم الذي اختاره مؤيدًا بالدليل غالبًا.
2- ينطلق بداية من النصوص الشرعية، وليس من المذاهب الفقهية؛ فيذكر الدليل، ويستنبط منه الحكم الشرعي؛ موضحًا قوته من ضعفه، وصحته من بطلانه. وما فيه من أسرار وحكم. ويقف عند ظاهر النص فلا يتعداه، يساعده بصر كبير بالنصوص رواية ودراية، فهو أحد الحفاظ، وأئمة الحديث والتفسير.
3- ذكر مذاهب العلماء في المسألة، وحجة كل مذهب وأدلته، غير مقتصر على مذاهب الأئمة الأربعة؛ فيبدأ بمذاهب فقهاء الصحابة والتابعين أولا، ثم مذاهب الفقهاء من تابعي التابعين، ومعهم الأئمة الأربعة. ويدقق في نسبة الأقوال إلى أصحابها، ودلالة ما فيها.
4- مناقشة أدلة كل فريق، والترجيح بينها، فلا يكتفي بالعرض. وإنما يبين صحيحها من سقيمها، وما فيها من خلافات مذهبية، وحجج كل فريق، وما ردَّ به كل فريق حجج الآخر. ويعلل لاختياره ما يراه صحيحًا منها، ويرد على المخالف، وقد يذكر من وافق ومن خالف ما ذهب إليه.
5- تأكيد الحكم الذي أثبته أولا بمزيد من النصوص والحجج. ويؤيد اختياره بالقياس، وبيان حكمة التشريع غالبًا.
ومنهج تقديم النصوص والاستنباط منها، واتباع ذلك بأدلة الفقه الأخرى، ودراسة المذاهب وأدلتها والترجيح بينها، هو منهج مسبوق لأستاذه ابن تيمية وغيره من فقهاء الإسلام الأعلام، ولكن ابن القيم كان أصيلا في تطبيقه؛ باعتباره مجتهدًا مطلقًا مجددًا، محيطًا بالنصوص، متمكنًا من أدلة الفقه، قديرًا في الاستنباط، بصيرًا بمقاصد الشرع وأسراره.
خصائص فقه ابن القيم:
1. فقه غير مذهبي، لا يتعصب لمذهب، وإن نشأ صاحبه حنبليًا، محبًا لأحمد وأصحابه إلا أنه لا يتحرج من مخالفته متى بان له الحق في خلافه. فيدرس دراسة منهجية، قد يخالف فيها المذهب الحنبلي أو غيره من مذاهب الفقهاء المتقدمين والمتأخرين.
2. فقه مقارن، يدرس المذاهب الأربعة، ومذاهب الصحابة والتابعين.
3. فقه سلفي: فقه الكتاب والسنة، واتباع السلف الكرام. يقدم الأقرب فالأقرب إلى النبيïپ²؛ فيجعل الصحابة في القمة، ثم بعدهم تابعيهم، ثم تابعي التابعين، ثم الأئمة الأربعة ومن في رتبتهم، كإسحق بن راهويه، والأوزاعي، والليث بن سعد. ثم على قدمهم المنصفين من أتباعهم.
4. فقه حي مرن، لا جمود فيه، ولا ظاهرية، يعتبر النيات والمقاصد، ويسد الذرائع، ويعتمد اجتهاد الرأي إن غاب النص. ويعتبر القرائن وشواهد الحال، والعرف الصالح. ولا يُحّرِّم إلا بنص قطعي الثبوت والدلالة. ويتسع في حرية المعاملات وإطلاق الشروط العقدية؛ أخذًا بالبراءة الأصلية في الاستصحاب.
5. فقه حي واقعي، يربط بين النص والواقع، فيعرض واقع المشكلة، ويصورها في كثير من الأحيان؛ ثم يستنبط من النص ما يصلح مشكلات الحياة. فمما لديه من معرفة بمصالح الناس وحاجاتهم، وعلم بأصول الفقه ونصوص الشريعة- قرَّبَ الفقه من واقع الحياة ومصالح الناس؛ وعمل على تحقيق المعاني الشرعية التي شرعت لها الأحكام.
6. فقه مصلحي، يراعي المقاصد وعلل الأحكام التي اعتبرها الشرع، ويبحث في أسرار الشريعة. ويهدف إلى تحصيل المصالح وتتميمها، ودرء المفاسد وتقليلها، وتحقيق العدالة بين الناس.
7. العناية بعظام المسائل التي يحتاجها الناس، دون شواذها، وبعيد الوقوع، والتوسط في الفقه الافتراضي.
أصول الفقه عند ابن القيم:
أظهر البحث أن ابن القيم كان مجتهدًا في الأصول كما كان مجتهدًا في الفروع، وقد بنى فقهه على المصلحة، يعلل بها الأحكام، ويجعلها مناط الحُكم في القياس. ولا يقدح في هذا أن ابن القيم وافق شيخه ابن تيمية في اعتبار أن الوصف المؤثر في الحكم هو الحكمة، ويعني بها الوصف المناسب الذي يتفق مع أهداف الشارع العامة، وهي جلب المصالح، ودفع المضار. وعلى هذا بنيا القياس الفقهي. لا على العلة المشتركة بين الأصل والفرع، كما فعل غيرهما من الفقهاء؛ وذلك لأن اتفاقهما هو عن توافق، وليس عن تقليد.
وهذا القياس المصلحي من شأنه أن يكشف مرامي الشارع في كل حكم، ويوضح الأهداف العامة للشريعة الإسلامية، ويُعيِّن المقاصد الشرعية في الجزئيات والكليات معًا.
وأدمج ابن القيم المصالح في القياس باعتبار ذلك من الرأي، فوسع أفق القياس، وربطه بمصالح الناس. وجعل كل مصلحة داخلة في أقيسته، وعزز ذلك بالنصوص التي يحيط بها إحاطة واسعة.
وكشف ابن القيم توافق النصوص والمصالح، وبرهن كثيرًا على أنه لا يوجد قياس صحيح على خلاف نص صريح. وأن الشريعة تستغرق جميع الوقائع، وفي كمالها لا تحتاج إلى سواها. وتقوم بجميع مصالح العباد، في كل مكان وزمان. وحيثما أسفر الحق وظهرت المصلحة، فثم شرع الله. فالشريعة عدل كلها، ومصالح كلها. وكل ما خرج من المصلحة إلى المفسدة، فليس من الشريعة، وإن أدخل فيها بالتأويل.
وأصول الفقه عند ابن القيم هي:
1. النصوص من الكتاب والسنة.
2. الإجماع. ويعني إجماع الصحابة.
3. قول الصحابي إن كان في المسألة قول له- ولا يوجد غيره، خلافًا أو اتفاقًا- أخذ به.
4. القياس، ويشمل الاستحسان.
ولا يميل ابن القيم للاستحسان، ولا ينكره دليلا فقهيًا. ولكنه يأخذه بمفهوم خاص، لا يوافق به مفهوم الحنفية، ولا يتوسع في استخدامه. ويأخذ بالاستحسان الذي لا يبطل نصًا، ويمنع القياس على نص قياسًا يبطل به نصًا آخر، فالأقيسة تطرد باطراد عللها. والنصوص تحكم على الأقٌيسة دون العكس ولا يكون الحديث على خلاف الأصول، لأن الحديث أصل بنفسه، يُقاس عليه.
5. المصالح المرسلة، وتدخل عند ابن القيم في القياس الواسع المصلحي، ونعني به قياس مصلحة كلية حادثة، لا يُعرف لها حكم، على مصلحة كلية ثابت اعتبارها في الشريعة باستقراء أدلة الشرع.
6. الاستصحاب.
7. سد الذرائع.
8. العرف.
وهذه الأصول التي اختارها ابن القيم طريقًا لاستنباط الأحكام، وإن لم تكن جديدة في جملتها إلا أنه كان له تميزه في إعمالها وتنزيلها على الوقائع، فلم يكن في اختيارها تابعًا لغيره، كما لم يكن فيما وصل إليه منها تابعًا لغيره. بل له فوق ذلك فضل تحرير أصول مذهب أحمد، وأصول الفقه الإسلامي وكثير من قواعد الشريعة.
ابن القيم المجتهد المطلق:
ابن القيم إمام مجتهد، سواء قلنا: إنه مجتهد مطلق مستقل، أو مجتهد في إطار المذهب الحنبلي. ومن المؤكد أنه اجتهد على أصول مذهب أحمد، وعلى طريقة أستاذه ابن تيمية، ولكنه كان صاحب منهج واضح في الأخذ من الكتاب والسنة، لا يتقيد إلا بهما، يخالف من خالف، ويوافق من وافق، لا يتبع إلا الدليل الشرعي. ويشهد ببلوغه مرتبة الاجتهاد:
(1) شهادات المترجمين له، كابن رجب، وابن كثير، وابن حجر.
(2) مصنفاته في الفقه وأصوله، ومنهجه المتميز فيها، وتفرده بالاختيارات الفقهية. فلم يكن مقلدًا لمذهبه الحنبلي، لا في الأصول، ولا في الفروع. وما وافق من ذلك، فإنما كان عن توافق في الاجتهاد والنظر، وليس تقليدًا لمن سبق.
(3) ما أثبته الباحثون المعاصرون في الدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية عن جوانب شخصية ابن القيم، فهو يعد من أكثر العلماء دراسة في جامعاتنا، وتأثيرًا في حياتنا.
وشهد لابن القيم ببلوغ مرتبة الاجتهاد المطلق: المتقدمون والمتأخرون من أنصاره، والمنصفون من خصومه، ولقد حمل ابن القيم علم الاجتهاد المطلق في عصر التقليد المطلق. يُخَرِّج ويختار غير مقيد إلا بأصول أحمد وأدلته في الجملة. فمتحَ من المعين الذي متحَ منه أحمد نفسه. ووصل إلى نتائج تعد جديدة على الفقه المذهبي. كمسألة الحلف بالطلاق، ومسألة إرداف الطلاق، وتعليقه، وحكم طلاق الغضبان، وطلاق السكران.. وغيره كثير. وكان لهذا الاجتهاد تأثير كبير في واقع الناس، امتد إلى قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في كثير من الأقطار الإسلامية.
الاجتهاد المقاصدي عند ابن القيم:
يعد الإمام ابن قيم الجوزية أحد رواد الاجتهاد المقاصدي وبناته تطبيقًا، لا تنظيرًا؛ يظهر ذلك في اجتهاداته الجريئة التي خالف فيها بعض فقهاء عصره، وكان موفقًا في علاج مشكلات عصره التي عجز المقلدون عن علاجها، متوافقًا مع مقاصد الشارع في بناء الأسرة والمجتمع. معرضًا عن التنافر الذي أحدثه بعض الاجتهادات بين الفتوى والمصلحة، والشقاق بين القضاء ومصالح الناس.
أبرز ابن القيم مقاصد الشريعة، وبنى الأحكام عليها، فالاختيار والترجيح في مسائل الخلاف يقوم عنده على هذه المقاصد، وظهر ذلك جليًا في كل الأحكام التي درسها تقريبًا، فهو مشغول دائمًا بكشف علل التشريع وأسراره وحكمه، وربط الأحكام الشرعية بالمصالح والمنافع، وهو قدير بكشف ذلك بما له من علم واسع بالشريعة ونصوصها، ودراسة معمقة لأصولها في مواردها ومصادرها. ويظهر ذلك في دراسة للأصول، بجعل المصلحة والمفسدة دليلا للاستنباط والترجيح. وفي دراسة للفروع يجعل الحكم على الفروع والنازلة قائمًا على ما تؤول إليه من مصلحة أو مفسدة.
وتعليل ابن القيم للأحكام يؤدي به دائمًا إلى البحث عن مقاصدها، أو الكشف عنها؛ فكل فقهه تعليل للأحكام، وكشف عن مقاصدها. وبذلك تميز فقهه. فما الفقه إلا التعليل. ولولا تعليل النصوص، ونقل علة الأصل إلى الفرع، والربط بين النصوص باجتماع عللها المستنبطة، لولا ذلك لما فتحت عين الفقه، ولا ثرَّ نبعه.
ولا شك أن اتجاه ابن القيم إلى الإصلاح والتجديد هو الذي أدى به إلى المقاصدية في الاجتهاد- ويتضح اهتمام ابن القيم بالمقاصد الشرعية في فقهه جليًا في عناية بالتعليل وأساليبه في الكتاب والسنة، ومناقشة منكريه والرد عليهم، وإبراز أسرار الشريعة وحكمها، وإدراج المقاصد في أدلة الأحكام كالقياس، والاستصلاح، والعرف، وسد الذرائع، وتقديم المناسب لمقاصد الشارع عند التعارض، ومراعاة المقاصد في استنباط الأحكام، والعناية بمقاصد المكلفين، وربط القواعد الفقهية بالمقاصد والمصالح، وإبطال الحيل وعدم إنفاذها؛ لمنافاتها للمقاصد والمصالح؛ وطعنها في حكمة الشريعة وصلاحها. والاعتداد بالاستحسان الذي هو العدول عن الحكم في مسألة بما حكم به في نظائرها؛ من أجل مصلحة جزئية مستثناة، والبحث عن الحكمة التشريعية التي تجعل النص موافقًا للقياس، وليس مخالفًا له.
ولا أرى أن ابن القيم ينحو إلى جعل المقاصد علمًا مستقلا، ولكنه يبثه في جميع الأدلة الفقهية الأصلية والتابعة. ويظهر هذا في عمله نظرًا وتطبيقًا. فالمقصد عند ابن القيم هو علة الحكم التي يكشف عنها الفقيه، ويمكن أن يُعديها إلى نظائره، ويعطيها الحكم نفسه لاجتماعها في علة الحكم، أي حكمته. وكل حكم جزئي خالف نظائره، فلحكمة خاصة به.
وأثمر منهج ابن القيم في الاجتهاد المقاصدي عمَّا يلي:
1. أن المقاصد وإن كانت مدرجة في الأصول؛ إلا إنها تعد من أدوات المجتهد المتقدم في النظر بأعماق الشريعة. فأفادت فقهه في الوصول إلى القطع واليقين. وفي الوصول بالتشريع من صلاح الفرد إلى صلاح الأمة.
2. نجح ابن القيم في وضع قواعد قطعية فقهية أصولية، كما نجح في حسم الخلاف تأسيسًا على هذه القطعيات المقاصدية. فوضع قاعدة تيسير مصالح المسلمين، ومضمونها: "أن كل ما لا غنى عنه للأمة من معاملات عرفية وتصرفات وعقود، لم ينكرها النبيïپ² ولا الصحابة- فهي من الدين".
كما وضع قاعدة للتفريق بين الوسائل والمقاصد، تبنى على أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فقال:
"إذا سقط المقصود، لم يبقَ للوسيلة معنى".
ويذهب بنا هذا إلى التأكيد على أن فقه ابن القيم مبني على التيسير ورفع الحرج والوسطية، والبعد عن الشذوذ والإغراب والافتراضات. وفي هذا أبلغ رد على من توهم تشدد ابن القيم وشيخه في الفقه وغيره، وأشاع عنهما هذا الأمر، حتى إن اسميهما قرنا بالغلاة في عصرنا، ووقر في ظن كثيرين أن علمهما طريق إلى التشدد، وأن المتشددين المعاصرين إفراز لمنهجهما.
اختيارات ابن القيم في الزواج والطلاق:
تبين أن العوامل ذات التأثير في اختياراته هي:
• شخصيته العلمية، وملكاته النفسية: يميل للهدوء، ويختار الوسط، ويتوخى المرونة، يساعده قوة الحافظة، والإحاطة بعلوم الاجتهاد وأدواته.
• المذهب الحنبلي: تعلم في مدارس الحنابلة الحرية الفكرية، والأصالة العلمية، والاجتهاد الفقهي، والتجرد الغالب.
• تلمذته لابن تيمية: حيث أخذ منهجه في التجديد الديني، والإحياء السلفي، والإصلاح الاجتماعي، والجهاد العلمي.
• الحالة العلمية: إذ انتشر الجمود والتقليد، والغلو والانحراف. فقاوم كل هذا، واستعان بدراسته للمذاهب القائمة دراسة فاحصة- على الإصلاح.
• الحالة الاجتماعية: كان ابن القيم منشغلا بعلاج أدواء مجتمعه، حريصًا على أن يجد الناس في الشريعة رفعًا للحرج، وحلا للمشكلات، وتحصيلا للمصالح، ودرءًا للمفاسد.
• نشأته ببلاد الشام: حيث يسود المذهب الحنبلي، وتنتشر مدارسه.
وتظهر الدراسة أن ما كتب ابن القيم في فقه الأحوال الشخصية عمومًا نحو ربع مجموع ما كتبه في الفقه، وهذه نسبة كبيرة؛ إذا علمنا أن فقه العبادات يحتل نصف الفقه الإسلامي عادةً. حيث تشغل العبادات نحو نصف كتب الفقه المبسوطة، على حين لا تحتل موضوعات الأحوال الشخصية إلا سدسها فقط تقريبًا؛ وهذا يعني مزيد عناية من ابن القيم بأحكام الزواج والطلاق وبناء الأسرة والمجتمع المسلم.
وقد بلغت اختيارات ابن القيم في النكاح والطلاق أربعة وعشرين ومئتي اختيار، تفصيلها كالتالي:
1- عدد اختيارات ابن القيم في النكاح خمسة وتسعون اختيارًا.
منها اثنان وعشرون اختيارًا في موانع النكاح، وخمسة اختيارات في الشروط في النكاح، واثنا عشر اختيارًا في عقد النكاح، واثنا عشر اختيارًا في الولاية، وعشرون اختيارًا في المهور، وثمانية اختيارات في الأنكحة المنهي عنها، وستة عشر اختيارًا في عشرة النساء.
2- عدد اختيارات ابن القيم في الطلاق خمسة وستون اختيارًا.
منها اثنا عشر اختيارًا في النية والشهادة والكتابة في الطلاق، وثمانية اختيارات في الشك في الطلاق، وسبعة اختيارات في التوكيل بالطلاق، وستة اختيارات في الطلاق البدعي، وتسعة عشر اختيارًا في الحلف بالطلاق وتعليقه، وثلاثة عشر اختيارًا في أنواع من الطلاق بالنسبة إلى حال المطلق.
3- عدد اختيارات ابن القيم في الفسوخ، والعدد، والخلع، والرجعة أربعةً وستون اختيارًا.
منها تسعة عشر اختيارًا في الفسخ، وثلاثة عشر اختيارًا في الخلع، وستة وعشرين اختيارًا في العدد، وستة اختيارات في الرجعة.
4- عدد الاختيارات التي وافق ابن القيم فيها الجمهور مئة اختيار.
وعدد الاختيارات التي خالف ابن القيم فيها الجمهور خمسة وتسعون اختيارًا، منها ثمانية وعشرون اختيارًا مفردات.
واختلف قول ابن القيم في ثلاثة اختيارات.
والباقي وهو ستة وعشرون اختيارًا، لا قول للجمهور فيها، وليست من المفردات.
ومعنى هذا أن ابن القيم وافق الجمهور أكثر مما خالفه. وأن اختياراته- في الغالب- مؤتلفة متسقة، غير متناقضة، ولا متعارضة، ولا متباعدة المأخذ. بل ترجع إلى منهج واحد ثابت القواعد، ومنطلقات محددة، لا تتبدل، ولا تتغير، تحكم جميع اختياراته؛ فيتسق أولها وآخرها، وتتعاضد.
5- عدد الاختيارات التي وافق فيها ابن القيم الأئمة الأربعة سبعة وثلاثون اختيارًا.
وعدد الاختيارات التي خالف ابن القيم فيها الأئمة الأربعة ثلاثة وأربعون اختيارًا.
وأربعة اختيارات مسائل متولدة، ليست في المذاهب.
والاختيارات الباقية هي غير ذلك، سواء ما اختلف فيه قوله (وهو ثلاثة اختيارات)، أو ما ليس للأئمة الأربعة اجتماع عليه، وهو سبعة وثلاثون ومئة اختيار.
ومعنى هذا أن ابن القيم خالف الأئمة الأربعة أكثر مما وافقهم. وتفسير ذلك: أنه اهتم بمسائل معينة له فيها اختيار مخالف لهم، دون المسائل الموافقة التي لا يتسع فيها الخلاف.
6- عدد الاختيارات التي وافق ابن القيم فيها المذهب الحنبلي واحد وعشرون ومئة اختيار.
وعدد الاختيارات التي خالف ابن القيم فيها المذهب الحنبلي ستة وتسعون اختيارًا.
وقد قلنا: إن المسائل التي خالف فيها قوله ثلاثة، والمسائل المتولدة التي ليست في المذاهب أربعة.
ومعنى هذا أنه وافق المذهب الحنبلي أكثر مما خالفه. وإن كان النسبة التي خالف فيها المذهب الحنبلي كبيرة.
7- عدد الاختيارات التي وافق ابن القيم فيها ابن تيمية ثمانية وخمسون ومئة اختيار.
والاختيارات التي تردد ابن تيمية فيها مسألتان اثنتان.
وخالف ابن القيم شيخه في عشر مسائل فقط.
والباقي أربعة وخمسون اختيارًا، مسائل لم يتبين لي فيها قول ابن تيمية، عدا مسألة واحدة مما اختلف فيه قول ابن القيم، لم أقف على قول لابن تيمية فيها.
ومعنى هذا أن ابن القيم لم يخالف شيخه ابن تيمية في مسائل الزواج والطلاق خاصة إلا قليلا، وأن ابن القيم درس مسائل وصلتنا لا نجد شيخه درسها؛ فهو عالم أصيل، له فكره ومنهجه، وليس مجرد صدىً لشيخه.
8- عدد الاختيارات التي وافق ابن القيم فيها ابن حزم أربعة وستون اختيارًا.
وعدد الاختيارات التي خالف ابن القيم فيها ابن حزم ثلاثة وثمانون اختيارًا.
وتردد ابن حزم في مسألة واحدة.
والباقي غير ذلك، وهو ثلاثة وسبعون اختيارًا. بالإضافة إلى ثلاثة الاختيارات التي اختلف فيها قول ابن القيم.
ومعنى هذا أن ابن القيم اهتم كثيرًا بفقه ابن حزم؛ واستفاد منه استفادة واضحة، وإن كان خالفه أكثر مما وافقه.
ويجدر بنا أن نقول: إن جميع هذه النتائج- سواء ما وافق الجمهور، أو خالفه، وما وافق المذاهب الأربعة، أو خالفها، وما وافق المذهب الحنبلي، أو خالفه، وما وافق ابن تيمية، أو خالفه، وما وافق ابن حزم، أو خالفه... كل ذلك ليس له دلالة مطلقة، وإنما دلالته تقتصر على الموضوع الذي درسته، وهو اختيارات ابن القيم في مسائل الزواج والطلاق.
وللوقوف على نتائج عامة، وإحصاءات ذات دلالة مطلقة يجب إجراء حصر لاختيارات ابن القيم في جميع فقهه، وفي كل الفروع. ودراستنا إنما تناولت جانبًا من ذلك.
9- عدد الاختيارات التي ذكرها ابن القيم موافقا فيها المذهب الجعفري أربعة اختيارات. وجميعها في الطلاق، في طلاق السكران، والطلاق البدعي، والطلاق المعلق بشرط، والطلاق في العدة.
10- عدد الاختيارات التي خالف الباحث فيها ابن القيم خمسة وثلاثون اختيارًا، ووافقته في الباقي، وعدده تسعة وثمانون ومئة اختيار. (ويخرج من ذلك ثلاثة الاختيارات التي اختلف فيها قول ابن القيم).
ومعنى هذا أنني خالفت ابن القيم في ستة عشر بالمئة من اختياراته تقريبًا. ووافقته في أربعة وثمانين بالمئة من اختياراته تقريبًا.
11- وافق القانون المصري ابن القيم في عشرين مسألة.
وخالفه في ثماني مسائل.
12- وافق القانون الكويتي ابن القيم في خمس وخمسين مسألة.
وخالفه في خمس عشرة مسألة.
13- وافق قانون الإمارات ابن القيم في اثنتين وخمسين مسألة.
وخالفه في سبع عشرة مسألة.
14- وافق مشروع القانون المصري السوري الموحد ابن القيم في إحدى وخمسين مسألة.
وخالفه في إحدى عشرة مسألة.
15- وافق القانون الموحد لدول مجلس التعاون الخليجي ابن القيم في ثلاث وأربعين مسألة.
وخالفه في تسع مسائل.
16- وافق مشروع القانون العربي الموحد ابن القيم في سبع وأربعين مسألة.
وخالفه في اثنتي عشرة مسألة.
والمستفاد من هذا: أن هذه القوانين وافقت ابن القيم كثيرًا، وخالفته قليلا. مما يدل على أن نظره كان في الغالب صائبًا، موافقا لمصالح الأمة المتجددة.
17- وافق ابنُ حجر ابنَ القيم في ثلاث مسائل. وخالفه في مسألة واحدة.
18- وافق ابنُ المطهر ابن القيم في تسع وعشرين مسألة.
وخالفه في خمس عشرة مسألة.
19- وافق د.عبد الكريم زيدان ابن القيم في سبع وعشرين مسألة.
وخالفه في أحد عشر مسألة.
20- وافق د.محمد إبراهيم الحفناوي ابن القيم في أربع وعشرين مسألة.
وخالفه في سبع مسائل.
21- وافق الشوكاني ابن القيم في تسع عشرة مسألة.
وخالفه في خمس مسائل.
22- وافق سيد سابق ابن القيم في ثلاث وعشرين مسألة.
23- وافق صديق حسن خان ابن القيم في خمس عشرة مسألة.
وخالفه في خمس مسائل.
24- وافق د.محمد بكر إسماعيل ابن القيم في أربع عشرة مسألة.
وخالفه في مسألتين.
25- وافق محمد أبو زهرة ابن القيم في ثلاث عشرة مسألة.
وخالفه في مسألة واحدة.
26- وافق د.محمد عمر عتين ابن القيم في اثنتي عشرة مسألة.
وخالفه في مسألتين اثنتين.
27- وافق الصنعاني ابن القيم في عشر مسائل.
وخالفه في مسألتين اثنتين.
28- وافق عبد الرحمن عبد الخالق ابن القيم في ست مسائل.
وخالفه في مسألة واحدة.
29- وافق د.محمود الطنطاوي ابن القيم في خمس مسائل.
وخالفه في مسألتين اثنتين.
30- وافق جاد الحق علي جاد الحق ابن القيم في خمس مسائل.
31- وافق أحمد شاكر ابن القيم في أربع مسائل.
وخالفه في مسألة واحدة.
32- وافق الألباني ابن القيم في أربع مسائل، وخالفه في مسألة.
وهذا يعني أن اللاحقين استفادوا كثيرًا من ابن القيم، ووافقوه أكثر مما خالفوه. ودلالة هذا أن اختياراته الفقهية صالحة في جملتها لأن نستفيد منها في حياتنا المعاصرة.
والحكم العام بعد هذا العرض: أن ابن القيم من العلماء الكبار، فيه أدوات الاجتهاد كاملة، وأكثر المسائل التي درسها محررة، واختياراته- في الغالب- قوية متسعة؛ حتى إن هذه الاختيارات يدوي صداها إلى الآن في أرجاء العالم الإسلامي؛ وتؤثر في صياغة قوانين الأحوال الشخصية فيه.
المقترحات:
1. يقترح الباحث دراسة اختيارات ابن القيم في الجوانب التي لم تدرس فيها، وذلك للوقوف على جميع اختياراته في الفقه، مما يساعد على إصدار أحكام نهائية عن موافقته ومخالفته للجمهور، والمذاهب الأربعة، والشيعة، والظاهرية، والمذهب الحنبلي، وشيخه ابن تيمية، وغير ذلك.
2. أظهرت هذه الدراسة أن قوانين الأحوال الشخصية في بلادنا جزئية قاصرة، يجري عليها التعديل والترقيع، والتغيير والتبديل؛ لذا نحتاج إلى قوانين مفصلة، تبين الزواج الصحيح من الفاسد، وأنواع الأنكحة الفاسدة بالشرع، وحكم الزواج العرفي، وتمييزه عن النكاح السري، وأحكام الطلاق والخلع والإيلاء والظهار والعدد والنفقات والحضانة والرضاعة.... إلخ. مع الاستفادة من القوانين المفصلة المعمول بها كالقانون الكويتي، والقانون الإماراتي، ومشاريع القوانين التي صدرت ولم يعمل بها، مثل: مشروع القانون المصري السوري الموحد، ومشروع قانون وزراء العدل العرب، ومشروع قانون مجلس التعاون الخليجي. والاستفادة أيضًا من المشروع المرفق بهذا البحث، والمستخلص من اختيارات ابن القيم وما رجَّحه الباحث.
3. بيَّن البحث أن القانون المصري لا يزال يخلو من ذكر حكم رد الزوجة بالعيب، جريًا على المذهب الحنفي، فالحنفية وإن كانوا يجعلون للمرأة طلب التفريق لعيب الرجل، لم يجعلوا للرجل في المقابل طلب التفريق لعيب المرأة. وهذا قصور في التقنين يجب تداركه.
وقد تقدمت القوانين في بعض الدول الإسلامية للأخذ باختيار ابن القيم في الفسخ بالعيوب، وعلى هذا مشروع القانون المصري السوري الموحد الذي كان مقررًا أن يُطبق في مصر وسوريا إبان الوحدة. وعطل تطبيقه الانفصالُ السياسي.
4. يُقترح أن ينص القانون المصري على جواز المهر معجلا ومؤجلا، ولا تسمع دعوى المرأة بالمؤخر إلا بموت أو فرقة. خلافًا لما عليه طبقًا للراجح من مذهب أبي حنيفة؛ وذلك لأن تنجيز المهر المؤخر للمرأة فيه ظلم للرجل، وإخلال بالعقد، ومخالفة للعرف. وما كان هذا في عهد الصحابة، ولا قضوا به.
5. تعديل المادة القانونية عن كنايات الطلاق من القانون رقم (25) لسنة 1929.
والمادة المقترحة نصها:
"لا يقع الطلاق إلا بصريح لفظ الطلاق وما يتصرف منه، ولا يقع بغيره من ألفاظ، كالسراح، والفراق، وسائر الكنايات، سواء نوى بها الطلاق، أو لم ينوِ".
6. التوسع في دراسة المقاصد عند ابن القيم دراسة نظرية وتطبيقية. ونحن بحاجة إلى فقه مقاصدي، يعالج مشكلات العصر، ويبرز حيوية الشريعة.
وأكيد أن فهم الأحكام منفصل بعضها عن بعض، طريقه الفروع المستنبطة من الأصول الفقهية النظرية. وهذا منهج تجزيئي.
وأما معالجة المشكلات التي تواجهنا في حياتنا المعاصرة، فيتطلب منهجًا تجميعيًا، ينظر في الكليات والأهداف العامة للشريعة ومقاصدها، ويقدم الحلول الجماعية.
وهذا واضح أكثر في قضايا الأحوال الشخصية التي لا تشرع للفرد فقط، ولكنها تشرع للأسرة والعائلة والمجتمع.
ولعل هذا ما ساق ابن القيم سوقًا طبيعيًا إلى اعتماد المقاصد للشريعة في دراسة أحكام الشريعة في الأسرة وأحوالها. وذلك بوضعها نسقًا كليًا مترابطًا، لا على أنها وحدات منعزلة بعضها عن بعض.
7. أدعو إلى تجديد أصول الفقه بما يوافق منهج ابن القيم الذي كشف عنه البحث، وهذا يعني عودة إلى فطرية الأصول الفقهية الإسلامية، بعيدًا عن التأثر بالمنطق اليوناني، والأخذ بها على ما كان يجريها الصحابة بلا تقعيد ولا تعقيد. والانطلاق من حكمة التشريع ومقاصده وأسراره في تحقيق المصالح ودفع المفاسد؛ فالمصلحة هي محور مصادر الأحكام التي قننها فقهاؤنا وأصوليونا، فكلها مبني على المصلحة والنظر في المآلات. وهذا واضح تمامًا في الاستحسان، والاستصلاح، وسد الذرائع، وإن كان أقل وضوحًا عندهم في القياس.
8. وعلى طريق تجديد الأصول وبناء الاستدلال على مقاصد الشريعة ودلالات النصوص وترك الإسراف في القياس، نحتاج إلى دراسات عن العلاقة بين العلة والحكمة في القياس الفقهي، وتعليل الأحكام بهما. واختلاف الأصوليين في ذلك. وخصوصًا دراسة بناء الأحكام على الحكمة، وتعدية القياس بها. وجعل الحِكَم هي مناطات الأحكام، وذلك عودة إلى فطرية الشريعة وبساطة الأصول، وبعدها عن التكلف والتعقيد والتقعيد النظري.
9. النص في القانون على تحريم نكاح المتعة وبطلانه، فهو من أنكحة الجاهلية التي استقرت الشريعة الإسلامية على تحريمه تحريم بتات إلى يوم القيامة، وإن كانت فرقة الشيعة الإمامية تبيحه، إلا أنه لا يجري عليه إلا أراذل الناس. ولمثل هذا النكاح انتشار واسع في البلاد الغربية باسم زواج التجربة، وقد ظهرت له نابتة في مصر تدعي حله. وهو نكاح مناقض للأساس الاجتماعي الذي بني عليه النكاح في الإسلام، وهو تكوين الأسرة ورعاية الأبناء وتكريم المرأة زوجة وأمًا، وإعداد النشء لمستقبل ناهض. ونكاح المتعة لا يهدف إلا إرواء الغريزة دون نظام يصون المجتمع، وهو يهدد النكاح الشرعي بالخطر، إن فُتح له المجال.
10. أن يتضمن القانون نصًا صريحًا على بطلان النكاح السري الذي صار ظاهرة خطيرة تهدد مجتمعنا. ونجد في كلام ابن القيم ما يشمل ذلك قال:
"إنه- أي الشارع- أبطل أنواعًا من النكاح الذي يتراضى به الزوجان؛ سدًا لذريعة الزنا، فمنها: النكاح بلا ولي؛ فإنه أبطله سدًا لذريعة الزنا؛ فإن الزاني لا يعجز أن يقول للمرأة: "أنكحيني نفسك بعشرة دراهم"، ويشهد عليها رجلين من أصحابه أو غيرهم. فمنعها من ذلك سدًا لذريعة الزنا... ولم يُبح إلا عقدًا مؤبدًا يقصد فيه كل من الزوجين المقام مع صاحبه، ويكون بإذن الولي، وحضور الشاهدين، أو ما يقوم مقامهما من الإعلان" .
11. كشف البحث عن علاقات تأثير وتأثر بين الفقه السني، وفقه أهل البيت. والدراسة المعمقة لهذا الجانب يمكن أن تكشف عن أبعاد أعمق؛ تسهم في إنضاج دعوات التقريب بين المذاهب الإسلامية التي يتردد صداها في أرجاء عالمنا الإسلامي.
12. كشف البحث عن تناقض في القانون الإماراتي، فقال في موضع بوجوب مهر المثل في النكاح الفاسد، وفي موضع آخر قال بوجوب الأقل من المسمى ومهر المثل. والواجب إزالة هذا التناقض.
13. كشف البحث عن خطأ في كتاب "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان". حين ذكر أن مذهب أبي حنيفة: أن الزوج لا يملك إبانة زوجته بطلقة. والصواب أن مذهبه ملك الزوج إبانتها بطلقة. وقد رجحت أن هذا خطأ من النساخ، فات الشيخ محمد حامد الفقي تداركه في تحقيقه للكتاب، كما فات جميع من حققوا الكتاب بعده، وهم كثير!
د.محمود النجيري
التعديل الأخير: