رد: ندوة: المبالغة في "التقعيد" أو "التقصيد"
السلام عليكم
بارك الله فيكم.
،،
كلمة التقصيد تكلم عنها الدكتور عبد الحميد العلمي في كتابه منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي ( ص 311 ) وما بعدها وبسط الكلام فيها وذكر استعمالات الشاطبي لها .
قال الدكتور فريد الأنصاري في كتابه "المصطلح الأصولي عند الشاطبي" هامش[1] ص(263، 264):
((فثبت بذلك كله أن الأصول التي هي (أصول الفقه) عند الشاطبي، إنما هي الكليات سواء كانت كليات بالذات، أو بالمعنى. ومن هنا فلا وجه لدخول الأدلة التفصيلية الظنية فيها. ومن هنا أيضًا كان التوجيه الذي حاول الدكتور عبدالحميد العلمي أن يصور به مفهوم (الأصول) عند أبي إسحاق غير سليم؛ نظرًا لأنه أدخل عليه في ذلك (الأدلة الخاصة)، وإن ذكر أنه يفرق بينهما قال: "ويبدو لي (...) أنه عالج إشكال القطع والظن في القضايا الأصولية بوعي ناضج (...) فعمد إلى التفريق بين الأصول الشرعية ككليات عامة، وبين الأدلة الخاصة، التي تجري في مواطن معينة، ليجزم بأنه لا سبيل إلى احتمال تطرق الظن إلى الأولى، وإمكان دخوله في الثانية. كما عمل على إكساب هذه الأخيرة صفة القطعية بردها إلى الكلمات الشرعية، ونظمها في سلك الاستقراءات المعتبرة. (...) حيث لم يعمد إلى إخراج ما كان من الأصول ظنيًّا كما فعل الباقلاني، وابن حزم، ولم يعتذر عن إدخال ما كان منها غير قطعي كالجويني. ولم يتراجع عن القول بقطعيتها كما فعل الشيخ ابن عاشور" منهج الدرس الدلالي: ص(37، 38). قلت: لو فعل أبو إسحاق ذلك فعلًا لكان متهافتًا ومتناقضًا؛ فإدخال الأدلة الخاصة في الأصول من باب (نظمها في سلك الاستقراءات المعتبرة) كما عبر العلمي يؤدي إلى أحد أمرين: إما أن نعتبر أن كل ما كان ذلك شأنه هو من الأصول، وإذن يدخل فيه الفقه كله، أليس كل الفروع الفقهية داخلة بهذا المنطق في الأصول؟ بلى! لكن أبا إسحاق كان حريصًا أشد الحرص كما رأيت على التفريق بينهما؛ لأن عدم الفصل هو "من باب خلط بعض العلوم ببعض" على حد تعبير: م: (1/ 35).
وقد رأيت -بمتن الدراسة- كيف حرص على تمييز الأصول من الفروع بما يكفي ويشفي.
وإما أن ذلك -وهو لازم عن الأول- يجعل موقف الشاطبي متناقضًا؛ لأنه يتحتم عليه حينئذ القول بظنية الأصول؛ إذ القول بقطعيتها بناء على التوجيه الذي ساقه الدكتور العلمي إن هو إلا تعسف في التأويل والتخريج، فكيف يجمع بين القطعية وكونه "لم يعمد إلى إخراج ما كان من الأصول ظنيًّا كما فعل الباقلاني وابن حزم" على حد رأي الدكتور العلمي؟ بل أخرجه إخراجًا. ألم تر أنه رد على المازري بأن "إعمال الأدلة القطعية، أو الظنية، إذا كان متوقفًا على تلك القوانين التي هي أصول الفقه؛ فلا يمكن الاستدلال بها إلا بعد عرضها عليها، واختبارها بها. ولزم أن تكون مثلها، بل أقوى منها؛ لأنك أقمتها مقام الحاكم على الأدلة، بحيث تطرح إذا لم تجر على مقتضى تلك القوانين! فكيف يصح أن تجعل الظنيات قوانين لغيرها؟! " م: (1/ 33). ثم قال بعد مؤكدًا ودافعًا كل احتمال من جنس ما قال به الدكتور العلمي: "ولا حجة في كونها غير مرادة لأنفسها؛ حتى يُستهان بطلب القطع فيها، فإنها حاكمة على غيرها، فلا بد من الثقة بها في رتبتها، وحينئذ يصلح أن تجعل قوانين! " م: (1/ 33).
أيضًا هذا كافيًا في إطراح كل ظني من الأصول عنده، ورفض دخوله فيه بأي وجه من الوجوه الممكنة؟ ولعل الدكتور العلمي قد وهم في فهم نحو قوله: "الظني الراجع إلى أصل قطعي (...) -ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار)- فإنه داخل بالمعنى تحت أصل قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها، في وقائع وجزئيات، وقواعد كليات. (...) فهو معنى في غاية العموم في الشريعة، لا مراء فيه ولا شك" م: (3/ 16، 17). والشاطبي -كما تبين في شرح هذا النص بالمتن مفصلًا- لا يقصد إدخال الحديث بذاته في الأصول، وإنما (معناه) -كما عبر بلفظه- أي رفع الضرر بإطلاق؛ لأنه هو المعنى الكلي، فهو من الكليات المعنوية لا الذاتية، كما تبين بالمتن. ومن هنا كان إعمال الحديث باعتباره (لفظًا)، أي خبر آحاد؛ إنما هو من قبيل الفقه لا الأصول، بينما إعماله من حيث هو قاعدة استقرائية، وكلية معنوية غير راجعة إلى هذا اللفظ بالذات وإن اتفقت معه، وإنما باعتبارها راجعة إلى معنى رفع الضرر في الشريعة مطلقًا؛ كان ذلك من الأصول. فلا وجه إذن -لمن فهم هذا الفرق الدقيق- لإدخال هذا في ذاك. ويكون الدخول الذي تحدث عنه الشاطبي للحديث في الأصول إنما هو بالمعنى، لا من حيث هو دليل خاص كما توهم ذلك الدكتور العلمي.)) انتهى.
والله أعلم.