يوسف بن سعيد الخطيب
:: متابع ::
- إنضم
- 12 مارس 2008
- المشاركات
- 39
- التخصص
- القضاء الشرعي
- المدينة
- عمان
- المذهب الفقهي
- المالكي
الانتصار لأهل المدينة
قال أبو عبد الله محمد بن عمر رحمه الله: فإن قال لنا قائل: فإذ أنت قد ذكرت فساد هذه المسائل عن الشافعي، وعن أبي حنيفة رحمهما الله، وصححت المسائل التي ذهب إليها مالك رحمه الله وأهل المدينة، وثبتت صحة براءتهم، وصحة ما نقلوه ، أقلدت دينك مالكاً أم كيف الأمر؟ قلت: ما أتبع مالكاً ولا غيره، ولا أتبع إلا ما فرض الله علي وعلى جميع الناس اتباعه، وإنما أتبع كتاب الله تعالى ومحمداً رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع المؤمنون عليه.
قال الله عز وجل: (اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم) وقال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وقال عز وجل: (من يُطع الرسول فقد أطاع الله) وقال عز وجل: (ومن يُطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون) وقال الله عز وجل: ( فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) وقال الله عز وجل: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) وقال عز وجل: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) وقال عز وجل: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) وقال عز وجل: ( فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله وزالرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا) وقال عز وجل: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) وقال عز وجل: (.... ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). فهذا الذي أتبع، وبما قدمت ذكره أقتدي، وبه أدين، لا أتخذ من دونه آلهة، ولا رسوله، ولا المؤمنون وليجة، قائدنا كتاب الله، وهادينا إليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعواننا وأعلامنا على ذلك وإلى ذلك المؤمنون جملتهم، ولكن مالكاً رحمه الله رجلٌ أمسك بحبل الله من أمر من مضى قبله، فمن لنا في اتباعهم الهدى لاتباعهم من قبلهم، ممن أدركوا قرناً فقرناً، حتى انتهى ذلك إلى من عاين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاينه واخذ عنه بداره التي اختارها الله لهجرته وسنته، فكان القوم على ميراثٍ من الرسول صلى الله عليه وسلم، في قرب العهد الذي أدركه مالك رحمه الله، فرأيت مالكاً رحمه الله قد أتقن الحفظ، وأحسن العناية بما حكى، فأتقن الحكاية، ودلنا فيها على محاسبة نفسه واستقصائه عليها بين من قبله ومن بعده، متى أراد أن يؤدي إلى هؤلاء عن أولئك، فروى الاحاديث فساق في الرواية عن أهل العلم ما تتحا (كذا هي) به الرجال، فحمل العلم ونقله، يجهد أن لا يأخذ إلا عن أهله، وقصد إلى ذلك يحتاج إليه دون ما يشغل عما ينتفع به ، ولقد سئل عن حديث، فـأبى أن يتحدث به قال: سمعت عن ابن شهاب رحمه الله مثل هذا الكتاب لكتابه في المناسك، وهو من أكبر كتبه، ما تحدثت منه بشيء، وكان – فيما زعموا ـــ يقول: إنما نتكلم فيما نرجو بركته، ولقد وضع كتابه (الموطأ ) وإن فيها لأحاديث كثيرة، فمات عنها وهي أقل، يلخصها عاماً عاماً، ويتركها شيئاً شيئاَ بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين، وأمثل في جمل الآثار والدين، فهذا علته في الأحاديث: حكى ما مضى من السنن والعمل ببلدهم بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ثبت تفضيله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكاه حكايات مختلفات، ينسب كل نوع بنسبته، بعد ما علم أن بعضها أقوى من بعض، فلا يرفع الأسفل إلى الأعلى، ولا يحط إليه الأعلى .
- فمن ذلك ما يقول فيه: السنة عندنا التي لا اختلاف فيها ولا شك .
- ومنه ما يقول: السنة مرسلة، لا يزيدها قوة ولا يدخل عليها وهناً.
- ومنه ما يقول: السنة عندنا. فيخبر أن السنة عندهم خاصة دون سائر أهل البلدان بلدان الإسلام، فيصف السنة على وجهها، ليجعل من بعده على مثل علمه في أمر من أدرك قبله، ثم يقول في أشياء لم يبلغ عنده أن تكون سنة، لأن السنة – عندهم – ما جرى عليه أمر بلدهم في القديم والحديث، لا أيعرف به أول حديث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنما هي الصورة التي حكيت عنه، واستغنى أن يحكي لحياتها بالعمل فينسبها على أقدارها مناسب آخر، فمتى ما يقول: الذي لم يزل عليه الأمر ببلدنا، كأنه عنى بعد افتراق البلدان.
- ومنه ما لم يبلغ ذلك فيقول: الأمر المجتمع عليه ببلدنا. والذي لا اختلاف فيه ولا شك ببلدنا، يعني فيمن أدركت.
- ومنه ما يقول: سمعت أهل العلم يقولون فيه: كذا وكذا.
- ومنه: ما يقول: سمعت بعض أهل العلم يقوله.
- ومنه ما يقول: الأمر – عندنا – حتى ينتهي إلى الأمر الضيق الذي قد يحدث في الناس ولم يعلم فيه شيئاً ماضياً فيقول: في رأيي، ولعل ذلك في كتابه لا يكون عشرين مسألة، فيفرق بين الرأي والحكاية، ولا يفعله إلا في امر يحتاج الناس إليه.
- وقد رأينا كتب أصحابه وسواه من نظرائه لم يبلغوا فيها هذا المبلغ، ولم يستقصوا فيها على أنفسهم هذا الاستقصاء، فاخترت لنفسي كتابه هذا الذي أدى فيه علم ما قبله من الرواية، والعمل بدار العمل والسنن، فهو الأصل الذي أذهب إليه، لأنه علم من قبل مالك رحمه الله فنسب إلى مالك، لأنه جمعه، فأولئك أتباع الجملة والجماعة، لا رجلاً منفرداً، ثم كانت له سوى هذه مسائل كثيرة جداً، استفتي فيها، وبحيث كثرت بطول زمانه ودوام فتياه، وكتبها أصحابه، يشتقها من هذه الأصول، ويبنيها عليها برأيه واجتهاده عند النازل إذا نزل إن شاء الله تعالى.
نجد الدلائل مع الشواهد على قوله من الكتاب والسنة والآثار عتيداً. فمن ذلك: أنه استفتي في رجل من أهل المدينة حلف في قمري (وهو من الفواخت، منسوب إلى طير قمر)، وهم يتخذونها للتصويت، فحلف الرجل بطلاق امرأته إن كان قمريه يسكت، ثم ندم الرجل، وخاف الحنث، وقال: هو يسكت، فقال مالك رحمه الله: إن كان مكثراً التصويت جداً فلا حنث عليه، لأن ذلك الذي أراد، وعنى، فنظرنا فيما قال: فوجدنا فاطمة بنت قيس رضي الله عنها تحكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها في أبي الجهم حين خطبها: إنه لا يضع عصاه عن أهله، وأبو الجهم قد يضعها، ولكنه كان يكثر ضرب النساء، فانظر جودة استنباطه، وصحيح فهمه، وموافقته المعنى فيه، ولم نجد ذلك عند غيره، لو سألهم سائل لطلقوا عليه وجهلوا المعنى.
وكان رحمه الله فيما زعموا لا يجيب حتى يطرق، ولا يتكلم حتى يبدأ بذكر الله، فأين هذا الفهم وصحة هذا الاستنباط ، وسرعة البديهة بعلم الحفيظة مما تقدم ذكره من مسائل الشافعي وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهما، ووضوح فسادها؟
والله تعالى أعلم بالصواب
نقلاً من كتاب الانتصار لأهل المدينة لابن الفخار رحمه الله
التعديل الأخير: